حكم الإسلام في القومية العربية
تعتبر وقفة العرب بجانب الحلفاء ضد تركيا المسلمة نقطة تحول كبرى في الفكر القومي والتجمع على أساس القومية. إذ لم يكن الإنجليز يحلمون في يوم من الأيام أن يقف العرب بجانبهم ككفار ضد بني دينهم وعقيدتهم. يقول لورنس(40) (رجل المخابرات البريطاني وملك الصحراء العربية كما يسمونه): (وأخذت أفكر طيلة الطريق إلى سوريا وأتساءل هل تتغلب القومية ذات يوم على النزعة الدينية؟ وهل يغلب الاعتقاد الوطني المعتقدات الدينية؟ وبمعنى أوضح هل تحل المثل العليا السياسية مكان الوحي والإلهام وتستبدل سوريا مثلها الأعلى الديني بمثلها الأعلى الوطني).
ويعتبر الغرب هذا الموقف نقطة تحول إلى مرحلة جديدة في التفكير القومي. كتبت الايكونومست في حزيران سنة 1962 تحت عنوان (الإسلام ضد القومية)(41) ما يلي: (لقد وضع العرب منذ الحرب العالمية الأولى القومية في المكان الأول حين قاتلوا بجانب الإنجليز الكفار - من أجل التحرر من المسلمين الأتراك. وباستثناء البقية الهزيلة من الإخوان المسلمين فليس هناك في العالم العربي اليوم أناس ذو تفكير سياسي يضعون مجتمع الدول الإسلامية فوق قوميتهم العربية).
ولكن بعد الحرب الأولى وإن كانت التجربة القومية مريرة إلا أنه برز عامل جديد وهو: جثوم الاستعمار بثقله على كاهل العالم العربي وأصبح هذا العامل وترا جديدا يعزف عليه دعاة القومية ومفكروها، خاصة بعد ازدياد الهجرة اليهودية إلى فلسطين وقيام ثورة سنة 1936 الفلسطينية. فهناك نقاط بارزة مابين الحربين الأولى والثانية أدت إلى ازدياد التفكير القومي أهمها:
1- الاستعمار البريطاني والفرنسي وقد نقل معه:
أ- العلمانية (اللادينية) إلى أجهزة الدولة ورفع الطبقة الممزقة اجتماعيا، المنفلتة أخلاقيا، المستعدة للنفاق وإيقاد البخور وإشعال الشموع للحاكم الجديد.
وأصبحت هذه الطبقة هي المستعمر الجديد وإن كانت من أبناء المنطقة.
ب - المناداة بالأفكار القومية كبديل للإسلام وكأساس للتفكير والتجمع، والتنفير من الاتجاه الديني وأخذ العبرة من التاريخ الأسود المرير لرجال الدين في العصور الوسطى في أوربا.
ج- أصبح نغم التحرر من الاستعمار مادة دسمة للطبقات الناقمة على الإسلام والتي تريد أن تجعل من بعض فترات الحكم التركي صورة للإسلام، الذي يمثل الجمود والتأخر والانحطاط!؟؟
2 - إسقاط الخلافة على يد مصطفى كمال أتاتورك وما تبع ذلك من تفكير جدي بإنشاء تنظيم حركي إسلامي لإعادة الخلافة وقيام حركة (الإخوان المسلمين) على يد حسن البنا.
3 - بروز التفكير القومي على شكل تنظيمات يقودها النصارى وبرز حزب البعث، والقوميون العرب، والقوميون السوريون على السطح، وكانت الجامعة الأمريكية محضنا دافئا لكثير من هذه الأفكار.
حزب البعث العربي الاشتراكي
تكون حزب البعث العربي الاشتراكي من حزبين:
1- حزب البعث العربي: وقد أسسه الأرسوزي وعفلق.
2- الحـزب العـربي الاشتراكـي: الذي أسسه سنة 1938 عثمان الحوراني ثم آلت قيادته إلى أكرم الحوراني. وقد انضم أكرم الحوراني سنة 1936 إلى الحزب السوري القومي وانسحب منه سنة 1938 لينضم إلى حزب الشباب العربي الاشتراكي.
وفي 26/1/1952 انضم الحزبان الأول والثاني فكونا حزب البعث العربي الاشتراكي.
حزب البعث العربي: اختلف في المؤسس فمنهم من قال ميشيل عفلق وصلاح البيطار، ومنهم من قال زكي الأرسوزي، إلا أن حركة 32 شباط التي عملها صلاح جديد النصيري سنة 1966 في سوريا أحلت الأرسوزي أبا روحيا للحزب.
والبعث هو وارث (عصبة العمل القومي) وهي عبارة عن نواة تنظيمي كل من عفلق والأرسوزي، وقد بقيت هذه العصبة من 1932-1939.
