القراءة الصهيونية للتاريخ(3)
٠ هذه الحملات الصليبية الفاشلة ضد مصر أدت إلى نتيجتين غاية في الأهمية:
فقد تسببت في تقلص الموارد البشرية والمادية للمملكة اللاتينية من ناحية كما أدت إلى تغيير الخريطة السياسية لصالح القوى العربية، من ناحية أخرى فقد صار أسد الدين شيركوه وزيرًا، وبعد موته سنة 1169 خلفه ابن أخيه صلاح الدين يوسف (الأيوبي)، ثم اختفت الخلافة الفاطمية من الوجود سنة 1171 م وعادت مصر سنية من جديد ولكن توحيد الجبهة الإسلامية لم يتحقق سوى بعد وفاة نور الدين محمود وسيطرة قوات صلاح الدين على الشام والعراق وكانت آخر مرحلة من مراحل بناء الجبهة الإسلامية المتحدة هي الاستيلاء على حلب سنة 1183 م وبعدها بدأ صلاح يدعم قوته استعداد للمواجهة الشاملة مع الصليبين.
وفي تلك الأثناء قام الصليبيون بعدد من الغارات الجريئة عبر سيناء ووصلوا حتى بحيرات منطقة السويس (البردويل حاليًا) كما شنوا غارات أخرى على تيماء في شمال شبه الجزيرة العربية، وحاول رينو دي شاتيون الذي عرفته المصادر العربية باسم أرناط أمير الكرك أن يقتحم البحر الأحمر ويغزو مكة والمدينة وأن يتحكم في حركة التجارة الدولية بين آسيا ومصر والتي تمر عن طريق هذا البحر من خلال باب المندب، وبالفعل هاجم بعض المواني المصرية والحجازية ثم تمكنت سفن الأسطول المصري من سحق أسطوله تمامًا.
وأخيرًا بدأ صلاح الدين عملياته ضد الصليبين وكانت قمة انتصارات هذا القائد الإسلامي وجيوشه في معركة حطين في الرابع والعشرين من ربيع الآخر سنة 583هـ/ 4 يوليو سنة 1187 م لقد كانت هذه المعركة الحاسمة نقطة انعطاف مهمة في تاريخ المواجهة "العربية/الصليبية"، وكانت قيمتها الأساسية تتمثل في أنها أول تجسيد للجبهة العربية المتحدة.
ففي أول مواجهة بين العرب بعد اتحادهم وبين الصليبين خسر الصليبيون معظم ما كانوا استولوا عليه نتيجة التشتت والتفكك العربي وتقلصت المساحة الصليبية على خريطة فلسطين إلى حد كبير، لقد كانت المعركة التي جرت بين فلسطين والصليبين في حطين كارثة عسكرية ونذير شؤم للكيان الصليبي كما كانت بارقة أمل للمسلمين نفخت في روحهم من جديد، أما ما حدث بعد هزيمة الصليبين في حظين فكانا شبه باستعراض عسكري منه للحرب فقد أخذت المدن والحصون تفتح أبوابها تباعًا أمام جيوش صلاح الدين، وفي أكتوبر من سنة 1187 م أي بعد ثمانية وثمانين عامًا من السيادة اللاتينية عادت بيت المقدس مدينة إسلامية مرة أخرى ولم يتبق بأيدي المسلمين سوى صور وإنطاكية وطرابلس وبعض القلاع المتناثرة.
وجاء رد الفعل تجاه سقوط بيت المقدس وغيرها من القلاع الصليبية متمثلاً في الحملة الصليبية الثالثة بقيادة ثلاثة من كبار ملوك أوروبا هم:
* فرديرك بربروسا ملك ألمانيا الذي قاد القوات الألمانية وهو في السبعين من عمره.
* فيليب أوغسطس ملك فرنسا الخادع.
* ريتشارد قلب الأسد ملك إنجلترا.
