السياسة العربية الراهنة أخطر من السذاجة السياسية العربية قبل تسعين عاماً! قبل تسعين عاماً لم يكن (بلفور) سوى وزير خارجية دولة استعمارية عتيقة يسير على خطى أسلافه ـوقد سبق أن طرحوا من قبله فكرة زرع وتد يهودي في القلب الفلسطيني من الأرض الإسلاميةـ فأعطى وعده الذي نُسمّيه مشئوما، والذي نصفـه بأنـه يمنح ما لا يملك لمن لا يسـتحق.. ثم ماذا؟..
كانت السذاجة السياسة العربية على المسرح الدولي كافية آنذاك ليتحول الوعد إلى جريمة العصر ونكبة النكبات، جنباً إلى جنب مع تحويل الإرث العثماني إلى دويلات مقسّمة تحت ألوانٍ متعددة من الوصاية الأجنبية، ولم تزل كذلك واقعياً إلى يومنا هذا.
قبل أعوام معدودة لم يكن (بوش) الابن ـوما يزالـ سوى رئيس دولة استعمارية جديدة يسير على خطى أسلافه ـوقد جعلوا من الوتد اليهودي الصهيوني في القلب الفلسطيني من الأرض الإسلامية ثكنة عسكرية أمريكية متقدّمةـ فأطلق ما أصبحنا نُسمّيه "رؤيا بوش" وما نصفه بالوعد الهلامي المخادع.. ثم ماذا؟..
كانت "الحنكة السياسية" العربية المعاصرة على المسرح الدولي كافية ليقترن تسليطُ الأضواء على الرؤيا الهلامية باحتلال العراق وتدميره، بعد احتلال أفغانستان وتدميرها، والإعداد للمزيد في السودان والصومال ولبنان وسواه، جنباً إلى جنب مع ازدياد عنفوان تنفيذ المخططات العلنية ـ وليس السرية مثل (سايكس بيكو) قديماً ـ للمزيد من التفتيت والتجزئة للدويلات والأقطار العربية والإسلامية، وهي تتحرّك بدرجات مختلفة من السرعة، نحو ما يُراد وضعه من ملامح للرؤيا الهلامية في مؤتمر أو ما يُشبه المؤتمر برعاية أمريكية تجرّ وراءها من تريد وتخلّف من تريد من "الدول" العربية.
آنذاك كانت بعض الوفود الرسمية العربية تقصد باريس لعلّها تتحرّك بشكل مختلف عمّا كانت تتحرّك به لندن، في غفلة لا عُذر لها عن حقيقة تلاقي الدولتين الاستعماريتين على مخططات التقسيم والاستعمار. واليوم تتناثر من هنا وهناك ـلاسيما في وسائل إعلام الممانعين والمتردّدين تجاه واشنطنـ مقولات مفادها أن أوروبا والأمم المتحدة وهذه الدولة أو تلك من الدول الكبيرة والصغيرة، لا تريد ما تريده الولايات المتحدة الأمريكية، لا بشأن لبنان ورئاسته ولا بشأن العراق وتقسيمه ولا بشأن فلسطين المنكوبة وحصارها، وهم في ذلك يتعلّقون بقشة أوهام لا أساس لها من قريب أو بعيد، إنّما ينحصر الخلاف بين دول الهيمنة الحديثة على توزيع الغنائم والأغنام كما كان قبل تسعين سنة دون فوارق تستحقّ الذكر..!
آنذاك لم يكن الحديث السياسي للساذجين الثائرين على بقايا الدولة العثمانية بعد فتنة "حزب الاتحاد والترقي" حديث البحث عن سبلِ مواجهةِ عدوّ يريد زرع وتد صهيوني في القلب من الأرض الإسلامية، بل كان حديث التلاقي معه على هذه الجزئية أو تلك في الحرب على بقايا السلطة العثمانية بانتظار "رؤيا" هلامية كانت تقول بقيام دولة عربية موحدة مستقلة..!
واليوم لا يدور الحديث السياسي للمستقلين المتحررين من "الحكم العثماني" و"الحكم الاستعماري" حديث البحث عن سبل مواجهة مخطط جديد من جانب عدوّ يريد تصفية قضية فلسطين وإعادة الاعتبار للمشروع الصهيوني المترنّح، بل هو حديث التلاقي مع ذلك العدوّ، سيان هل بأمل أن يتفضّل بدويلة هزيلة ضعيفة في بقية باقية من فلسطين، أو بأمل أن يتوقف مسلسل العدوان المباشر من تلقاء نفسه على مصالح العرب والمسلمين..!