سنة 1939 انسحب الأرسوزي منها وشكل الحزب (القومي العربي).
زكي الأرسوزي: رجل نصيري، ملحد، لا يتكلم العربية متأثر بمبادئ الثورة الفرنسية وبالنازية خاصة كتاب نيتشه (هكذا تكلم زرداشت عن موت الإله ونشوء الإنسان السوبرمان)، بدأ يتعلم العربية بعد سنة 1940، وكان الأرسوزي يرى الجاهلية العربية مثله الأعلى ويعتبرها المرحلة العربية الذهبية.
يقول سامي الجندي (ناقشته سنة 1946 بالقرآن فعاب علي نزعتي الدينية)(43): (مبادئ حزب البعث المنقولة عن مبادئ الحزب القومي الذي شكله الأرسوزي سنة 1939 رمزه النمر:
1- العرب أمة واحدة.
2- للعرب زعيم واحد يتجلى من إمكانات الأمة العربية يمثلها ويعبر عنها.
3- العروبة وجداننا القومي. مصدر المقدسات، عنه تنبثق المثل العليا، وبالنسبة إليه تقدر قيم الأشياء.
4- العربي سيد القدر، وفسرها الأرسوزي مستشهدا بالإنجيل (لا تسقط شعرة من رؤوسكم إلا بأمر أبيكم الذي في السموات). يقول الجندي (44): (وفي 92/11/1940 كنا في غرفة، فقال الأرسوزي: أرى أن نؤسس حزبا نسميه حزب البعث العربي). أصبحت مبادئ الحزب القومي هي مبادئ حزب البعث العربي هي هي(45).
ويقول سامي الجندي: (كنا عصاة تمردنا على كل القيم القديمة، أعداء لكل ما تعارف عليه البشر، ألحدنا بكل الطقوس والعلاقات والأديان)(46).
(أتهمنا بالإلحاد وكان ذلك صحيحا أيضا رغم كل ما زعم البعثيون فيما بعد من مزاعم التبرير)(45).
أما مشيل عفلق: فكان متأثرا بنتشة (Andray Geed) وأندرية وجيد، أعطاه الأول الثورة والثاني الأسلوب، وغذيا فيه القلق الذي وسم حياته السياسية بالتأرجح والتردد.
كان عفلق كسولا في مظهره، كان الحزب تعبيرا عن إنسانيته فتجلت في الحزب منذ الأيام الأولى مواهبه وضعفه، وفي عفلق طيب الفنان وعصبيته وقرفه وسوء ظنه، إن تناقض عفلق قتل الفنان ولم ينقذ السياسي(46).
في آذار سنة 1949 جاء حسني الزعيم فأيده البعث، ثم اختلفوا، فألقى بمشيل عفلق في السجن، فكتب مذكرة استعطاف له فخرج، ثم جاء الحناوي بعد حسني الزعيم فاختار ميشيل عفلق وزيرا للمعارف فاغتنمها فرصة ليرسل البعثيين في بعثات دراسية إلى فرنسا، فعادوا واستلموا الجامعات والإدارات.
كان الصراع على أشده بين قادة الحزب حتى أنه في انتخابات سنة 1955 للمؤتمر القطري كانوا يقولون: (عفلق جاسوس إنجليزي والحوراني فرنسي والبيطار عميل لأكثر من دولة) (47). أما الاتهامات بالسرقة والجرائم الخلقية فحدث عنها ولا حرج. وهنا نسجل بعض الملاحظات:
1- لقد كان الحزب مأوى يتجمع فيه كل الناقمين على الإسلام أوالطامعين في الحكم: فانتبه النصيريون إليه ودخلوه ليكون سلما إلى دولتهم النصيرية، ودخل فيه الاسماعيليون مثل سامي الجندي وعبد الكريم الجندي.
والدروز: مثل سليم حاطوم، واليهود: مثل أحمد رباح الذي كان رئيسا للحزب في دمشق، وأيلي كوهين(48): ضابط المخابرات الإسرائيلي الذي ذهب إلى الأرجنتين وأقام صداقة مع أمين الحافظ ثم دخل سوريا باسم (كامل أمين ثابت) وسكن حي (أبو رمانة) في دمشق، وأصبحت شقته الحصن الحصين الذي يأوي إليه قادة البعث، وفوق أسرة كوهين شرب نخب النصر سليم حاطوم وعبد الكريم زهر الدين يوم الانقلاب البعثي (8 آذار 1963)، وعرضت على كوهين الوزارة واستشار بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل فلم يوافق. وكان يسمى الشاب الثوري الأول، وكان الشخص المدني الوحيد الذي يدخل المطارات والقواعد العسكرية، وأخيرا اكتشفت السفارة الهندية أنه يهودي من خلال الإشارات اللاسلكية التي يرسلها إلى إسرائيل يوميا، وكانت فضيحة عالمية وحوكم كوهين وكان الذي يحاكمه هم تلاميذه وربائب حجره - ولعله وعد بأن يخلي سراحه إذا أخفى مصائب الحزب البعثي الحاكم.. وكان سليم حاطوم هو رئيس المحكمة العسكرية التي حاكمته وبسرعة فائقة طويت القضية وأعدم كوهين ليطوي في صدره مآسي ونكبات الصبية البعثيين الذين تديرهم اليهودية العالمية من خلال المرأة والكأس.
