انتهت انتصارات إسرائيل عام 2000 عندما خرج الجيش الإسرائيلي مندحرا من الجنوب اللبناني أمام حزب الله ذلك لأن العدو الذي باتت تواجهه مختلف عن الأعداء القدامى الذين تمثلوا بالأنظمة، ولأن ترتيب أوضاعها العسكرية لا يتناسب مع نوعية الحرب التي يخوضها العدو المستجد؛ هذا فضلا عن أن النسيجين الاجتماعي والأخلاقي الإسرائيليين قد شهدا تدهورا واضحا يمهد للهزائم. ولهذا تجد نفسها الآن مهزومة للمرة الثانية في قطاع غزة، ولن يطول انتظارها لهزيمة جديدة بالأخص في الضفة الغربية.
رتبت إسرائيل جيشها بطريقة يبقى فيها أقوى الجيوش عسكريا في المنطقة العربية، وقادرا على خوض حروب خاطفة وسريعة ومدمرة. منذ البدء، عملت إسرائيل على استيراد السلاح المتطور ووجدت دائما من يزودها به، وعلى تصنيع مستلزماتها العسكرية وعلى رأسها الأسلحة النووية، فكانت قادرة على التفوق في الحروب التقليدية وإلحاق الهزائم بالجيوش العربية. وقد اتبعت إسرائيل سياسة الحرب الوقائية التي منعت العرب من تنمية قواهم العسكرية بطريقة متصاعدة وتطوير تكتيكاتهم العسكرية المتلائمة مع قدراتهم. لم تواجه إسرائيل تحديا نظاميا عربيا خطيرا إلا عام 1973، لكنها تمكنت من تغيير المسار بعد أيام من بداية الحرب.
لوحظ من خلال الحروب العربية-الإسرائيلية أن قدرة الجيوش العربية، وربما رغبتها في، على الصمود ضعيفة، وأن العديد من القطاعات العسكرية العربية كانت تولي الأدبار. الأسباب وراء ذلك كثيرة وهي خارج عن موضوعنا الآن، لكن تكفي الإشارة هنا أنه يبدو أن العربي الذي يعمل في جيش نظامي يختلف عن العربي الذي يلتحق بحركة مقاومة. ربما يكون أحيانا ذات الشخص، وذلك وفق التجربة الفلسطينية، لكن معنوياته وقدراته النفسية والذهنية تختلف حسب الموقع. إنه مترهل وضعيف عندما يكون ابن الجهاز الأمني، وقوي عندما يكون ابن تنظيم ويعمل سرا.
هذه هي النقطة الهامة التي تؤثر في سير المعارك بعد عام 1982 بين العرب وإسرائيل. انتقلت المعركة من بين أيدي الجيوش العربية إلى أيدي تنظيمات المقاومة وبالتحديد حزب الله وحماس والجهاد الإسلامي، وفصائل فلسطينية أخرى، فظهر مقاتلون من نوع جديد يخوضون نوعا جديدا من المعارك. تقوم هذه التنظيمات على أسس عقائدية ترفض التفريط بأي جزء من الأرض العربية والإسلامية، وتعتبر التنازل من الناحية الشرعية حراما يؤدي إلى الخسران في الدنيا والآخرة، وهي لا تضم في صفوفها إلا من تولدت لديه هذه القناعة وترسخت وبات يرى في الموت في سبيل الله مكسبا عظيما وغاية المنى. ربما يتغلغل في صفوفها مندسون أو ضعاف نفوس، لكن عملية الغربلة كفيلة بإحداث الفرز اللازم الذي يقي إلى حد كبير من الاختراقات والتجاوزات وتثبيط الهمم. تحمل هذه التنظيمات في داخلها جيل الثورة الحقيقي الذي يرى في العمل أساس الإنجاز.
تتمتع هذه التنظيمات بنفس طويل، وترى أن العدو الذي تواجهه قوي جدا لا بد من المثابرة والصبر في مقارعته، وتتبع أسلوبا قتاليا قادرا على إنهاك الجيوش النظامية وإلحاق الهلع بالمدنيين نحو قتل الروح المعنوية. إنها تدرك أن النصر هو صبر ساعة أخيرة، وتعمل دائما على أن تكون صاحبتها وليس العدو، ولا يصيبها كلل أو ملل مهما طال أمد المعركة. يجاهد حزب الله منذ بداية الثمانينيات، وبدأ الجهاد الإسلامي جهاده عام 1986، وحماس هام 1987، وبالرغم من ذلك لا تزال الروح القتالية عالية جدا ومعززة بالمزيد من التأييد الشعبي والانخراط التنظيمي.
إسرائيل لا تقوى على الحرب الطويلة بسبب ظروفها الاقتصادية والأمنية والجغرافية التي تشكل عوامل ضعف استراتيجي، وبسبب ترتيب جيشها النظامي الذي يعاني من نقاط الضعف التي يعاني منها كل جيش نظامي أمام حركات المقاومة الشعبية. الجيش الإسرائيلي غير معدّ لمقاتلة عصابات أو تنظيمات تمارس تكتيك القنص واضرب واهرب، وملاحقته لها مكلف جدا من الناحية الاقتصادية. من أجل ملاحقة مقاوم واحد، يستنفر الجيش أكثر من ألف جندي وعددا من الآليات الثقيلة وبعض الطائرات، في حين أنه قد لا يحتاج إلى عشر هذا الحشد لمواجهة كتيبة من جيش نظامي.
صمد الجيش الإسرائيلي طويلا أمام المقاومة، لكنه في النهاية قرر الخروج من بعض الأراضي المحتلة. وإذا كان له أن يختصر الزمن ويوفر على نفسه واليهود في فلسطين والشعب الفلسطيني المعاناة والأحزان فإنه من الحكمة أن يخرج نهائيا ويعترف بالحقوق الفلسطينية. ما يعزز هذه النتيجة المسبقة التي أراها أن الجيش الإسرائيلي لم يعد يتمتع بالمعنويات العالية القديمة التي تواكبت مع قيام إسرائيل وتعزيز وجودها، وأن المجتمع في إسرائيل لم يعد ذلك الذي تميز بالإيثار والتعاون والعمل الجماعي. الأمراض الاجتماعية تنخر جسد إسرائيل، والفساد يستشري في مختلف مؤسساتها ليصل إلى رئاسة الدولة، والمعنويات تتآكل، والتفسخ السياسي يجعل من الوحدة أملا متعثر التحقق.
مثلما يواجه الجيش الإسرائيلي العثرات، تواجه فصائل المقاومة عثرات إضافية تضعها الأنظمة العربية فتعرقل الكثير من عملياتها. عدد من الجيوش العربية الآن تمنع نشاطات المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وتتعاون أمنيا مع إسرائيل مثلما يحصل على الساحة الفلسطينية. هذا فضلا عن أن رأس المقاومة مطلوب عالميا، وتجد بعض الأنظمة العربية أن من واجبها تجاه المجتمع الدولي إثبات الانسجام مع المتطلبات الأمريكية.