لم يمنعها تقدم العمر من لقاء نصف العائلة الغائب على الجانب الآخر للوطن نكهة خاصة لا يتذوقها إلا من عاش غصة الإبعاد منه مثلي، وللحرية مذاق لا يتحسسها إلا من ذاق مرارة الأسر؛ وفلسطين ليست وطنا عاديا فهي أمة في وطن ووطن في أمة، وحبنا لها عشق يتوسد القلوب والمآقي؛ وفلسطين الأمة تحمل فلسفة الأمل والألم والبقاء، فيحتل حبها كل دواخلنا النفسية والعقدية والإنسانية.
مهما ارتوينا من هذا الحب حتى الثمالة فلن نشبع منه أبدا، وكلما تجرعنا كؤوس الحرمان في الابتعاد عنها ازددنا ولها وعشقا وهياما إلى ثراها الطاهر. فلسطين تسكن ذواتنا دون أن نسكنها.
خمس سنوات مُنعت فيها من العودة إلى أسرتي وأهلي ووطني، خمس سنوات مرت بحلوها ومرها لم أنس فيها نكهة الوطن الغائب لم يغب عن عيني، اشتقت إلى كل شيء فيه؛ وجه أمي وإخوتي، ثرى غزة، وجوه الناس، ضحكاتهم، أزقة الشوارع، طعام أمي وصراخ أبناء إخوتي، كل شيء وأي شيء هناك يعني الكثير بالنسبة للغريب عن وطنه.
انتفاضة إنسانية:
وبعد سقوط آلاف الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى، يخرج المحتل مدحورا، وتفرغ الكيبوتزات الاستيطانية من الاحتلال، 38 عاما عاش فيها أهل قطاع غزة في سجن كبير لا يسمح لهم بلقاء ذويهم على الطرف الآخر سواء المصري من الجنوب باتجاه رفح، أو الشرقي باتجاه الضفة الغربية.
تقطعت في تلك المدة أواصر الأسر الفلسطينية ومُزق شملها، وأصبح الجسد الفلسطيني يئن مما ألم به من عذابات الاحتلال، وما إن خرج المستوطنون من قطاع غزة حتى حدثت انتفاضة إنسانية هرع خلالها الشعب الفلسطيني إلى كسر حواجز القهر الاحتلالي وعبروا الحدود ما بين رفح المصرية ورفح الفلسطينية فحدث تخصيب للمشاعر الممتدة بين الشعبين المصري والفلسطيني، وأعلنوا للعالم كله أنه شعب واحد لا شعبان، أمة واحدة لا أمتان، فكانت بارقة الأمل في لقاء أهلي وأسرتي حتى ولو عن طريق التسلل إلى وطني وقد كان.
معجزة اللقاء.. إنها أمي
سيدة فلسطينية مثل ملايين الأمهات الفلسطينيات، ترى في ملامحها كل تقاسيم الحب والود والعطاء، كانت تدرب النساء في عام 1967 على حمل السلاح، ذات باع طويل مثل كل سيدات فلسطين في النضال، قوية الشكيمة، منطقية الحجة، باسمة الثغر، وفية الوعد، بسيطة في كل شيء، ليست صاحبة رؤى معرفية أو مقاربات فكرية، أو حتى اتجاهات أيدلوجية.
سيدة جميلة في عشقها لوطنها، ولأمتها، ولدينها، وفية لزوجها وأبنائها، تتلفّح بثوب الإخلاص، وجهها النوراني يجعلك تصدق كل ما تقول.. إنها أمي، مع بزوغ الفجر أخبر أخي والدتي أنه يمكن أن يتسللوا عبر ثغور في مدينة رفح حتى يصلوا لمدينة العريش وهناك يسهل مقابلة ابنتهم التي حرمهم الاحتلال من لقائها طيلة خمس سنوات، اتصلوا بي في الخامسة صباحا، فشددت الرحال إلى العريش وانتظرتهم هناك.
تحدت أمي كل عوامل الضعف التي تملكت صحتها، وقهرت عامل الزمن الذي أجهدها فتسلقت الأسوار برغم معاناتها الصحية، وتجاوز اشتياقها لابنتها كل المسافات المتعثرة، وهناك في مدينة العريش كان انتظاري لها ولأخي نمر، ويا لصعوبة دقائق الانتظار، أصعب لحظات حياتي، لم يأتوا بعد، انقطع الهاتف بيني وبينهم، وإخوتي في غزة لا يعرفون شيئا، ولا أريد أن أسبب لهم قلقا، رفعت رأسي للسماء أسأل الله لهم السلامة وأن يجمعني بهم، ما هي إلا لحظات حتى رن جوالي وإذا بنمر أخي: وينك زينة؟ أنا في موقف السيارات يا عمري وأنا كمان بالموقف، فما إن استدرت حتى وجدته طائرا نحوي هو وأمي يصرخون.. زينة.
تعانقنا فمزقت أصوات صرخاتنا كل سياط الاحتلال المسلطة على رقابنا، عشنا حالة من الذوبان، والشوق، فتسمرت أقدامنا فلم نستطع الحراك، وبكينا حتى أشهدنا السماء على حبنا، وسجدنا جميعا شكرا لله عز وجل، أخيرا يا زينة ربنا استجاب لدعائي و"شُفْتِك"، الآن أموت وأنا "مطمنة" عليك.. لا تقولي هكذا يا أمي فسوف أعود إن شاء الله إليكم وأعيش بينكم، هانت يا أمي.. لكن الثمن "غالي" يا زينة، شهداء ودماء وجرحي ودمار وغربة ووو...، هذا هو ثمن الحرية يا والدتي أنسيتِ كلامك لنا "إن للأوطان ضريبة لا بد من أن نسددها"، هل تريدين أن نتهرب من ضريبة حب الوطن أنسيت يا أمي؟.
نظرت إلى تقاسيم وجه أخي نمر الذي أصيب في الانتفاضة وأجريت له ما يزيد عن 20 عملية جراحية صادق فيها الموت، وعرف قيمة الوطن، ودفع الضريبة المؤجلة لوطننا، وبرغم كل ذلك عبر الحدود متعاليا على كل جراحه لكي نلتقي هناك.. وقد كان.
ويتبع >>>>: الطريق إلى غزة.. عندما تسللت إلى وطني2