لا أتمنى أن يجيء إلىوم الذي تضيق فيه صدورنا بعبث الأطراف المختلفة بالملف الفلسطيني، الى الحد الذي يشيع بيننا الإحباط، ويدفع بعضنا إلى القول: ليت الإسرائيليين لم ينسحبوا من غزة، على الأقل لأن فضح الاحتلال الصريح والمتواطئين معه، أيسر من فضح الاحتلال المقنع والمتسترين عليه.
(1)
قبل أي كلام في الموضوع، يظل من المهم للغاية أن يعطى الحدث حجمه الطبيعي، حتى لا تنطلي علينا الدعايات والأكاذيب، وحتى لا تختلط في أذهاننا الاوهام بالحقائق، ولا مفر في هذا الصدد من الانتباه إلى ان ما جرى لم يكن تحريرا لغزة، التي يتمسك ال إسرائيليون بالسيطرة على بحرها وبرها وجوها وعلى المعابر والميناء والمطار. وغاية ما يمكن ان يقال ان ال إسرائيليين قاموا بتفكيك المستوطنات في القطاع. لكن ذلك لا يقلل من وجه الإنجاز في المشهد، لأن هذه هي المرة الاولي في تاريخ الصراع التي تضطر فيها الدولة العبرية إلى إخلاء مستوطناتها في أراض فلسطينية خارج نطاق التسويات السياسية. ولئن حدث ذلك في غزة فيحب ألا ينسينا أننا بصدد خطوة أولى على طريق الألف ميل، لأن القطاع يمثل 6% فقط من الأراضي التي احتلت عام67- الأمر الذي يعني أن الجميع ينبغي ألا يتعجلوا الفرح، لأن 94% من الأراضي التي يتعين على الإسرائيليين أن ينسحبوا منها ما زالت تحت الاحتلال الوحشي، ومسؤولية بهذه الجسامة تتطلب استمرار التعبئة والاستنفار، وحشد كل الطاقات المتاحة اقليميا ودوليا وراء مطلب إكمال الانسحاب المنشود.
بسبب من ذلك. قد تصورت أن رد الفعل العربي والإسلامي على عملية تفكيك المستوطنات، ينبغي ألا يتجاوز حدود الترحيب الحذر، الذي يطالب بسيادة حقيقية للفلسطينيين على القطاع والمعابر المؤدية إلىه، مع تأكيد ضرورة انسحاب إسرائيل من الضفة، ووقف الاستيطان فيها والكف عن سياسة تهويد القدس. بكلام آخر، فإن هذه لحظة إشهار الاستحقاقات ومطالبة المغتصب برد ما سلبه ونهبه، وليست لحظة القفز فوق الاستحقاقات، والتعبير عن الامتنان والشكر، والتسابق على منح الجوائز لشارون وحكومته.
لم يحدث شيء مما توقعناه للأسف، ووقع كثيرون في الفخ ـ لا تسألني عما اذا كان ذلك من باب العبط او الاستعباط ـ حيث لاحظنا هرولة صوب إسرائيل من جانب عدة دول عربية وإسلامية. فقد تحدثت التقارير الصحفية عن زيارات منتظرة لبعض القادة العرب إلى تل أبيب. وزيارة مرتقبة سيقوم بها شارون إلى إحدى الدول المغاربية. وتحدثت تقارير أخرى عن لقاءات مرتبة بين شارون وبعض قادة العالم الإسلامي الذين سيشاركون في دورة الامم المتحدة بنيويورك، وتواترات انباء عن قرب اقامة علاقات رسمية بين إسرائيل وبين عدد غير قليل من الدول العربية والاسلامية، وبدأ الاعلان عن اقامة علاقات مع باكستان(أندونيسيا في الطريق) مقدمة وتمهيدا لما سمته اذاعة الجيش ال إسرائيلي موسم جني القطاف الذي ترتب على الانسحاب عن غزة إلى غير ذلك من التطورات المدهشة التي تعاقبت مكافأة لشارون على أنه أخرج يده من جيب غزة، لكي يحكم قبضته على رقبة القطاع، بينما يواصل التهام الضفة.
يزيل قدرا من الالتباس في المشهد ما نشرته يديعوت أحرونوت في 9/5 الحالي، نقلا عن صحيفة نيويورك تايمز، وذكرت فيه ما خلاصته أن الرئيس بوش قرر أن يستخدم نفوذه لدى الدول الصديقة لدعم شارون وسياسته، حتى لا يتم إحراجه داخل حزب ليكود، ولتعزيز موقفه في مواجهة خصمه بنيامين نيتانياهو الذي ينافسه على زعامة الحزب، بناء على ذلك فمطلوب من الأصدقاء ان يكفوا عن مطالبة شارون بأي استحقاقات فلسطينية أخرى، ومن أراد ان يخاطبه فليتوجه إلىه بالتهنئة فقط، وهو كلام تبين أنه صحيح، لأن الرسالة وصلت، وكما رأيت توا، فإنه جار تنفيذ مضمونها.
