القراءة الصهيونية للتاريخ(1)
القراءة الصهيونية للتاريخ "الحروب الصليبية نموذجًا"..(2)
لقد كانت دوافع البابوية مزيجًا مختلطًا، فإن الحرب المقدسة بوصفها من أدوات سياسية البابا الخارجية كانت تستهدف مكاسب عديدة منها ما هو معلن ومنها ما هو خفي ويمكن فهمه من استقراء الظروف التاريخية ففي المحل الأول كانت الحملة المزمع القيام بها تنشد الاستيلاء على الأراضي المقدسة من المسلمين وحماية طرق الحجيج المسيحي بيد أنه من الواضح أيضًا أن البابا رأى في مثل هذه الحملة فرصة لتوحيد كنيستي الشرق والغرب اللتين كانتا قد تباعدتا تمامًا منذ الشقاق الكبير الذي حدث سنة 1054 تحت زعامته بحيث يتم تكريسه زعيمًا للعالم المسيحي بالشكل الذي يدعم موقف في مواجهة الإمبراطورية كذلك كانت البابوية ترغب في توظيف الميول الحربية لفرسان الغرب الذين لا يكفون عن الاقتتال في خدمة غرض عام يفيدهم لاسيما وأن حركة السلام التي ترعاها الكنيسة كانت قد لقيت تجاهلاً تامًا من جانب بعض أهم مؤيديها ويمكن أن يلاحظ في هذا الصدد أن سادة الأراضي التي تم استردادها من مسلمي الأندلس في غضون القرن الحادي عشر قد صاروا أفصالاً إقطاعيين تابعين للبابا في روما وهو ما يعني أن البابوية كانت تسعى إلى أن تكون الأرض المقدسة بعد أخذها من المسلمين تابعة للبابا ومن ثم تكون هذه الحرب المقدسة تعبيرًا علميًا عن زعامة البابا الروحية للعالم المسيحي وهي زعامة كانت تمثل ركنًا جوهريًا من أركان وجود البابوية ذاتها كما أن البابوية كانت ترى أن الحرب المقدسة يمكن أن تجتذب شعوب الشمال الأوربي إلى علاقات أكثر توطدًا مع البابوية.
وعلى الجانب الآخر كانت دوافع من قبلوا المشاركة في هذه الحرب المقدسة مزيجًا غريبًا ومثيرًا من العوامل والأسباب وإذا كانت المثالية والرغبة في الحصول على الأراضي والبحث عن المجد الشخصي أهم الأسباب التي حفزت أبناء الطبقات العليا إلى حمل شارة الصليب فإن الظروف الاجتماعية المحيطة هي التي دفعت بالكثيرين من أبناء الطبقات الدنيا في غرب أوربا إلى الرحيل صوب المشرق جنودًا في جيش مقدس يحظون بمساندة إخوانهم وبمباركة البابا بحثًا عن فلسطين الأرض التي تفيض باللبن والعسل ولأن أحلام المقهورين في أوربا العصور الوسطى لم تكن تتحقق سوى في القليل النادر فإنهم أطلقوا في هذا السبيل الوعر دون أن يعبئوا بمخاطر الطريق إلى الأرض المقدسة أو بما ينتظرهم على ترابها من أهوال ومشاق في غياب المجهول، ذلك أن شيئًا ما لم يكن ينتظرهم في أوربا سوى الموت جوعًا وقهرًا تحت سيطرة أسيادهم الإقطاعيين وحروبهم الدائمة، أما في الأرض المقدسة فهناك أمل ديني وطمع دنيوي يجذبهم إلى إمكان تحقيق ظروف معيشية أفضل فضلاً عن الوعد الذي بذله البابا لهم بالخلاص.
والحقيقة أننا لا يمكن أن ننكر أن العامل الديني كان موجودًا بشكل ما، ولكنه كان نابعًا من تدين عاطفي يقوم على التعصب المقيت ولم يكن تدينًا عقلانيًا حقيقيًا ذلك أن الجو المحموم الذي أشاعته الدعاية المسعورة ضد المسلمين والتي أذكت جهود البابوية والمبشرين الجوالين من أمثال بطرس الناسك نيرانها.
هذه الدعاية جعلت نفوس بعض الفرسان تضطرم بالرغبة في قتل المسلمين الذين شاعت عنهم قصص تدمير الكنائس وقتل المسيحيين وتعذيبهم ولأن غرب أوربا آنذاك كان يجهل الصورة الحقيقة للمسلمين فإن مقاتليه الذين أسهموا في الحرب المسيحية ضد مسلمي الأندلس كانوا يظهرون من دلائل القسوة والوحشية ما كان يتعارض مع تصرفات المسيحيين الأسبان أنفسهم ولاشك أن بعض الناس قد حملوا شارة الصليب أملاً في نيل الغفران والدخول إلى رحمة الرب.
