يعتقد قادة المارينز والصليبيين الجدد أن العرب أمة هُضِمت وصارت لقمة سائغة، وأن مآذنهم لن تصدح بما يفيد ولا حتى دور عبادتهم لن تملأ بالمصلين. يعتقدون أنهم انتصروا، غافلين أن هذه الأمة، وبغداد ذاتها، قد داست جيوش الظلام على مرّ العصور، فتارة بجيش بغدادي وتارة بجيش حمداني سوري وتارة بجيش مصري فاطمي. بغداد لم تكن يومًا مدينة تخص بلد صغير أو مجموعة من الناس، وإنما عاصمة لإمبراطورية امتدت من المحيط الهندي وشرق الصين إلى المحيط الأطلسي وإسبانيا وجنوب فرنسا. إن بغداد عاصمة لكل العرب أولاً ولكل المسلمين ثانيًا، ولمن يريد أن يعرف مصيره ببغداد، بعد أن أتاها غازيًا، ليعرف لأي قوم تنتمي بغداد هذه.
العرب، شعبٌ شديد القِدم لا يُعرف له بداية، ذلك أن الحضارات الأولى تعود له، فكانت سومر قد تأسست بأيدي شعوب عربيّة هاجرت إلى الهلال الخصيب بفترة 3700 ق.م، وكذلك الدولة الأكدية التي تأسست على أنقاض الدولة السومرية بعام 2350 ق.م على يد الجنرال "سرجون الأول" وهو اسم عربيّ سيطل علينا حتى فترة اجتياح هولاكو لبغداد، وهو أحد الأسماء العربية القديمة التي احتفظت بوجودها لآلاف السنين، إضافة لأسماء أخرى انتهت كأسماء لمدن مثل "عكا".
وكان العرب السباقين للنقطة الحضارية الثانية (مصر) والموازية لأهمية الهلال الخصيب، والاسم "مِصر" كلمة عربية تعود للعرب البابليين (الذين أقاموا علاقات دبلوماسيّة مع مصر) وتعني "السور" الذي يحفظ بداخله الحضارة والتمدن. ويذكر التأريخ أن العرب هاجروا إلى مصر بفترة تقارب هجرتهم للعراق، وأن الأسر الفرعونيّة الحاكمة كانت عربيّة، وقد غزا الهكسوس بعام 1550 ق.م (وهم شعوب بربرية آسيوية عبر فلسطين إلى أفريقيا) مصر وأسقطوا الحكم المصري، فقام الأمير المصري "أحمس الأول" (وهو من أمراء طيبة بمصر الوسطى) بطردهم وأسس الأسرة المصرية الثامنة عشرة، والتي استمرت فروعها بالحكم حتى عصر الإسكندر المقدوني، وكانت ثلاثون أسرة.
ومما يجدر ذكره فإن إسم "أحمس" هو الاسم العربي القديم لاسم "أحمد"، و"الحُمس" (أي الأحامدة) هم سادة العرب وهم: "خثعم" و"كِنانة" (وقريش من كنانة) و"ثقيف" و"خُزاعة" و"عامر" و"صعصعة" و"النضر بن معاوية"، و كان لهم شرف وجاه عند باقي العرب. ولم يقف العرب العظماء عند تأسيس حضارتيّ العراق ومصر (وقيل أن العراق و مصر جناحا الحضارة بالتأريخ) فقد أسسوا الدولة الرومانيّة الثانية على يد "فيليب العربي" وقد أسماه الرومان "ماركوس يوليوس فيليبس"، الذي ولد بمدينة "شهبا" (أو بُصرى) في جنوبي سوريا.
إذن، وبعد هذا النبذة التأريخية، نفهم أن للعرب بعدًا حضاريًا هائلاً، وقد حوله الإسلام -بعد قرون- إلى انفجار ضوئي أغرق البشرية ليومنا هذا بكل عوامل الازدهار والرقي الإنساني. وعرف العرب أنهم أول أمة أسست الصور البلاغيّة بالشعر، واستعارت وشبهت أيضًا. وكان للعرب معلقات خالدة للشعر، امتازت بكم هائل من الفن والرقي الأدبي، الذي أوصلهم درجة الغرور حتى أن إعجاز القرآن الكريم اللغوي ما كان إلا لمعرفة الباري عز وجل بتيه العرب وغرورهم وثقتهم بلغتهم، فأراد أن يبيّن قدرته بأحسن ما يتقنون، فتجلت حكمته سبحانه وتعالى.
ومن أرق ما قيل بالغزل من شعراء المعلقات، برأيي، هما بيتان لعنترة بن شداد العبسي بقوله:
ولقد ذكرتـــكِ والرماح نواهل ** مني وبيض الهِند تقطرُ من دمي
فوددت تقبيل السيوف لأنها ** لــمعت كبــارق ثغـــركِ المتبسمِ
فها هو شاعرنا بوسط قتال وسجال، يتراجع هنا، يتقدم هناك ويطعن هذا ويبتر ساق ذاك. الجو مشحون بالجنون والغضب، الرماح تعلوا رأسه، السيوف البتّارة تجرحه حينا هنا وحينا هناك. عرقه الرجولي يفصد، وجهه محتقن ويده قابضة على سيفه كما الصخر، بينما تحوّل صدره لرئة كبيرة تسحب كلّ هواء العالم. وبخضم هذا الجنون يبدأ جنون ثاني أكثر لذة وإثارة، لا علاقة له بالسيوف ولا بجنون الرجال الممتع، وإنما بثغر أنثى جميل. إذ يقف عنترة ذاهلاً وسط الحرب، غير عابئ أو مفكرٍ بالموت، متأملاً سيفًا أبيضًا ترقرقت الدماء القانية على جوانبه، فتدفعه الذِكرى لفم عبلة الجميل ذي الأسنان البيضاء الناصعة والشفاه المتموجة بالدم، ولا يقف جنونه عند هذا بل يود لو يقبل السيف تيمنًا بشفتيها الكارثيتين بجمالهما. وهنا صورة هائلة لعاشق لا يمكن إلا أن يكون عربيًا. ألا -ياقوم- لتنزل لعنات السماء كلها على الشعر إن لم يكن فينا منه نصيب الملوك، فنحن أمة الفن الراقي.
