القراءة الصهيونية للتاريخ "الحروب الصليبية نموذجًا"..(1)
مقدمة
التاريخ من أهم علوم الإنسان، لأنه العلم الذي يلهث وراء الإنسان من عصر إلى آخر محاولاً أن يفهم الإنسان وأن يفهمه حقيقة وجوده من خلال بحث ماضيه، وقد مضى ذلك الزمان الذي كان فيه التاريخ حلية ثقافية تزدان بها الرؤوس الفارغة أو أحاديث سمر نتداولها في المجالس والنوادي، فالحاضر هو الابن الشرعي للماضي، ومن يحاول أن يفهم مشكلات الحاضر دون البحث عن جذورها في الماضي إنما يحرث في البحر.
ومن ثم فإن التاريخ علم لا ينتمي إلى الماضي سوى من حيث موضوعه أما هدفه وفائدته فإنهما يتعلقان بالحاضر والمستقبل ومن ثم فإن الجماعات الإنسانية تعيد قراءة تاريخها لصالح أهدافها الآنية والمستقبلية وفي هذه القراءات التاريخية تعاود الجماعات تسليط الضوء على عناصر بعينها في تاريخها ربما تكون قد أهملتها في مراحل سابقة وهكذا فإن التاريخ يحدث مرة واحدة ولكنه يتعرض لإعادة القراءة مرات ومرات وبعض هذه القراءات للتاريخ قد تكون قراءة أيديولوجية منحازة "فالقراءة الاستعمارية للتاريخ مثلاً حاولت تبرير التسلط الرأسمالي الغربي من خلال قراءة التاريخ من منطق انتقائي وإبراز ما يبرر الدور الذي يقوِّم الاستعمار في بلاد ذات حضارات عريقة في المنطقة التي تمتد ما بين الصين وحوض البحر المتوسط".وثمة مثال آخر تمثل في قراءة أوربية منحازة ضد الدولة العثمانية والمسلمين العرب لصالح الحضارة الكلاسيكية وقد تعلمت الحركة الصهيونية الدرس الأوربي ووعته تمامًا.
والحركة الصهيونية قد فهمت الدعاية على أنها حقيقة وعناق حضاري مما ترتب عليه أن اهتم مخططو الدعاية الصهيونية بالنواحي الأدبية والتاريخية فالأدب هو الوسيلة التي تخلق الشحنة العاطفية، والفن من أهم قنوات صياغة المواقف، والوجدان من خلال الإعجاب بالجوانب الجمالية التي تتسرب إلى الوجدان، كذلك فإن التاريخ لغة قوية لا تنحصر في محاولة بث الإعجاب ومداعبة مشاعر الزهو القومي وإنما هو أيضًا مخزن للتجارب الإنسانية التي يمكن أن تنير الحاضر وتهدي إلى سبيل المستقبل، فكتابة التاريخ هي نقطة التقاء بين الماضي والحاضر، وبما أن الحاضر يتغير على الدوام فإن نقطة الالتقاء هذه في حرمة مستمرة، ومن خلال هذه النقطة أي قراءة التاريخ يستطيع المؤرخ أن يتسلل إلى العقل الفردي والجماعي بتقديم النماذج التاريخية والمواقف التي تخدم أهدافه كما أن التاريخ يحمل مصداقية ذاتية في داخله بحيث يرسخ مفاهيم معينة.
* والدراسة التي نقدمها في هذه الصفحات هي في حقيقة أمرها محاولة لكشف أبعاد القراءة الصهيونية للتاريخ العربي، وإذا كانت الصهيونية قد ركزت على محاولة سلب التاريخ والتراث العربي في كل العصور ونسبته زورًا إلى اليهود فإن فترة الحروب الصليبية لم تكن استثناءً من ذلك بطبيعة الحال إذ أنها يمكن أن تكشف عن نموذج تطبيقي لاستخدام الحركة الصهيونية للتاريخ والنماذج التاريخية لتحقيق أهدافها، وإذا كانت هذه الدراسة قد جاءت متواضعة من حيث حجمها ومجالها فإننا نعتقد أنها جهد أولى وبداية أرجو أن تتاح لي فرصة متابعتها إن شاء الله.
وأخيرًا فإنني أتوجه بهذه الدراسة إلى المواطن العربي، سواء كان من المتخصصين أو عامة المثقفين راجيًا من الله أن تكون ذات فائدة ما والله الموفق والمستعان.
الفصل الأول:
الحركة الصليبية ماهيتها وتطورها
* الخلفية الأيدلوجية للحروب الصليبية.
* العوامل والأسباب.
* الحملة الشعبية ومغزاها أهداف الحركة الصليبية.
* المواجهة العربية الصليبية ونتائجها.
* نهاية الوجود الصليبي في الشرق.