ومع ذلك فإن الفرسان الذين لا يملكون أرضًا والأبناء الصغار في الأسر الإقطاعية ممن لا يحق لهم وراثة الإقطاع (بمقتضى القانون الإقطاعي الذي كان يجعل الوراثة حقًا للابن الأكبر فقط) قد انضموا إلى الحملة المقدسة يحدوهم الأمل في أن يحققوا لأنفسهم الأرض والمكانة التي لم يتمكنوا من تحقيقها في أوطانهم، وقد لعب البابا أربان الثاني على أوتار هذا الأمل بشكل صريح حين أشار في خطبته إلى حال الجوع على الأرض التي باتت أوربا الغربية تعاني منها عشية الحروب الصليبية، ذلك أن غروب شمس القرن الحادي عشر توافق مع تثبيت حدود الدوقيات والكونتيات الإقطاعية في فرنسا وقيام نمط من التوازن السياسي البدائي فيما بينها، وهو ما كان يعني بالضرورة أن فرصة الأمراء الإقطاعيين للغزو داخل أرض الوطن قد باتت ضئيلة بالفعل ومن ثم فان اشتراكهم في الحروب الصليبية كان فرصة مناسبة لتحقيق طموحاتهم فقد كان كثيرون من فرسان الغرب الأوربي في القرن الحادي عشر تواقين إلى المغامرة في الخارج وجاءت الدعوة إلى الحملة الصليبية لتروى عطشهم إلى المغامرة.
وكان من الواضح أن مثل أولئك الفرسان (ومنهم على سبيل المثال ريمون أمير تولوز وجودفري أمير اللورين) سوف يستجيبون لأية دعوة توجهها الكنيسة لشن حرب مقدسة ضد المسلمين في الشرق إذا كان ذلك يكفل لهم الستار الديني المناسب لإرضاء نزعاتهم العدوانية ومن ناحية أخرى كان بعض الأمراء الذين شاركوا في هذه الحملة يبحثون عن فرصة يحرزون فيها نصرًا عسكريًا يعيد لهم الهيبة التي فقدوها في أوطانهم على حين وجد البعض في هذه الحملة المقدسة فرصة للهروب من العدالة.. والحقيقة أن دوافع المشاركين في الحملة تختلف اختلافًا كبيرًا بحيث يصعب إحصاؤها جميعًا.
أما النورمان في إيطاليا فقد تحركوا للمشاركة في الحملة المقدسة بدافع من كراهيتهم العميقة للدولة البيزنطية فقد كانت الحملة بالنسبة لهم حربًا ضد أباطرة بيزنطة أكثر منها حربًا ضد المسلمين، ذلك أن بوهيموند أبرز قادتهم كان قد قام في وقت سابق بحملة ضد الدولة البيزنطية بالفعل.
على أية حال كان من الممكن توقع ردود أفعال أبناء الطبقة العليا إزاء خطبة البابا أربان الثاني في كليرمون ولكن المثير حقًا كان هو صدى الدعوة إلى الحرب المقدسة على الصعيد الشعبي وفي تصورنا أنه في مجتمع له ظروف الغرب الأوربي في القرن الحادي عشر حيث تسود مظاهر الجهل وتتفشى الأمية وحيث تختلط المفاهيم الدينية بالخرافات والخزعبلات كان لابد أن تأتي استجابة العامة لمثل هذه الدعوة قوية بل وهستيرية وهو ما حدث بالفعل ففي هذا الجو كانت تشيع أنباء عن الرؤى والأحلام المقدسة وظهور القديسين والقديسات والنجوم التي تتساقط من السماء وفى هذا الجو أيضا يكسب المشعوذين والمبشرون الجوالون من أمثال بطرس الناسك مكانة هائلة في نفوس الناس البسطاء فقد كان بطرس وأمثاله تجسيدًا للتطرف الديني الذي حكم المجتمع الغربي في القرن الحادي عشر بعد اقتراب الألف الأولى بعد المسيح من تمامها وتوقع الناس لنهاية العالم ويوم القيامة.
ومن ناحية أخرى فإننا يمكن أن نفسر النجاح الغريب الذي حظيت به الدعوة إلى الحرب المقدسة في ضوء حياة الفلاحين في شمال غرب أوربا التي كانت حياة عابسة وغير آمنة فقد خربت مساحات كبيرة من الأرض الصالحة للزراعة بسبب الغزوات الجرمانية ثم الغارات التي قام بها الفيكنج في القرن العاشر وغالبًا ما كان السادة الإقطاعيون يعارضون إزالة الغابات والزراعة مكانها لأنها كانت المكان الذي يمارسون فيه رياضة الصيد التي كانت شاغلهم الأساسي في غير أوقات الحرب كما أن القرية التي لم تكن تتمتع بحماية أحد النبلاء الإقطاعيين غالبًا ما كنت تتعرض للسلب والنهب أو حتى الحرق بأيدي العصابات الخارجين على القانون وعلى الرغم من أن الكنيسة حاولت أن تلعب دورًا في حماية الفلاحين فان ما قدمته في هذا المجال لم يكن على أية درجة من الفعالية والأهمية، ومن ناحية أخرى أسهمت الكوارث الطبيعية في زيادة المساحات القاتمة الكئيبة في الصورة..