(2)
اللامعقول في المشهد الفلسطيني لا يقف عند ذلك الحد. ولكن له تجليات أخرى عديدة، منها مثلا ان تليفزيونات العالم سجلت خلال الأسابيع الماضية الجدل بين الفصائل الفلسطينية حول الطرف الذي له الفضل في تحقيق الإنجاز في غزة، وفي معرض هذا الجدل العقيم فإن الفصائل قدمت إلى شارون من حيث لا تحتسب هدية ثمينة وفرت له نصرا إعلاميا مجانيا، ذلك أن المنظمات القانونية الفلسطينية والدولية ـ وبعض الإسرائيلية ـ تتمسك بأنه طالما استمرت سيطرة إسرائيل على أجواء القطاع ومياهه ومعابره الحدودية، فإن غزة ستظل مصنفة أرضا محتلة،
وبالتإلى فإن إسرائيل يجب ان تتحمل مسئوليتها ازاء القطاع، حتى بعد فك الارتباط غير انه في معرض التراشق بين الفصائل الفلسطينية انطلق الجميع من وصف اخلاء المستوطنات بأنه تحرير ونهاية للاحتلال. وهو ما افاد الحكومة الإسرائيلية كثيرا في خطابها السياسي والإعلامي، التي حرصت على ان تروج لذات. الادعاء، لكي تتقدم بطلب إلى مجلس الأمن لاعتبار ما جرى في غزة إنهاء للاحتلال، الأمر الذي يعد من وجهة النظر ال إسرائيلية تطبيقا لقرار مجلس الأمن رقم242, الذي يتحدث في صيغته الإنجليزية عن وجوب انسحاب إسرائيل من أراض احتلتها في عام67. وهو ما يضعنا بازاء مفارقة شديدة، وجدنا فيها فصائل المقاومة واقفة دون أن تدري في المربع ال إسرائيلي!
من آيات العبث واللامعقول أيضا أنه في مقابل صور الابتهاج الفلسطيني بالتحرير الكاذب، أغرقت الحكومة الإسرائيلية تليفزيونات العالم بصور معاناة المستوطنين المصطنعة، وهم يقتلعون من منازلهم باكين، وجنود الاحتلال يقودونهم إلى الحافلات بسكينة ووقار، الأمر الذي اسقط من الأذهان صورة المستوطن المغتصب والمفتري. وفي هذه المباراة التي خسر فيها الفلسطينيون حرب الصورة. لم تتوان إسرائيل عن استثمار ذلك الفوز، إقليميا ودوليا. ومن المفارقات أن المشاهد التي بثت من المستوطنات جعلت إحدى المؤسسات الإعلامية الإيطالية ترشح شارون، الجزار العتيد في قبية وصبرا وغيرهما الكثير، لجائزة نوبل للسلام، في مشهد يشي باستحالة المأساة إلى ملهاة. لقد نجحت الصور في أن تمحو من ذاكرة الرأي العام العالمي التصريحات التي أطلقها شارون وقال فيها صراحة إن خطة فك الارتباط تأتي لتجنيب إسرائيل خوض غمار أي تسوية سياسية لمدة خمسين عاما. كما لم يعد يتذكر أحد العبارة الشهيرة التي أطلقها دوف فايسجلاس كبير مستشاري شارون الذي قال فك الارتباط يأتي لإسدال الستار على أي فرصة لإقامة دولة فلسطينية في الضفة الغربية.
(3)
الأدهي مما سبق والأمر أن إسرائيل من خلال تغطية عمليات الإخلاء حاولت اضفاء بعد انساني على مستوطنيها عبر إظهار ألمهم على أنه ألم حقيقي، وكأنهم لم يقيموا بيوتهم الفارهة على ارض فلسطينية مغتصبة. وحرصت إسرائيل أيضا على أنسنة جيشها، فالجنود الذين شاركوا في عمليات الإخلاء لم يكن يسمح لهم بحمل أي سلاح، في سعي واضح لتحسين صورتهم، التي ارتبطت في وجدان العالم بالوحشية المفرطة وإهلاك الحرث والنسل وتدمير البيوت. وحتى صور الممانعة والمقاومة التي أبداها المستوطنون في بعض المستوطنات استغلت من قبل شارون لإقناع العالم بأنه لن يكون بوسعه تنفيذ عمليات إخلاء أخري في المستقبل. بل إنه ما برح يردد على مسامع كل من يقابله بأن تنفيذ عمليات إخلاء أخري قد يكون مقترنا باندلاع حرب أهلية. ليس هذا فحسب، بل إن بعض وسائل الإعلام الإسرائيلية اعتبرت أن الصدمة النفسية التي تعرض لها المستوطنون توجب على الدولة العبرية ليس فقط عدم إزالة النقاط الاستيطانية التي أقيمت في الضفة الغربية بشكل غير قانوني، وإنما أيضا تكثيف الاستيطان كتعويض للمستوطنين عن خسارتهم.