وغرق بربروسا حين نزل ليستحم وهو في الطريق في أحد الأنهار الصغيرة بآسيا الصغرى وانتهى الأمر بمشاركة الألمان في الحملة بصورة رمزية وسرعان ما ظهر أن فيليب أغسطس المستخف الماجن لا يريد سوى التظاهر بقتال المسلمين لأنه كان تواقًا للعودة إلى وطنه لكي يواصل نسج مكائده ضد الملك الإنجليزي، أما ريتشارد فقد اخذ الحملة بجدية شديدة ومع ذلك فإن الحملة لم تنجح سوى في استرداد عكا بعد معارك مضنية وعنيفة.
لقد كشفت الحملة الثالثة عن أن اهتمام ملوك أوربا وحكامها بمصير الصليبيين في الشرق قد بدا يتراجع أمام اهتمامهم برعاية مصالحهم الأسرية والإقليمية وهو تيار أخذ يشتد بحيث لم يكن معظم حكام أوروبا يقدمون للحركة الصليبية ما هو أكثر من الدعم الهامشي.
انتهت معارك الحملة الثالثة بعقد هدنة بين صلاح الدين وريتشارد سنة 588هـ/1192م هي التي عرفت باسم صلح الرملة وكانت بنود هذا الصلح تكريسًا لحقائق توازن القوى على الأرض ولم تحقق الحملة الصليبية الثالثة شيئًا يذكر للفرنجة، وبعدها عاد ريتشارد إلى بلاده وبعد الهدنة بسنوات ثلاث توفي صلاح الدين، وبوفاته تفسخت دولته بسهولة وسرعة فقد كان هذا لرجل الفذ هو الذي يحفظ الدولة من التفسخ ولم يكن هناك مبدأ سيأسى متوارث أو نظام داخلي متناسق شد أطراف مملكته الواسعة إلى بعضها وسرعان ما ساد التوتر بين الورثة من أبناء البيت الأيوبي وهو أمر كانت نتيجته الحتمية أن تمتعت المملكة اللاتينية على أرض الشام بالسلام لفترة تقرب من عشر سنوات.
وكان واضحًا أن قوات الصليبين لم تكن ندًا للمسلمين ومن ثم انعقد أمل المملكة الصليبية على قدوم حملة جديدة من أوربا تفتح لهم مجالاً للتوسع، وإذا خيبت الحملة الصليبية الرابعة آمال المستوطنين اللاتينيين في الشرق العربي باتجاهها إلى القسطنطينية واستولت على الإمبراطورية البيزنطية كلها سنة 1204م ثم توجهت مجموعة ضئيلة من جنود هذه الحملة إلى فلسطين لتنضم إلي سكان ما بقى من الكيان الصليبي وبعد عدة تقلبات جاءت الحملة الصليبية المعروفة بالخامسة لكي تفتح فصلاً جديدًا في تاريخ الوجود الصليبي إذ كان الهدف الأساسي لهذه الحملة في مصر فقد كانت هناك أسباب عديدة تحفز الصليبين على الهبوط في دلتا النيل بدلاً من ضفاف الأردن وأهم هذه الأسباب الرغبة الجامحة من جانب المدن الإيطالية التجارية (الممول الرئيسي لهذه الحملة) السيطرة على السوق التجارية.
أما السبب الثاني فكان نابعًا من المذهب السياسي العسكري للصليبين والذي كان يرى في القضاء على مصر أو تحيدها على الأقل ضمانًا للوجود الاستعماري الاستيطاني الصليبي، حقًا لم تكن هذه هي المرة الأولي التي يقصد فيها الصليبيون غزو مصر أو ضمها للأملاك اللاتينية في الشرق ولكن بينما كان هدف حملات أمالريك (عموري) في القرن الثاني عشر تهدف إلى ضم مصر أو تحويلها إلى دولة تابعة لمملكة بيت المقدس، كان هدف الحملة الخامسة هو استرداد الشرف العسكري والهيبة اللذين فقدهما الصليبيون فوق تراب حطين وكان في ظن الصليبين إجبارها على الدخول في معاهدة سلام تشترط عودة المملكة الصليبية إلى حدودها القديمة.. ولكن الحملة انتهت بالفشل واضطر اللاتين إلى التخلي عن أحلامهم ثمنًا لحريتهم.
