إن الأفكار الجديدة لابد لها من قيادات عسكرية تفرض أرائها بالقوة وتستبدل القومية والاشتراكية بالإسلام. ولذا فقد أوصت الدوائر الغربية في بلادنا، والمستشرقون بوجوب المجيء بقيادات شابة عسكرية يفرض من خلالهم ما يريد الغرب من مبادئ. يقول قسطنطين رزيق(56): (إن العرب لابد لهم في عهدهم الجديد من قيادة قديرة وتقدمية وأن عليهم أن ينبذوا من تقاليدهم العناصر الرجعية، وعندئذ فقط تستطيع الطائفة المستنيرة أن تواصل كفاحها ضد العناصر الرجعية بالتعاون مع الغرب). ويقول جب(57): (إن نجاح التطور يتوقف إلى حد بعيد على القادة والزعماء في العالم الإسلامي وعلى الشباب منهم خاصة).
وفكرة القومية قضية جذابة براقة تستطيع أن تخدع الجماهير بسهولة باسم التحرر والتقدم والوطنية. يقول جب(58): (إن الأسلوب الذي استطاعت به طبقة المتغربين تأمين قبضتها الثابتة على السلطة في الدولة.... فالقومية هي فكرة غربية تماما).
ومن المعلوم أن العسكريين لا علم لهم بإدارة الأمم ولا رعاية الشعوب ولا سياسة الجماهير ولذا إدارة البلاد من خلالهم. لقد وصف (ستيف ميد) المبعوث من وزارة الخارجية الأمريكية - فئة العسكر لانقلاب سنة 1952 في مصر وصفا دقيقا يصلح لكل العسكريين فيقول: (إن هؤلاء الأولاد يظنون أنفسهم أعضاء عصابة (روبين هود) الهزلية وهم فرحون بأنهم يحملون صفة (أبطال الثورة) ولكني لم أجد واحدا استطاع أن يشرح لي ما هو هدف هذه الثورة... إنهم لا يهتمون بالسياسة.. ولعل هذا من حظنا نحن وعبد الناصر معنا... إنهم بحاجة إلى من يقول لهم ماذا يفكرون ويعملون)(59). ولقد سأل بعض ضباط الجيش عبد الحكيم عامر -غداة إطلاق النار على عبد الناصر في ميدان المنشية- سنة 1954 عما حققته الثورة وأسباب الحادث فقال في صراحة: (انه لا يعرف شيئا عما تحققه الثورة، وأن جمال هو الذي خطط ونفذ وهو الذي يعرف خطوات المستقبل)(60).
ويقول مورو بيرجر في كتابه (العالم العربي اليوم): (إن النخبة العسكرية في الشرق الأدنى في مصر والسودان والعراق وتركيا وإيران وباكستان كانت عوامل هامة في جلب التغيير... فأصبح العرب متغربين بدون أن يتكلفوا الذهاب إلى أوربا). يقول مايلزكوبلاند (61): (إن عبد الناصر لو لم يكن قد ولد فإن لعبتنا كان عليها أن تخلقه) أي تربي حاكما دكتاتوريا مثله...
ولذلك فإن مناداة عبد الناصر بالقومية سنة 1954 كان بإشارة أمريكا كما بين ذلك مايلز كوبلاند -رجل المخابرات الأمريكي- ولقد كان لمناداة عبد الناصر بالقومية أثرا بالغا في العالم العربي، وما كان للقومية أن يكون لها هذا الانتشار لو لا مصر وزعيمها، ولقد مهد عبد الناصر لانتشار القومية ونجاح البعث وتغلغل الشيوعية وانحسار الإسلام من المنطقة كلها. ولكن الأفكار التي فرضت على المنطقة بالقوة اجتثت من فوق الأرض -كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض مالها من قرار- كما يقول برنارد لويس: (إن أخذ أي نظام سياسي جاهز ليس فقط من بلد مختلف بل من حضارة مختلفة وفرضه بواسطة الغربيين أو الحكام المتغربين في الشرق عمل خاطئ، فلقد فرضت الديمقراطية بأوامر وفرمانات الحاكم المطلق... فكانت النتيجة قيام نظام لا صلة له بماضي أو بحاضر البلد ولا صلة له بحاجات مستقبلة)(62).
ولقد نادى كوك ألب بفصل الدين عن لدولة (علمانية الدولة) ونادى بوجوب أخذ مدنية الغرب بحذافيرها مع الاحتفاظ بالثقافة القومية، أو بعبارة أدق ويريد إقصاء الإسلام نهائيا عن الحياة مع عدم السماح للناس أن يسموا هذا العمل إلحادا أو زندقة، بل على الناس أن يسموا هدم الإسلام والمسلمون. ويعتبر الغربيون كوك ألب (واضع الأسس النظرية للدولة التركية الحديثة) كما يقول هار ولد سمث(63).
