الوعد المشئوم... من لا يملك أعطى لمن لا يستحق... وغيرها من العبارات والجُمل التي طبعت أحاديثنا كلما جئنا على ذكر ما يُسمى بتصريح أو وعد (بلفور) وقد ورد النص التالي الموجه من وزير خارجية بريطانيا الملعون (آرثر جيمس بلفور) إلى الوغد (اللورد ليونيل وولتر دي روتشيلد):
"وزارة الخارجية في الثاني من نوفمبر/ تشرين الثاني سنة 1917؛
عزيزي اللورد روتشيلد، يسرني جداً أن أُبلغكم بالنيابة عن حكومة جلالته، التصريح التالي الذي ينطوي على العطف على أماني اليهود والصهيونية، وقد عُرض على الوزارة وأقرته:
"إن حكومـة صاحب الجلالـة تنظر بعين العطف إلى تأسـيـس وطن قومي للشـعب اليهودي في فلسـطين، وسـتبذل غايـة جهدها لتسـهيل تحقيق هذه الغايـة، على أن يُفهم جلياً أنـه لن يؤتى بعمل من شـأنـه أن ينتقص من الحقوق المدنيـة والدينيـة التي تتمتع بها الطوائف غير اليهوديـة المقيمـة الآن في فلسـطين، ولا الحقوق أو الوضع السـياسـي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى." وسأكون ممتناً إذا ما أحطتم الاتحاد الصهيوني علماً بهذا التصريح المخلص.
آرثر جيمس بلفور
هذا النص أو التصريح الذي اعتبر سكان البلاد الأصليين مجرد أقلية تكرم عليها الملعون الهالك (بلفور) بوصف "الطوائف غير اليهودية..." وتسبب بتحويل عشرة ملايين فلسطيني إلى مشردين لاجئين يبحثون عن وطنهم أو يُحاولون الحفاظ على ما تبقى منه، وحتى هذا المتبقي بات قريباً من بلعوم الوحش الصهيوني! ولكن لماذا؟
أن نحقد على بلفور ونكره سيرته وسيرة تصريحه، وأن نشعر بالألم والمرارة بمناسبة ذكرى التصريح التسعين وما قبلها منذ صدوره؛ فهذه أمور طبيعية، ولكننا نغرق دائما في الشعارات والكلام الفارغ والأحلام السخيفة والمصطلحات الممجوجة:
القانون الدولي...
الشرعية الدولية...
الحقوق المشروعة...
قوى السلام...
وغيرها من العبارات التي تلهينا أو نُحاول بها أن نُلهي أنفسنا عن سبب الكارثة الأساسي، تماما مثل من يتعاطى المخدرات كي يهرب من واقع معيشته وظروفه الخاصة، وننسى أن نسأل أنفسنا: لماذا نحن مستباحون هكذا!؟
إن ضعفنا وافتقادنا للقوة هو سـبب هواننا بين الأمم، وهذا الضعف هو الذي جعل لعيناً مثل (بلفور) يُعطي وطنناً بجرة قلم لشـذاذ الآفاق، وهذا الضعف هو الذي مكَّن هذه العصابـة من القتلـة القادمين من وراء البحار من اسـتعبادنا وتحويلنا إلى متسـولين للقمـة العيـش.
ولهذا لم أخجل ولن أخجل حينما أقول بأنني أعشق القوة... نعم كم أعشقك أيتها القوة... كم أهيم حباً بما تُحدثينه من تغييرات في هذا الكون المليء بالقتلة واللصوص الذين لا يخافون الله، وهذه تكفي كي يكون التعامل معهم بكِ وبكِ فقط أيتها القوة الحبيبية.
هل كانت العصابات الصهيونية ستحتل قرية واحدة لو كان لنا قوة؟
هل كنا سنستجدي الحصول على تصريح مرور لو كان لنا قوة؟
هل كان أي مجرم ساقط من (بن غوريون) وحتى (أولمرت) مروراً بـ (رابين) و(شارون) سيجرؤ على التطاول علينا أو حتى مجرد البقاء يوماً واحداً فوق أرضنا لولا أننا ضعفاء لا نمتلك القوة؟
هذا عالم لا يعترف بالضعفاء، وعلى الذين يتسـولون من الأقوياء الحقوق أن يثوبوا إلى رشـدهم، وصدق شاعرنا العراقي أحمد مطر:
سل كل مطاعمِ دنيانا
هل فيها أسد مسلوق؟
حقوق؟
أي حقوق؟
النمر يعربد في الغابة
والكبش يُعلق في السوق.