وعلى الرغم من كل شيء تجمعت حملة جديدة بقيادة فردريك الثاني الذي كان يحمل لقب "ملك بيت المقدس" بعد زواجه من إيزابيلا ابنة حنا براين، ولكن فردريك كان صقليًا أولاً وأخيرًا مما يعني أن الإسلام بالنسبة له لم يكن مجرد كتاب مغلق فضلاً عن أن المسلمين في نظره لم يكونوا مجرد قوم من الكفار يستحقون الفناء ولهذا كانت تصرفاته إزاءهم تختلف عن تصرفات من سبقوه، وقد نجح فرديرك بفضل المشاكل التي كان السلطان كامل الأيوبي يواجهها في مصر والشام في عقد اتفاقية مع هذا السلطان كان من أهم شروطها عودة القدس إلى الصليبين ومن حسن الحظ للصليبين في تلك الفترة أن تمزقت الجبهة العربية الإسلامية من جديد، ففي الوقت نفسه كانت طبول الحرب التتارية يتردد صداها في المنطقة أخذت جحافل التتار الظالمة تطوى بلدان العالم الإسلامي في الشرق واقتربت قعقعة حوافر الخيول التترية من منطقة الشرق العربي في وقت تحالف فيه الصليبيون والأيوبي في دمشق ضد الأيوبيين في مصر واستعان المصريون بالخوارزمية الذين كانوا يبيعون سيوفهم لخدمة حكام الشرق الإسلامي بعد أن قضى المغول على دولتهم في المناطق القريبة من البحر الأسود وفى المعركة التي دارت بالقرب من غزة لاقى اللاتين هزيمة قاسية على أيدي المصريين والخوارزميين واستعاد السلطان الصالح نجم الدين أيوب مدينة بيت المقدس سنة 1244 م لتظل مدينة عربية حتى استولى عليها العدو الصهيوني في العصر الحديث.
كانت آخر حملة صليبية كبرى هي تلك التي قادها لويس التاسع ملك فرنسا ضد مصر سنة 1248م وانتهت بكارثة راح ضحيتها الجيش الصليبي عن بكرة أبيه وتم أسر الملك لويس نفسه في دار لقمان بالمنصورة واضطر شراذم الصليبين إلى الرحيل لقاء فدية كبيرة لملكهم وأسراهم بلغت حوالي مليون قطعة ذهبية، ومنذ ذلك الحين أصمَّت أوروبا آذانها أمام كل نداء جاءها من الصليبين في الشرق طلبًا للمساعدة.
وفي تلك الأثناء ولدت سلطنة للمماليك في مصر والشام لتكون القوة المدافعة عن العالم الإسلامي، وفي رأينا أن هذه السلطنة العسكرية الطابع كانت هي الإفراز السياسي الكبير للحروب الصليبية وإذا كان البعض يعتبر أن شجرة الدر هي أول سلاطين المماليك فإن الظاهر بيبرس البندقدراي كان هو المؤسس الحقيقي لهذه الدولة.
فبعد القضاء على الخطر المغولي في بلاد الشام أحاط المصريون ببقايا المستوطنات الصليبية من كل اتجاه ولم يعد بوسع أوروبا أن تقدم شيئًا لمساعدة المستوطنين الصليبين في المنطقة العربية، ذلك أن مشكلات الحكم والاقتصاد والثقافة الأوربية امتصت طاقات الأوربيين وما تبقى من هذه الطاقة لمؤازرة الحركة الصليبية وجَّهَتْهُ البابوية ضد أعدائها وخصومها السياسيين داخل القارة الأوربية نفسها وأخذ الوجود الصليبي يتلاشى رويدًا رويدًا تحت وقع الضربات الإسلامية فتم الاستيلاء على إنطاكية سنة 1286 م وطرابلس 1289م ثم سقطت عكا آخر المعاقل لصليبية سنة 1291 م وفي أغسطس من العام نفسه هجر الفرسان الدواية قلعة الحج التي كانت أعظم القلاع الصليبية وكان هذا هو فصل الختام بالنسبة للعدوان الصليبي الاستيطاني على الأرض العربية وإن لم يكن نهاية للعدوان الذي استمر في أخريات العصور الوسطى انطلاقًا من قواعد الصليبين في قبرص ورودس حتى قضى سلاطين المماليك عليهم في القرن الخامس عشر.