تسعون عاماً.. وثلاثة أجيال سياسية وغير سياسية متعاقبة.. وما لا يحصى من النكبات بعد نكبة النكبات.. وما تزال "الرؤية السياسية" الذاتية عمّا ينبغي أن نصنع، وكيف نصنع، وضرورة التلاقي على ما نصنع، أشدّ هلامية من تلك الرؤيا الهلامية لـ (بوش) الابن، الأقرب في نسبه السياسي إلى (بلفور) من أي رئيس أمريكي سبقه، إنّما لم نعد نُسميها سذاجة سياسية، أو ضعفاً ذاتياً، كما تقول كتب التاريخ عن عصر (بلفور) البائد، بل تتجرّد أقلام الإعلام في عصر الفضائيات والأقمار الصناعية لتصوّرها غاية الغايات في الحنكة السياسية، والواقعية السياسية، بل واعتبار ما يُريد (بوش) صنعه لتصفية القضية هو عين ما طرحته المبادرة العربية "المباركة" في بيروت ومن بعد، أي أن العالم بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية، اضطر أخيراً إلى قبول ما يريد جمعُ الدول العربية من وراء تلك المبادرة..!
أليس في تلك الأقلام الإعلامية الكبيرة والصغيرة قدر من السذاجة السياسية أضعاف ما كان عند من سجّل التاريخ بداية نكبة النكبات على أيديهم؟..
ثم إن (بلفور) كان في ذلك العهد يكتب تاريخ دولته، و(بوش) الابن في الوقت الحاضر لا يودّع كرسي سلطته فحسب، بل يبحث أهل بلده أنفسهم وحلفاؤه الدوليون جميعاً عن كيفية الخلاص ممّا ورّطهم به في كل ميدان تحرّك فيه مثلما يتحرّك فيلٌ في متجرٍ للخزف..!
الدول العربية والإسلامية على تفرّقها وتشعّب السبل بسياساتها تقف اليوم على مفترق طرق تاريخي، تستطيع إذا توافرت الإرادة السياسية أن تجعل منه منعطفاً حاسماً لتحويل مجرى ما بدأ به (بلفور) قبل تسعين عاماً إلى اتجاه آخر، قد لا يحتاج إلى أكثر من عقد واحد من السنوات ـشريطة عمل دائب متواصل مدروس على المستوى السياسي وغير السياسيـ ليضع حدّاً نهائياً لمسلسل الرؤى الاستعمارية، المعادية ليس لفلسطين المنكوبة وأهلها فحسب، بل لمجموع المنطقة العربية والإسلامية دون استثناء.
فلسطين في حاجة إلى سياسة غير ساذجة، ولا مستخذية، ولا تابعة لقوة أجنبية أياً كانت، توحّد المواقف والجهود، وتوحّد الأهداف والوسائل، وتوحّد الإمكانات والطاقات الذاتية، وتوحّد الحكومات والشعوب، كحاجة العراق إلى ذلك، وحاجة الأكراد، وحاجة السودان، ولبنان، والصومال، وأفغانستان.. وقضية التطوير والتنمية، وليس شيء من ذلك وسواه في حاجة إلى مؤتمر دولي أمريكي أو غير أمريكي، لا يخرج بإعداده ومجراه ونتائجه قيد أنملة عمّا سبقه من عصر (بلفور) و(سايكس بيكو)، وما لحقهما في (كامب ديفيد) ومدريد وأوسلو.
إنّ الذين يتبعون (بوش) الابن الذي أضاف صفحات سوداء أخرى وصفحات إجرامية دامية أخرى إلى التاريخ الأمريكي، ويدخلون معه جحراً جديداً في (أنابوليس) أو أي مكان من الأرض يُريد من خلاله أن "يُلمّع" صورته للأمريكيين ولو قليلاً، إنّما يتبعون اليوم ما أراده (بلفور) قبل تسعين عاماً، ويزيدون عليه، ولقد كان ما أراده (بلفور)، وكلّ ما نشأ عنه وبُني عليه، باطلاً بمختلف المقاييس، إجرامياً في مختلف المراحل، ويستحيل أن يكتسب أي قدر من المشروعية على أيدي (بوش) الابن ومَن يسير مِن خلفه، ناهيك عن أن تحقّق الرؤيا الهلامية التي أطلقها أمناً وسلاماً، أو قدراً صغيراً أو كبيراً من العدالة، والمفروض أن يُدرك الساسة المعاصرون ومن يُروّج لكل ما يقولون مهما كان شأنه، أنّ من المستحيل أيضاً تحقيق استقرار بأي شكل من الأشكال، دون أمن ولا سلام ولا عدالة، إلا إذا كانوا يعتبرون ما صنع (بلفور) قبل تسعين عاماً بداية حقبة استقرار.. وأمن وسلام وعدالة، ومن يصنع ذلك إنّما ينكر وجه الشمس في رابعة النهار.
تاريخ طباعة المقال: 17/11/2007
نقلاً عن موقع مداد القلم
واقرأ أيضاً:
زفة للمطبعين(آنا بوليس)يحسبه الظمآن ماء / بلفور... كم أكرهك وكم أعشق القوة!/ سياسة المواجهة مؤكّدة... الحرب ممكنة.../ أنقذوا غزة