2- إن المؤسسين لحزب البعث ليسوا مسلمين أصلا: فزكي الأرسوزي نصيري ملحد، وميشيل عفلق نصراني - قيل أنه يوناني الأصل.
3- إن مبادئ حزب البعث كفر صريح: (العروبة مصدر المقدسات عنه تنبثق المثل العليا، وبالنسبة إليه تقدر قيم الأشياء، العربي سيد القدر)، المثل العليا هي العروبة وليس الإسلام أو القرآن والسنة. وكان أتباع البعث الأوائل ملحدين، أعداء للأديان جميعا. (لقد كنا خوارج على الشرائع التي تعارف عليها الناس فنسفناها جمعيا) (49).
5 - إن الحزب رغم ادعائه القومية والوطنية لم يعد دراسة عن القضية الفلسطينية (49) أخطر قضية عربية في العصر الحديث.
6- لقد تسلق النصيريون على سلم البعث: فاستطاعوا أن يستلموا البلد عسكريا ومدنيا، وفي 32 شباط سنة 1966 قام صلاح جديد - النصيري بحركته التصحيحية - أي إقصاء عناصر أهل السنة من مراكز القوى، وفي سنة 1970 عندما جاء حافظ الأسد جعل الدولة نصيرية خالصة.
7 - إن الأحزاب القومية ليس لها أيديولوجية (عقيدة): تجاه الكون والإنسان والحياة ولذا بقيت إطارا فقط دون مضمون ولذا اضطرت أن تملأ فراغها العقائدي بالماركسية والاشتراكية، ولذا فإن الأحزاب القومية كلها أصبحت:- (عربية الإطار والمظهر، شيوعية الحقيقة والمخبر) وهذا الذي أقر به جلال السيد في كتابه (حقيقة القومية العربية)(50): بأن هنالك تيار عفوي قام بصياغة المواضيع الاقتصادية، لأن الرواسب قد أطلت تحت ستار التقدمية والاشتراكية، وبأن الشيوعية هي حقيقة هذا التيار.
8 - لقد انتحر الحزب بمجرد وصوله إلى الحكم: ولقد انتقد ميشيل عفلق سنة 1965 في سوريا تسلط العسكريين على الحزب وإقصاء المدنيين من اللجان المركزية للحزب، فطرد عفلق بل حكم عليه بالإعدام هو والمؤسس الآخر صلاح البيطار، ثم لوحق البيطار حتى اغتالته النصيرية في باريس سنة 1981، وأما عفلق فقد احتضنه البعث العراقي بعد وصوله إلى الحكم في انقلاب 1968 على عبد الرحمن عارف. فجاء به تلميذه صدام حسين الذي أصبح نائبا لرئيس الجمهورية ثم بالتالي رئيسا لجمهورية العراق.
وقد سئل الرئيس صدام حسين - في مقابلة صحفية له طبعت ووزعت في الأردن سنة 1981. ما علاقتك بمشيل عفلق؟ فرد صدام: (علاقة الابن بأبيه ولولا ميشيل ما كان صدام شيئا). ومن المعروف أن صداما كان حارسا خاصا لميشيل عفلق من بداية الستينات. وكان ميشيل يستعمله لتصفية خصومه السياسيين. وفي سنة 1979 صفى الرئيس صدام حسين - منذ الأيام الأولى لحكمه - معظم قادة الحزب لمعارضتهم المبدئية لرئاسته. وكتب عن مأساة الحزب بعض قادته مثل الدكتور منيف الرزاز (التجربة المرة) ومطاع الصفدي (حزب البعث مأساة المولد ومأساة المصير).