القومية التركية
(الطورانية)
لابد قبل أن نغادر جميعه الاتحاد والترقي: وهي جمعية شكلها شباب تركيا -تركيا الفتاة- أن نقف هنيهة عند القومية التركية.
لقد بذرت البذور الأولى للقومية التركية في داخل الأكاديمية العسكرية في استانبول مع الأساتذة العسكريين الألمان الذين وفدوا إلى الكلية ليدربوا الأتراك الذين كانوا بحاجة إلى جيش قوي مدرب على وسائل القوة الحديثة وأساليب القتال العالية، خاصة وأن تركيا تقابل العالم بأسره يرميها عن قوس واحدة فقد وصلت بعثة عسكرية ألمانية سنة 3881 يرأسها الكولونيل (فون درجولسن)(64) وبقي يعمل قرابة ثلاث عشرة سنة تمت خلالها بذرة القومية.
وأما العامل الثاني لنشوء القومية الطورانية هو: هجرة اللاجئين المجريين والبولنديين إلى تركيا بعد فشل ثورتهم سنة 8481، واعتنق هؤلاء الإسلام وأصبحوا من الطبقة المتنفذة في الدولة، ومن بين هؤلاء (قسطنطين بورزيسكي): وقد سمى نفسه بعد ذلك مصطفى جلال الدين باشا، فلقد كان هذا الرجل هو رأس الأفعى القومية التي نقلت سمها إلى عقول ونفوس الأتراك. يقول برناردلويس. (ولقد عمل يورزيسكي على نقل القومية البولونية ووضعها في قالب تركي. وساعده على هذا العمل ما عرضه من أعمال المستشرقين الغربيين الباحثين في الشئون التركية... وكان لها تأثير هام في تقدير التاريخ التركي القديم، والاعتقاد بالهوية المميزة)(65).
ولا يفوتنا أن نعود فنذكر بأن جمعية الاتحاد والترقي كلهم ماسون (يهودية عالمية) وأن يهود سالونيك هم اليد المحركة لهذه الجمعية وهم داخلون فيها.
ونعود مرة أخرى فنذكر بكلام ستون وتسون (إن الحقيق البارزة في تكوين جمعية الاتحاد والترقي أنها غير تركية وغير إسلامية)(66)، فأطاحت بعبد الحميد وبتركيا وبالإسلام. ولقد كان لهذه الدعوة إلى القومية التركية أثرا سيئا انعكس في نفوس الشعوب الإسلامية التي تخضع للسيادة العثمانية وبدءوا يطالبون بالاستقلال ويشكلون الجمعيات السرية لمحاربة تركيا خاصة بعد السلوك المشين الغريب الذي سارت عليه جمعية الاتحاد والترقي وعلى رأس هذه الشعوب العرب: الذين اتخذوا من هذا السلوك مبررا للوقوف بجانب بريطانية ضد الأتراك في الثورة العربية الكبرى بقيادة الشريف حسين، وكان لها من النتائج الوخيمة على العالم الإسلامي.
يقول توينبي(67): (إن الضباط في تركيا الحميدية هي الطبقة الوحيدة التي استطاعت أن تفتح نافذة فكرية دائمة تنفذ عن طريقها التأثيرات الغربية لذلك، ففي سنة 1908 وبعد ثلاثين عاما من حكم استبدادي مظلم كان الجيل التركي الجديد من العسكريين هو رأس الحربة في هجوم الليبرالية الغربية على تركيا).
مقارنة بين القومية الطورانية والقومية العربية
لقد التقت القومية الطوروالعربية على أشياء أهمها:
1- إن الغرض من كل منهما هو القضاء على تركيا المسلمة، وعلى السلطان عبد الحميد بالذات.
2- لقد بدأت القوميتان في وقت واحد تقريبا، وإن كانت القومية العربية قد تقدمت قليلا على الطورانية.
3- القوميتان علمانيتان اتفقتا على استبعاد الإسلام عن الحياة.
4- إن كلا من القوميتين نشأتا في محاضن أجنبية، فالقومية العربية نشأت في المحاضن الأمريكية وفي الجامعة الأمريكية، بينما الطورانية نشأت في المحافل الماسونية اليهودية التي يشرف عليها اليهود الأسبان والبولنديون والإيطاليون.