كانت الحروب الصليبية التي شنها الغرب الكاثوليكي على الشرق العربي الإسلامي حربًا مثل أي حرب أخرى من حيث العدوان وإراقة الدماء ومن حيث تذرعها بذريعة أخلاقية تبرر بها نفسها وهو أمر لا نستغربه في دراستنا لأية حرب، ولكنه يبدو غريبًا بالفعل عند دراستنا للحركة الصليبية فقد قامت تحت راية الصليب رمز الديانة المسيحية التي تظهر قدرًا كبيرًا من المسالمة في كتبها المقدسة كما أن الصليب نفسه في المفهوم المسيحي رمز للتضحية بالنفس فداء للآخرين، إذا كان الهدف المعلن للحروب الصليبية هو تحرير القدس -التي شهدت ألام المسيح وعذابه والتي فيها قبره- من أيدي المسلمين وهو ما يعنى أن هذه الحرب من الناحية الرسمية المعلنة كانت حربًا مسيحية مقدسة فكيف حدث أن تكونت خلفية أيدلوجية جعلت الحرب مقبولة أخلاقيًا؟ وما هي العوامل والأسباب التي أدت إلى بروز الحركة الصليبية على أرض الواقع؟
في تتبعنا للخلفية الأيديولوجية للحركة الصليبية نجد أمامنا تيارات رئيسية ثلاثًا تصب في مصب واحد برزت من طياته فكرة الحملة الصليبية والتيار الأول يأتي من داخل الديانة المسيحية نفسها متمثلاً في التطورات الفكرية والممارسات الدينية التي تبلورت في القرن الحادي عشر في عامل من أهم عوامل رسوخ الفكرة الصليبية. هذا التيار المسيحي يتجمع من رافدين أساسيين هما: الحج، فكرة الحرب المقدسة.
أما التيار الثاني فينشأ عن التفاعلات الاجتماعية/الفكرية الناجمة عن استقرار القبائل الجرمانية فوق التراب الأوربي وما نتج عن ذلك بالضرورة من صياغة المثل والقيم الجرمانية عن البطولة والشجاعة الحربية في مصطلحات مسيحية ثم محاولات الكنيسة للسيطرة على الحروب الإقطاعية التي مزقت الغرب اللاتيني من خلال حركة حرب هدنة الرب وسلام الرب.
ويأتي التيار الثالث انعكاسًا للتأثير الإسلامي على الغرب الأوربي في تلك الآونة، سواء من خلال اقتباس فكرة الجهاد الإسلامية، أو من خلال ما تعلمه الغرب من الحرب التي شنها الكاثوليك الأسبان ضد مسلمي الأندلس.
0 بيد أن الفكرة في حد ذاتها لم تكن تسبب الظاهرة التاريخية التي نحن بصددها: أعني الحركة الصليبية، ما لم تكن متوافقة مع الظروف التاريخية، وما لم تكن استجابة لحركة المجتمع في الغرب اللاتيني، وفي تصورنا أن فكرة الحملة الصليبية أو الحرب المقدسة في الشرق قد جاءت في ظروف ملائمة تمامًا في الغرب المسيحي والشرق البيزنطي والشرق العربي الإسلامي على السواء.
فقد شهد القرن العاشر في أوربا حركة إصلاح كنيسة بزعامة الأديرة الكلونية، ثم تطورت هذه الحركة إلى حركة إحياء كبرى تستهدف إصلاح الأديرة والكنيسة وإصلاح العالم في أواسط القرن الحادي عشر وكان إصلاح العالم يعنى إخماد الحروب الإقطاعية التي كانت سمة من سمات المجتمع الذي اختفت فيه السلطة المركزية وتعرض لكثير من الغازات الجرمانية المتوالية، (وكان الأساقفة ومقدمو الأديرة قد اندمجوا في البناء الإقطاعي بحيث باتت الكنيسة متورطة في الالتزامات الإقطاعية) وظهر من بين فرسانه في حروب إقطاعية ولم يجد المصلحون وسيلة فعالة لمنع الحروب الإقطاعية تمامًا ولكنهم توصلوا إلى صيغة علمية لتحديد نطاقها..
وجاءت حركة السلام المتمثلة في هدنة الرب لتمنع القتال في نهاية الأسبوع وفي الأيام المقدسة وطوال فترة الصيف فقط، ومن ناحية أخرى جاءت حركة سلام الرب لتشمل الأشخاص في محاول لزيادة عدد غير المتحاربين أو من تصيبهم الحروب الإقطاعية بشرورها إذ أن هذه الحركة كانت تحرم شن الحرب على رجال الكنيسة والحجاج والتجار والنساء والمسنين والفلاحين وممتلكاتهم من الثيران والبغال ومستلزمات الزراعة بشكل عام أي أن حركة سلام الرب كانت تحمى العناصر الكنيسة والتجارية والزراعية والنسائية في المجتمع من التعرض لهجمات المتحاربين وعلى الرغم من ذلك فان حركة السلام المتمثلة في هدنة الرب وسلام الرب لم تكن لتحقق نجاحًا كبيرًا ما لم يكن أحد كبار الأمراء الإقطاعيين يسعى لتحقيق مأرب خاص من خلال تأييده لها كما أن كثيرين من الأمراء والفرسان الإقطاعيين كانوا يحنثون في أيمانهم التي قطعوها بالحفاظ على هذه الحركة.