وأيضا قال أبو تمام -من العراق أيضا- قبل ألف عام:
السيفُ أصدقُ إنباءاً من الكتبِ *** في حدهِ الحدُ بين الجدِ واللعبِ
الخير أو الحق حمل وديع والشر ذئب ماكر، فانظر أينجو الحمل الوديع من الذئب الماكر إذا لم تكن له قوة تحميه؟
نحن أصحاب حق واضح، ولكن ما الذي قدمه لنا ما يُسـمى بالمجتمع الدولي؟
لقد أصبحنا مطالبين بأن ننبذ "العنف" ونتخلى عن "الإرهاب"، وكأننا نحن أصحاب العنف والإرهاب، لعلهم يتكرمون وينظرون ألنا حق أم لا وبالتأكيد لأننا ضعفاء فلا حق -في نظرهم- لنا!
الأمثلة أكثر من أن تُحصى: فأبناء لُكع القتلة يُلملمون عتادهم ويسعون للفرار من العراق بعدما وجدوا قوة مزقت أشلاءهم وحوَّلت مركباتهم إلى كتل من الحديد الملتهب، ولاحقت عملاءهم وطالت خناجر الرجال الأقوياء من أهل العراق نحورهم، وفي لبنان تخيلوا لو لم يكن لـ "حزب الله" تلك القوة التي تصدت لجحافلهم ومرَّغت أنف جيشهم في الوحل وردت على القوة بالقوة، لكنا الآن نطالب بانسحابهم من بيروت، أليس كذلك!؟
وعندما كانت تشـتد ضربات المقاومـة الفلسـطينيـة كان المبعوثون يُهرولون من شـتى عواصم الغرب إلى فلسـطين المحتلـة ويطلبون "التهدئـة" ويدعون إلى "ضبط النفـس"!!! ونحن لا نراهم يُهرولون الآن وخطر هدم المسـجد الأقصى يزداد يوماً بعد يوم!!! ولم يتحركوا لفك الحصار عن مليون ونصف مليون فلسـطيني في قطاع غزة!!! ولم يرف لهم جفن من أجل أحد عشـر ألفاً من الأسـرى من أبناء شـعبنا يُقمعون ويُقتل أحدهم وتُسـتخدم ضدهم أسـلحـة جديدة...!!!
فيا لغباء وحماقـة من يؤمن بأن هناك عدالـة في هذا العالم، أو أنك يُمكن أن تحصل على جزء ولو صغير من حقوقك بلا قوة حقيقيـة.
أي قوة أعني!؟
أعني بوضوح القوة العسكرية، مع عدم إغفال جوانب القوة الأخرى: العقائدية والمعنوية والاقتصادية والعلمية وغيرها، ولكن في حالة قضيتنا فالأهم هو أن نمتلك كفلسطينيين قوة نُجابه بها عدواً من نوع خطر.
ومن يُشكك بأهمية القوة العسكرية حالياً؛ فليتخيل أن (إسرائيل) قوية اقتصادياً وعلمياً وكل العالم له علاقات ودية معها، ولكنها منزوعة السلاح أو أن قوة جيشها ضعفت عما هي عليه، صدقوني لتمكن منها الفتيان الفلسطينيين وحدهم وتركوها أثراً بعد عين بلا مبالغة.
في ذكرى الوعد المشؤم من الرجل الاستعماري المجرم الملعون نستخلص أن لا حقوق سـينالها شـعبنا ولا عدالـة سـيُلامسـها إلا بوجود القوة الماديـة العسـكريـة، وغير ذلك من نظريات أو تنظيرات وفلسـفات هي مجرد ملهاة أو هروب من هذه الحقيقـة.
أما بالنسبة لي فأنا أحقد على (بلفور) وأكرهه كسائر الفلسطينيين، ولكنني أعشق القوة ومُتيم بها... فكم من الفلسطينيين مثلي!؟
واقرأ أيضاً:
بدايات الاستيطان اليهودي في فلسطين / من هم الصهاينة؟ / الحركة الصهيونية كمشروع غربي