* هذه هي الخطوط العريضة للمواجهة الطويلة المضنية بين شعوب المنطقة العربية والعدوان الصليبي وقد انتهت هذه المواجهة الطويلة بانتصار العالم العربي في تلك الحروب كظاهرة تاريخية وما طرحه المؤرخون من تفسيرات لأسباب هذه الحروب والعوامل والدوافع التي حركت أحداثها ثم ما نتج عن هذه الحروب والعوامل والدوافع التي حركت أحداثها، ثم ما نتج عن الحروب من آثار تركت بصماتها على العالم العربي والغرب اللاتيني.
هذه كلها تضع أمام المهتمين بتاريخ العلاقات الدولية من ناحية كما تقدم لنا نموذجًا فريدًا لدراسة ظاهرة الاحتلال الاستيطاني وما يختص منها بمحاولة زرع كيان استيطاني عدواني في محيط حضاري وبشري مختلف إذ أن دراسة الحركة الصليبية تكشف عن أهم مقومات النجاح لمثل هذا الكيان كما توضح من ناحية أخرى أهم عوامل الفشل والإخفاق، ذلك أن التفكك والتشرذم بين شعوب المنطقة يعتبر من أهم عوامل النجاح الذي حققه الفرنجة، والعكس صحيح تمامًا فالوحدة العربية كانت من أهم أسباب فشل الكيان الغريب، كما أن توازي مصالح الكيان الاستيطاني مع مصالح الظهير الحضاري والبشرى المساند له عنصر آخر حاسم في دعم وجوده ثم تأتي عوامل أخرى مثل الاعتماد على القوة العسكرية الرادعة وإمكانيات النمو الذاتي التي تلعب دورًا غاية في الضآلة بسبب طبيعة مثل هذا الكيان، ومع ذلك فإن التغيرات الدائمة في حركة العلاقات الدولية يمكن أن تؤدي إلى عدم توازي مصالح كل من الكيان الاستيطاني والظهير المساند، كما أن القوة العسكرية يزول تأثيرها باتحاد شعوب المنطقة مما يجعل قوتهم العسكرية أكثر تفوقًا، أما إمكانيات النمو الذاتي أمرٌ قد يبدو مستحيلاً في حالة عدم تحول شعوب المنطقة إلى توابع اقتصادية للكيان الدخيل.
ولعل المشروعات التي تطرحها الدوائر الصهيونية والأمريكية من حين لآخر لتمويل شعوب المنطقة العربية إلى توابع تدور في فلك الكيان الصهيوني والتشبث بإبقاء العالم العربي سوقًا مفتوحة أمام بضائع الرأسمالية العالمية فضلاً عن الاستحواذ المباشر وغير المباشر على القدرات والموارد الاقتصادية للمنطقة العربية أهمها البترول والسيطرة على القرار السياسي لحكام المنطقة كل هذا في تصورنا ناجم عن القراءة الصهيونية الواعية لتاريخ الحركة الصليبية بشكل خاص والتاريخ العربي بشكل عام.
احتلت قصة الحروب الصليبية حيزًا كبيرًا من اهتمامات المؤرخين والباحثين ومنذ بداية الحركة الصليبية حتى الآن، ما تزال الدراسات لهذه الظاهرة التاريخية توالى بكثرة وتنوع مثير وقد ساهم المسلمون والمسيحيون واليهود في هذه الدراسات وبينما يبدو اهتمام كل من المسلمين والمسيحيون بالموضوع منطقيًا يثير الموقف اليهودي من الحروب الصليبية عديدًا من علامات الاستفهام.
اقرأ أيضا:
كرب ما بعد الصدمة PTSD / الحركة الصهيونية كمشروع غربي