وحينذاك وجدت الكنيسة أنه لابد من تكوين قوة السلام يخدم الأكفيروس في صفوفها في كل من فرنسا وألمانيا لإقرار النظام والضرب على أيدي من يعبثون بحركة "هدنة الرب" وحركة "سلام الرب" وكانت هذه الخطوة بمثابة تغيير جذري في موقف الكنيسة من الحرب، ورب قائل بأن الكنيسة لم تلعب دورًا في الحرب ولكنها كانت تقوم بمهمة بوليسية ولكن الواقع أن الكنيسة قد رفعت السيف وأخذت تطلع بالدور العادي للدولة فقد كون جريجورى السابع جيشًا أسماه جيش القديس بطرس وكان أولئك هم جنود الكنيسة المسلحين، وقد حدث ذات مرة أن أفلت زمام جيش السلام الكنسي وراح جنوده ينهبون البلاد ويقتلون العباد مما اضطر أحد الكونتات المحليين إلى تجريد جيش مضاد لكي يعيد النظام إلى صفوف جيش السلام الكنسي وحين انقشع غبار المعركة التي دارت بين الجيشين كانت هناك سبعمائة جثة من جثث جنود الكنيسة تغطي ساحة القتال وهكذا أدلت البابوية بدلوها في حركة الإصلاح بالشكل الذي أدى في النهاية إلى تأكيد مكانة البابوية وحكمها على العالم الغربي الكاثوليكي وسرعان ما أدى هذا الصراع الحاد العنيف ضد الإمبراطورية، هذا الصراع الذي تجسد كأوضح ما يكون بين البابا جريجورى السابع والإمبراطور هنري الرابع فيما عرف باسم مشكلة التقليد العلماني.
كان البابا جريجوري السابع رجلاً ذا ميول عسكرية فقد أقنع البابا إسكندر الثاني وهو ما يزال كاردينالاً بتأييد الغزو الروماني لإنجلترا وعندما اعتلى العرش البابوي اقترح تجريد حملة لاستعادة الممتلكات البيزنطية التي فقدتها الإمبراطورية البيزنطية نتيجة لهزيمتها في معركة مانزكرت أو ملاذكرد أمام الأتراك السلاجقة سنة 1071 م وكان واضحًا أن جريجوي السابع ينوي قيادة الحملة المسيحية المقترحة بنفسه ظنًا منه أن هذه الحملة ربما تؤدى في حالة نجاحها إلى إخضاع الكنيسة الشرقية وإعادة توحيد العالم المسيحي تحت زعامة بابا روما ومن ناحية أخرى كان هذا البابا الطموح يشجع حملات الاسترداد في أسبانيا ولاشك في أن جريجوري السابع قد حاول أن يجعل من ورطة الإمبراطورية البيزنطية بعد هزيمة مانزكرت ميزة عاجلة تفيد منها البابوية ولكن اندلاع الصراع بينه وبين الإمبراطور الألماني هنري الرابع واستمراره حال دون تنظيم أية حملة مسيحية إلى الشرق أثناء بابوية جريجورى السابع وجاء البابا أربان الثاني الذي كان أكثر اعتدالاً واقل عدوانية وطموحًا منه لكي يبدأ الحركة الصليبية.
0 ونجد أنفسنا في مواجهة سؤال يطرح نفسه في إلحاح عن حقيقة الدوافع التي دفعت البابوية لشن حرب مقدسة ضد المسلمين في المنطقة العربية، وإذا ما أردنا البحث عن الإجابة المناسبة وجدنا أنفسنا مقودين إلى استعراض الخطوط العريضة في خطاب أربان الثاني في كليرمون في إقليم برجاندى الفرنسي في السابع والعشرين من شهر نوفمبر سنة 1095 م لقد كانت خطبة البابا على ما تذكره المصادر مثالاً رائعًا في البلاغة قلما تكرر في العصور الوسطى فالواضح أن البابا قد استطاع أن يمس كافة الدوافع التي يمكن أن تكون كامنة في وجدان سامعيه وأنه قد لعب على أوتار الأمل والطمع في نفوسهم ومن ناحية أخرى يستطيع المتأمل في خطاب أربان أن يرصد بعض المسلمين.
ويتبع >>>>>: القراءة الصهيونية للتاريخ(2)