ولكن أمة الفن الراقي تراجعت، اضمحلت، تيبّست، لأسباب سياسية وحضارية كثيرة، وانتهت ممزقة تحت سياط شعوب بربرية (ولازالت) كالمغول والتتار والصليبيين والصليبيين الجدد. وكان لسقوط بغداد بيوم 14 صَفَر بعام 656 هـ، الموافق ليوم 20 فبراير سنة 1258 للميلاد. وليس صعبًا أن يرصد الأثر المأساوي على النفسيّة العربيّة المسلمة، إذ قتل هولاكو (الشقيق الأصغر للإمبراطور المغولي منكوقان) مليون وثمانمائة بغدادي من رجل وطفل وامرأة، وأحرق الجوامع وسلب المدينة وقتل ثلاثة آلاف عالم وفيلسوف وعبقري من علماء بغداد، وكانت أن انتهت الخلافة العباسية ببغداد، ليحييها الظاهر بيبرس بمصر من جديد، كأن العرب المسلمين يريدون أن يقولوا أن "حدائق الله" (وهو معنى اسم بغداد) لن تذبل أو تحترق لأنكم حرقتم المدينة، ذلك أن المدينة فينا نحن فأحرقونا لو استطعتم. وكم ستحرقون؟ مليون؟ مئة مليون؟ ثلاثمائة مليون؟ أم كم تحديدًا؟
ورغم أن الحضارة العربية المسلمة قد استفاقت من كبوتها، إلا أنها لم تستفق تمامًا عندما أتت الظلاميّة العثمانية بعام 1228 م، لتضرب تلك الصحوة بحكم تقليدي منغلق لم يتماشى مع روح الإسلام المتجددة ولا الطبيعة الفكرية للإسلام، وكان أن دفع العرب الثمن غاليًا بعد استقلالهم من الدولة العثمانية. فالذات العربية محطمة، جاهلة لعظمتها، جاهلة بإنجازاتها الطويلة، وجاهلة بهويتها. وصارت الأسماء الأوربية شديدة البريق (ومازالت)، والأفكار تؤخذ بلا مرجعية أساسية للحضارة العربية الإسلامية، وإن كانت مرحلة كهذه ضرورية لنهضة أمة فإنها لن تكون كذلك بعد قرن من الزمان تقريبًا. ذلك أن "النهضة" أصبحت "تبعية" فكرية للغرب الأوربي، مع رفض شبه تام (خصوصًا عند تياراتنا الليبرالية) للإرث الحضاري العربي والإسلامي، مدعين أنها من مخلفات أزمنة أخرى بعيدة ولا تتماشى مع واقع الحال، في الوقت الذي لا يتذكر هؤلاء التابعين أن الثقافة الأوربية الحديثة قد بُنيت -فلسفيًا- على موروث الفلسفة اليونانية والفكر السوفسطائي خصوصًا، وهنا يجب الفصل بين التطور الصناعي وبين الواقع اللاهوتي لأوروبا، ذلك أن أوروبا قد اكتشفت تسلط الكنيسة وقد بدأت محاولاتها للتخلص من تلك السلطوية بعد انشقاق الكنيسة الأنجليكانية عن الفاتيكان، وكانت الآراء قد بدأت بالانبثاق والتحدث عن إصلاحات دينية، وقد شهدت تلك الفترة ولادة البيوريتانيين واللوثريين وغيرهم من تيارات ومدارس لاهوتية أضعفت من سلطة الكنيسة وقوت السلطات الإقليمية.
إلا أن ما يهمنا من كل هذا هو أن الدول الأوربية (غالبًا) لم تتخلى فعلاً عن الدين -خصوصًا بالمجتمع والقانون- حتى القرن العشرين، إذ أنها ببساطة أوقفت تدخلات رجال الدين بالسياسة إلا أنها لم تطرد الموروث الديني من المجتمع، وقد كان للرقي الصناعي والاجتماعي توافق تام مع الدين. الأمر الذي ينفي تمامًا أي تشبثات ليبرالية عربية لفصل الدين عن الدول (وفق الطريقة الأوربية الحديثة)، أو للاستهزاء بالحضارة العربية أو الإسلامية لشعوب الشرق الأوسط.
أعتقد أننا كأمة عربية مسلمة بحاجة لأن ننهي "عصر التبعية" ونبدأ "عصر التنوير القومي والديني" للعودة بأمتنا لمجدها الذي تستحق، ويتم هذا بالرفض لأي تصدير حضاري غربي إلا بعد تطبيعه بطابع عربي وإسلامي يوافق طبيعتنا الحضارية، فنحن من يغير أفكارهم لصالحنا وليس هم من يغيروننا لصالح أفكارهم.