إلى جانب ذلك بالغت وسائل الإعلام في إسرائيل والعالم في كيل المديح لشارون على اعتبار أنه قائد سياسي جدي وشجاع، وصاحب قدرة على إمضاء تعهداته. وهذا المديح الذي جعل معظم الإسرائيليين يرون في شارون الممثل الحقيقي للوسط. علي الرغم من مواقفه المعروفة والمتشددة من قضايا الصراع. كما حرصت وسائل الإعلام ال إسرائيلية والعالمية علي إبداء التعاطف مع شارون، عن طريق الاستفاضة في طرح المشاكل الحزبية التي تواجهه بسبب خطة فك الارتباط، لتقول للعالم إنه حتى لو أراد تنفيذ مزيد من الاخلاءات فإن الواقع الحزبي في إسرائيل لن يسمح له بذلك. ليس هذا فحسب، بل تم إظهار شارون وكأنه يسدي جميلا ومعروفا للفلسطينيين، يتوجب عليهم الرد عليه من خلال تفكيك حركات المقاومة والقضاء عليها، ونزع الشرعية عن المقاومة في مواصلة عملياتها.
ما أثار الدهشة في هذا السياق أنه في مقابل هذه المشاهد كانت بعض الفصائل الفلسطينية تواصل احتفاءها بالتحرير، عن طريق تنظيم الاستعراضات العسكرية التي أظهرت فيها أسلحتها البدائية. وهو ما سجلته التليفزيونات العالمية، كشاهد أيد مطالبة إسرائيل بتفكيك حركات المقاومة. وزاد الطين بلة، أن بعض منتسبي الجماعات المسلحة، وجهات أخري غير معلومة تورطت في اختطاف عدد من الأجانب، العاملين في الإغاثة أو في الصحافة، الأمر الذي أضفي بعدا جديدا على قتامة الصورة الفلسطينية، في حين أن الطرف ال إسرائيلي ظل يواصل سعيه لتقديم صورة بريئة وجذابة إلى العالم الخارجي. حتى بدا أن الجلاد كسب الرهان في حين خسرته الضحية ـ وهكذا يكون العبث وإلا فلا!
(4)
حتى يبلغ العبث ذروته، فإن عددا غير قليل من الصحفيين والمعلقين في إسرائيل لجأوا إلى حيلة خبيثة لتقزيم القضية الفلسطينية وطمس معالمها. فقد دأبوا على تشبيه إخلاء المستوطنين بما حل بالفلسطينيين في عام48. فأطلقوا عليهم مصطلح اللاجئين، وحين تطرقوا إلى المخيمات المترفة التي أقيمت لهم وسط تل أبيب تحدثوا عنها باعتبارها مخيمات اللاجئين، وهي المصطلحات التي ظلت طويلا مقصورة على الفلسطينيين دون غيرهم.
حتى يديعوت احرونوت، كبري الصحف ال إسرائيلية اعتبرت أن إخلاء المستوطنين يضاهي في قسوته النكبة التي تعرض لها الفلسطينيون في عام48 ـ كما أن بعض وسائل الإعلام ال إسرائيلية والعالمية وجدت في حرص إسرائيل على إيواء المستوطنين الذين تم إخلاؤهم فرصة لمهاجمة السلطة والدول العربية، والطلب منها أن تتعلم من إسرائيل كيفية إعادة توطين اللاجئين وتأهيلهم. ولم يفت أولئك المعلقون أن يتحدثوا عن معاناة المستوطنين، الذين كانوا يمثلون0,5% من المقيمين بقطاع غزة، وتجاهلوا معاناة 99.5% من سكانه، تحملوا الكثير من عذابات الاحتلال طيلة38 عاما، وقد خرجوا من الهيمنة المباشرة للاحتلال ليجدوا أنفسهم في سجن كبير بالقطاع، يحرسه جنود الاحتلال ذاتهم.
حين كنت أتبادل الرأي مع أحد الأصدقاء في غزة حول الوضع القانوني للقطاع بعد الانسحاب، ومفارقة وقوف الفصائل في مربع الحكومة الإسرائيلية التي تحاول تسويق فكرة تحرير القطاع والانتهاء من احتلاله، نبهني صاحبي إلى أن السلطة الفلسطينية واقفة بدورها في ذات المربع لهدف آخر. هو أنها حين تعتبر الإخلاء تحريرا فإن ذلك يسوغ لها نزع سلاح الفصائل، لأن الوضع المستجد لا يبرر لها الاحتفاظ بسلاحها، ومن ثم فيتعين على الفصائل أن تتخلى عن السلاح ولا تبقي لديها على شيء منه. وهو أمر ليس سهلا، يفتح الباب لشرور كثيرة، قد تكون الحرب الأهلية بين خياراتها.
ترى، هل يقع المحظور يوما ما، حتى نسمع قول القائل: ليتهم ما انسحبوا ؟!
المصدر جريدة الأهرام الثلاثاء 20- 9 - 2005
واقرأ أيضا:
جريمة حماس التي لن تغتفر / الحرية قبل الديمقراطية وليس بعدها / إلى عمرو خالد: عد إلى أهلك وأمتك