لقد انتهى الحزب في سوريا إذ تسلق عليه النصيريون ثم قتلوه، وأصبحوا يتفكهون بالتعدي على كل الأديان والقيم والمبادئ. فاستعانوا أولا بذراري المسلمين الداخلة في حزب البعث ثم صفوهم تدريجيا. وأصبح الكفر هو شعار الدولة في كل الأجهزة: كتب إبراهيم خلاص في مجلة جيش الشعب السورية 25/4/67 (والطريق الوحيد لتشييد حضارة العرب وبناء المجتمع العربي هي خلق الإنسان الاشتراكي العربي الجديد الذي يؤمن أن الله والأديان والإقطاع ورأس المال والاستعمار والمتخمين وكل القيم التي سادت المجتمع السابق ليست إلا دمى محنطة في متاحف التاريخ)(51). وقال شفيق الكمالي يمدح صداما: (تبارك وجهك القدسي فينا كوجه الله ينضح بالجلال)، وعندما دخلت قوات البعث حماة سنة 1964 كانت تهزج قائلة: (هات سلاح خذ سلاح دين محمد ولى وراح)، وفي سنة 1980 خرجت سرايا الدفاع والحزبيون يهتفون (يسقط الله)، (الأسد ربنا)، (لا إله إلا الوطن ولا رسول إلا البعث) (52). وأما النصيريون فكانوا يهتفون في جسر الشغور (لا إله إلا ساجي - بن سليمان المرشد -).
9 - لقد ابتدأ حزب البعث مع بداية الحرب الثانية 1939: وكانت النازية والفاشية تملأ برنينها العالم ولذا فقد تأثر.. فمثلا زكي الأرسوزي متأثر بنيتشة فيلسوف النازية خاصة كتابه (هكذا تكلم زرداشت عن موت الإله....)، وأما عفلق فهو متأثر كذلك (بنيتشه) وجيد. فجاءت أفكارهم تلخيصا للإلحاد والقلق الذي كان يعاني منه نيتشه الذي كان يسمي النصرانية (دين الكلاب العرجاء) (53).
وأهم سمات فلسفة نيتشة تتلخص في ثلاث نقاط:
1- الإلحاد.
2- إن فكرة القيامة هي التي جعلت من النصرانية (أخلاق عبيد) إذ أن حقد الضعفاء تجاه الأقوياء جعلهم يوحون لهم بفكرة الآخرة فاستسلم الأقوياء للأساطير وعم ظلام النصرانية العالم.
3 - إلياس والقلق: اللذان هما شرطان دائمان للعظمة الإنسانية (54).
وإليك مقارنة بين كلام عفلق وكلام النازية والفاشية(55):
1 - (البعث قدر الأمة العربية) يقابل كلام موسوليني (الفاشستية هي قدر الأمة الايطالية) وهو الحق الإلهي عند هتلر، وهو نفس كلام تروتسكي (إن الحزب الشيوعي لا يخطئ لأنه تجسيد للحتمية التاريخية).
2- (إن عقيدة البعث لا يمكن الوصول إليها بالعقل ولكن بالإيمان وحده) يقابل كلام موسوليني (الفاشية لا تناقش إنها تدرك بالإحساس).
3- (إن القدر الذي حملنا رسالة البعث أعطانا الحق في أن نأمر بقوة ونتصرف بقسوة)، وهو نفس كلام موسوليني (إن القدر الذي حملنا رسالة الفاشية أعطانا الحق في أن نأمر بقوة، ونتصرف بقسوة).
4 - (إن البعث هو الطليعة، وعلى الجماهير أن تمشي وراءها) وهو نفس كلام موسوليني (إن الفاشية هي حكم الصفوة المختارة وعليها أن تقود الجماهير).
الهـوامـش:
(40) [مجلة المجتمع العدد 433 سنة 1979/20فبراير].
(41) [الشعوبية الجديدة ص 54].
(42) [البعث لسامي الجندي من ص 1-27].
(43) [البعث ص 28].
(44) [البعث ص26].
(45) [البعث ص27].
(46) [البعث ص34].
(47) [البعث ص 71].
(48) [إيلي كوهين من جديد/ لمحمد كشك، وجاسوس من إسرائيل لكاتب غربي]. (49) [البعث لسامي الجندي ص37].
(50) [حقيقة القومية العربية ص 379/ جلال السيد].
(51) [مقدمة كتاب العرب والإسلام للندوي].
(52) [مجلة النذير العدد 17 رجب سنة 1400 هـ شهر أيار سنة 1980م].
(53) [تهافت العلمانية د. عماد الدين خليل ص 92 نقلا عن كتاب كولن ولسن (سقوط الحضارة) ترجمة أنيس زكي ص 174-179].
(54) [المذاهب الوجودية جوليفيس ص 63].
(55) [الحلول المستوردة للقرضاوي ص 306-311 نقلا عن كتاب (التجربة والخطأ) لأديب نصور ص46-48].
ويتبع >>>>>: الانقلابات العسكرية والقومية
اقرأ أيضاً:
زفة للمطبعين (آنا بوليس) يحسبه الظمآن ماء / مجالس العشائر صحوات من سراب / دبلوماسية النهب المنظم.. رايس في أفريقيا