٠ هكذا إذن لعبت الظروف الاجتماعية والاقتصادية دورها في الاستجابة السريعة المذهلة للدعوة التي وجهها البابا إلى جماهير الأوربيين فقد كانت جموع الفلاحين المطحونين في مجتمع يستولي الإقطاعيون فيه على نتاج عملهم في الحقول ويتركونهم في مستوى معيشة أدنى من حيوانات الحقل هم أول من استجاب لدعوة أربان.
على أية حال فإن البابوية سرعان ما أصدرت مرسومًا عامًا بالغفران لكل من يحمل شارة الصليب ثم أعلنت أنها سوف تتولى حماية أملاك المشاركين في هذه الحملة وهكذا بدأت الحروب الصليبية وكانت هذه الحروب حربًا بدأتها الكنيسة لا الدولة ولم يكن المشاركون فيها يأتمرون بأمر حاكم علماني إمبراطورًا كان أم أميرًا وإنما كانوا يتطوعون لحمل شارة الصليب بناء على وعد من البابا بالغفران.
كانت الحروب الصليبية علامة على عسكرة المسيحية وتجلى ذلك واضحًا في حقيقية أنه كان يمكن لرجال الدين أن يحاربوا في صفوف الحملة المقدسة دون أن يتحملوا تبعات التكفير والتوبة حقيقة أن الحملات الصليبية تلت الحملة الأولى قد جاءت تحت قيادة الملوك والأمراء والعلمانيين ولكن الحملة الأولى كانت من عمل البابا كما أن الآراء والفرسان قد حملوا شارة الصليب استجابة لدعوته.
خرجت فكرة الحرب المقدسة إلى حيز التنفيذ وكان الإصلاح الكنسي الذي بدأته الأديرة الكلونية ثم قادته المجموعة الجريجورانية والسياسة البابوية ونظرية الحرب المقدسة هي الخلفية التي استندت إليها خطبة البابا أربان الثاني في كليرمون سنة 1095 م ومن ناحية أخرى كانت الظروف الاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة في أوربا آنذاك هي الخلفية التي خرجت منها دلائل الترحيب والقبول والحماسة التي قابل بها المعاصرون خطبة البابا وهذه العناصر هي التي شكلت الروح التي دفعت الجهود الدعائية التي أسهمت في تشكيل الجيوش المسيحية التي توجهت لقتال المسلمين في فلسطين كما كانت هي القوة الدافعة لحملة الفلاحين أو الحملة الشعبية لقد كانت الفكرة الصليبية نتاجًا لتفاعل القوى التي لبت نداء البابوية في كليرمون ثم خبرات أولئك الذين شاركوا في الحملة الأولى بالفعل.
وفي تصوري أن فكرة الحملة الصليبية قد ولدت في أذهان من عايشوها وخاضوا أحداثها بالفعل ومن ثم فإننا يجب أن نتوخى الحذر ونحن نستخدم مصطلح "الحملة الصليبية الأولى" ذلك أن صياغة فكرة الحملة الصليبية كمثال ونموذج قد تمت من خلال تجربة الحملة الأولى وخرجت من طياتها لتخلق نموذجا ثابتًا في أذهان الدعاة الذين روجوا لفكرة خروج الحملات التالية ولما تكررت الحملات على نموذج الحملة الأولى صارت الحروب التي استمرت على مدى قرنين من الزمان ظاهرة تاريخية حملت اسمها ومصطلحها.
وعلى مدى قرنين من الزمان تقريبًا منذ خروج الحملة الأولى سنة 1096 ميلادية وحتى سقوط آخر المعاقل الصليبية في بلاد الشام سنة 1291 ميلادية توالت على شاطئ البحر المتوسط الشرقي موجات عديدة من الأوربيين الذين جاءوا بعشرات الألوف زرافات ووحدانًا من المقاتلين والحجاج في مجموعات عسكرية صغيرة بقيادة الأمراء الإقطاعيين أو في جيوش كبيرة يقودها أكبر حكام أوروبا آنذاك وهو ما يعنى أن الحملات الصليبية في حقيقة الأمر أكبر من أن نحصرها في تلك الموجات الكبيرة التي كانت تضرب من حين لآخر على شاطئ فلسطين، كانت الموجات الصليبية تضرب أحيانًا على شواطئ عربية أخرى في مصر وشمال إفريقيا والحجاز بل أن الحملة الرابعة ضربت القسطنطينية المسيحية وإنما كانت بمثابة تقاطر مستمر من الحجاج والمحاربين والتجار والقراصنة والنبلاء الجوعى للأرض والمجرمين وشذاذ الآفاق الذين اتخذوا من الشرق العجيب هدفًا ومقصدًا.
ويتبع >>>>>: القراءة الصهيونية للتاريخ(3)
اقرأ أيضا:
كرب ما بعد الصدمة PTSD / الحركة الصهيونية كمشروع غربي