5- إن الرواد الأوائل لكل من الدعوتين لم يكونوا مسلمين أصلا ولا من الجنس الذي يدعون إلى قوميته، فمثلا (بورزيكي) الذي سمى نفسه مصطفى جلاالدين -بولندي الأصل- عمل على نقل القومية البولندية وصبها في قالب تركي، ومنذ تأسيس جمعية الاتحاد والترقي لم يظهر بين زعمائها وقادتها عضو واحد من أصل تركي صاف، فأنور باشا- بولندي مرتد- وجاويد من الطائفة اليهودية (دونمة) وكراسو (من اليهود الأسبان) في سالونيك، وطلعت باشا من أصل غجري،
وأما أحمد رضا -فنصفه شركسي ونصفه مجري ومتأثر بكومت(68)، والرواد الأوائل للقومية العربية كانوا جميعا من غير المسلمين من بطرس البستاني، وناصيف وابنه إبراهيم اليازجي، والشدياق، وأديب اسحق ونقاش وشميل وتقلا وصروف وزيدان ونمر ومشاقة. كل هؤلاء على الإطلاق من النصارى، ثم جاء القرن العشرين وكان من قادتهم: زكي الأرسوزي وميشيل عفلق- قادة البعث. وأنطون سعادة وجورج عبد المسيح من قادة الحزب القومي السوري، وجورج حبش من قادة القوميين العرب. يقول الكاردينال بريتولي للبابا:(69) (إن النصرانية في الشرق هي التي زرعت الحرك الثورية وحركات التغيير، وإن أسماء ميشيل عفلق وأنطون سعادة وجورج حبش قد تفسر لك ما أعنيه).
6- إن الأصابع الماسونية -اليهودية- كانت تحرك طلائع الحركتين، بل لقد نمت الفكرة وترعرعت في المحافل الماسونية، فالخمسة الأوائل الذين أنشئوا (جمعية بيروت السرية) كلهم من الماسون، وكذلك كل الذين نادوا بالطورانية هم من الماسون.
7- هنالك بعض الرؤوس المدبرة للإطاحة بالإسلام في تركيا انتقلت لتواصل عملها في القاهرة. فمثلا عزيز المصري كان في جمعية الاتحاد والترقي ثم أنشأ (الجمعية القحطانية) و(جمعية العهد)، والحاخام اليهودي في استانبول -ناحوم حايم- انتقل إلى القاهرة بعد إسقاط الخلافة في تركيا، ولقد كان لهذا الحاخام تأثير في السياسة المصرية. فلقد كان العقاد محروما من جائزة العلم لفترة طويلة وذات يوم زار ناحوم حايم فأعطى العقاد جائزة العلم في اليوم التالي من قبل عبد الناصر. وكذلك إسماعيل أحمد أدهم(70). جاء من تركيا إلى مصر وألف كتاب (لماذا أنا ملحد) وأسس (المجمع الشرقي لنشر الإلحاد) وكانت مجلة العصور لإسماعيل مظهر تنشر أرائهم.
8- تأثرت القومية العربية بالنظريات السياسية الأمريكي، وتأثرت الطورانية بالثورة الفرنسية. يقول فيليب حتى(71): (كان من نتيجة الاحتكاك بين العقلية السورية والنتاج الفكري الغربي أن تولدت مبادئ القومية العربية الشاملة، واستمدت وحيها بالأكثر من النظريات السياسية الأمريكية، بخلاف القومية التركية التي جاءت متأخرة عن العربية والتي استمدت إلهامها من مبادئ الثورة الفرنسية).
9- لقد كانت الأصابع اليهودية بارزة في القومية التركية، ولا زال اليهود يحرصون على ربط العرب بقوميتهم. كتب سفير بريطانيا في الأستانة (لأوثر) إلى وزير خارجية بريطانيا (هادينغ) بتاريخ 29/5/1910 يقول: (في سالونيكا مقر حركة الاتحاد والترقي تركيا (تركيا الفتاة) يسكن حوالي 140 ألفا من اليهود، (80) ألفا من أصل أسباني و(20) ألفا من طائفة سبط اللاوي- اللاويين - وهم يهود تظاهروا بالإسلام، ومعظم هؤلاء اليهود الأسبانيون الأصل قد حصل في الماضي على الجنسية الايطالية، وهم ماسونيون ينتمون إلى المحافل الايطالية، فاليهودي لوزاتي وسونتيو من رؤساء الوزارة، وغيرهما من أعضاء مجلس الشيوخ والنواب هم أيضا فيما يظهر من الماسونيين، وهم يزعمون بأن محافلهم الماسونية هي فرع من المحفل الاسكتلندي القديم وتبع طقوسه، وقبل بضعة أعوام أسس (عمانوئيل قراصو) وهو يهودي ماسوني من سالونيكا ويمثل الآن مدينة سالونيكا في مجلس المبعوثان العثماني (وهو المجلس النيابي الذي يمثل كل الطوائف والطبقات من رعايا الدولة العثمانية مسلمين كانوا أو غير مسلمين) بالتعاون مع الماسونية الإيطالية محفلا في سالونيكا سمي (بالمحفل المقدوني).
ويبدو أن قراصو قد اقنع رجال تركيا الفتاة ضباطا ومدنيين بالانتماء إلى الماسونية، وهدف من ذلك فرصة النفوذ اليهودي -غير المستساغ- على الأوضاع التركية الجديدة، وإن كان يتظاهر بأنه إنما يريد مساعدة رجال تركيا الفتاة في تضليل جواسيس السلطان عبد الحميد ومنحهم الأمن في محفله الماسوني لأن هذا المحفل الماسوني ينعقد في بيت أجنبي يتمتع بالحصانة الممنوحة للأجانب في الدولة العثمانية ضد الملاحقة والتفتيش، وقد عملت الماسونية على رفع رمزي بك -وهو يهودي ماسوني- تظاهر بالإسلام إلى مركز رئيس أركان حرب السلطان محمد رشاد، وعند ما نقل السلطان عبد الحميد عين أخ لرمزي مشرفا عليه(72).
أما حرص اليهود على بقاء الشعور القومي لدى العرب فهو ظاهر خوفا من عودة العرب إلى الإسلام. يقول أبا إيبان(73) -كان وزيرا لخارجية إسرائيل- في محاضرة له في جامعة برنستون/ أمريكا: (يحاول بعض الزعماء العرب أن يتعرف على نسبة المد الإسلامي بعد الهزيمة الأخيرة، وفي ذلك الخطر الحقيقي على إسرائيل، ولذا كان من أولى واجباتنا أن نبقي العرب على يقين راسخ بنسبهم القومي لا الإسلامي).
وللحديث بقية.........
الهـوامـش:
(56) [الشرق الأدنى ثقافته ومجتمعه ص335 أنظر كتاب الإسلام والحضارة الغربية ص126].
(57) [الشرق الأدنى ص325 أنظر الإسلام والحضارة الغربية 131].
(58) [مقدمة الإسلام والغرب والمستقبل لتوينبي ترجمة صبحي الطويل ص9].
(59) [لعبة الأمم/مايلزكوبلاند/ 64، وتحليله (الدبلوماسية والميكافيلية د. محمد صادق ص199].
(60) [قصة ثورة 23 يوليو لأحمد حمروش ج2/40 وأنظر كتاب صفحات من التاريخ ج1/ 237 لصلاح شادي].
(61) [لعبة الأمم ص 124 وتحليلة (الدبلوماسية والميكافيلية) ص149].
(62) [الحلول المستوردة للقرضاوي نقلا عن كتاب الغرب والشرق الأوسط 85-86].
(63) [وجهة الإسلام هاملتون جب 358، الثقافة الإسلامية والحياة المعاصرة ص73 أنظر كتاب الإسلام والحضارة الغربية للدكتور محمد محمد حسين ص147].
(64) [يقظة العرب جورج انطونيوس ص/144].
(65) [الحلول المستوردة ص/160].
(66) [نشأة القومية، زين زين ص/86-87، أنظر الحلول المستوردة ص/164].
(67) [الإسلام والغرب والمستقبل لتوينبي ص20 تعريب نبيل صبحي].
(68) [نشوء القومية العربية / زين زين ص 85-86].
(69) [الأخبار الكويتية عدد 14 سنة 1979، سنة 1399هـ].
(70) [ذيل الملل والنحل/ محمد سيد كيلاني ص91].
(71) [الغزو الكفري/ د. علي عبد الحليم محمود ص 182].
(72) [مجلة المسلم/ محرم/ صفر سنة 1402هـ (والجماعة الإسلامية ليبيا)].
(73) [مجلة المجمع الكويتية العدد 433].
ويتبع >>>>>: اعتناق مبادئ القومية كفر ينقل عـن الملة
اقرأ أيضاً:
إمبراطوريات الشر الإعلامية / بلاك ووتر.. تجارة لقتل الأبرياء / زفة للمطبعين (آنا بوليس) يحسبه الظمآن ماء / مجالس العشائر صحوات من سراب