أخذت المجموعات العشائرية المسلحة المعروفة بـ"مجالس الصحوة" في العراق، والمدعومة أمريكياً بالمال والسلاح، أخذت تبرز على الساحة السياسية والإعلامية بقوة، وخاصة بعد بروزها على الساحة الميدانية، بعد أن سجلت نجاحات عجزت عنها قوات الاحتلال الأمريكية في مواجهتها أمام تنظيم "القاعدة" وباقي فصائل المقاومة.
ومع تحقيق هذه النتائج على الأرض، تحولت مجالس الصحوات إلى ما يشبه "طوق النجاة" أو مهدئ الأعصاب الفعال الوحيد للأمريكيين في العراق. حتى أن المحتلين أخذوا ينقلونه إلى حيث حلوا من مناطق العالم، إذ أن غاية ما يريده الغزاة هو تأمين المناطق التي يتمركزون فيها.. ففي أفغانستان ــمثلاًــ بدأ العمل على إنشاء "مجالس صحوة عشائرية" مماثلة، بل ويجري إقناع النظام الباكستاني بتعميم هذه التجربة بمناطق القبائل الحدودية مع أفغانستان.
وفي أول لقاء جرى بين ديفيد بترايوس ــقائد قوات الاحتلال الأمريكيــ وعبد الستار أبو ريشة، الذي اغتالته المقاومة فيما بعد، قال أبو ريشة مبشراً الأمريكيين: "سنقضي على الإرهابيين، وحينما نهزمهم هنا، نستطيع الذهاب معكم للقضاء عليهم في أفغانستان".
وقد صرح عسكريون أمريكيون بأن ثمة ضغوطاً كبيرة كانت تمارس ــوعلى مستويات علياــ في واشنطن، لإعادة تحقيق نجاحات "الصحوة" بمحافظة الأنبار.. بمعنى استنساخها في مناطق أخرى. وقد وصل هذا الاتجاه أقصاه في فترة التحضير للإدلاء بشهادات أمام الكونجرس أدلى بها كبار القادة العسكريين والسفير الأمريكي في بغداد. فيما بدا أن الولايات المتحدة اهتدت أخيراً إلى حلفائها الجدد، الذين سيقاتلون نيابة عنها لـ "نشر الديمقراطية"، وسينتشلوا جنودها من وحل العراق.
بدايات الشرارة الأولى
بدأت الشرارة الأولى لـ"مجالس الصحوة" في محافظة الأنبار (أكبر محافظة سنية غرب العراق) عندما عاد عبد الستار أبو ريشة من الأردن، ليقود تحالفاً عشائرياً سنياً لمواجهة "القاعدة" تحت مسمى "مجلس صحوة الأنبار".
ومنها انطلقت شرارة الصحوات إلى محافظات أخرى، مثل: ديالى، وصلاح الدين، ونينوى، وبغداد أخيراً التي تأسست بها صحوات في مناطق، الدورة، والعامرية، والسيدية، والخضراء، واليرموك، والمنصور، والجامعة، والغزالية، والأعظمية، والفضل، ومناطق حزام بغداد الشمالي والجنوبي والغربي. حتى قال جريجوري سميث ــمدير فرقة الاتصالات في الجيش الأمريكيــ إن مجالس الصحوة وصلت في العراق إلى 186مجلساً تعمل في 186 منطقة، وينتظم في صفوفها 77 ألف عنصر مسلح.
إذ شرع زعماء قبليون في إغواء الشبان لتشكيل دوريات وأفواج مسلحة، بحجة تأمين مناطقهم السكنية، بينما هي تهدف في الأساس لمطاردة المقاومة الوطنية وطعن عناصرها من الخلف، بالإضافة إلى رفع العبأ عن كاهل جنود الاحتلال الأمريكي. وحقيقية استطاعت تلك المجموعات تحقيق نجاحات على المستوى المرحلي، وتمكنت من إعاقة تحرك المقاومين في هذه المناطق، وربما محاصرتهم في بعض الأجزاء، وتضييق الخناق عليهم.
ولما وجد الأمريكيون ضالتهم في هذه الوحدات، شرعوا في تدريبها وإغراق قادتها وعناصرها بالمال والسلاح، حتى أن صناع القرار في البيت الأبيض أدخلوا فقرة دعم المجالس ورجالها، وجعلها في صلب الإستراتيجية الأمريكية.
ومما يذكر هنا أن البنتاجون (وزارة الدفاع الأمريكية) أنفق حتى الآن أكثر من 62 مليون دولار على تسليح العشائر وتمويلها، ضمن برنامج من المتوقع أن يكلف الخزينة الأمريكية مليارات الدولارات، وقد برر الجيش الأمريكي ذلك بوحدة الهدف المشترك الذي يجمعه وهذه المجالس.
موقف القوى العراقية المختلفة من الصحوات
إن الاحتضان الأمريكي للمجالس، وطبيعة الدور الذي بات مطلوباً منها، والانصياع التام لدى قادتها، والتهديد الذي قد تشكله على البلاد وأمنها واستقرارها ومستقبلها، أثار تخوفات عديدة لدى العراقيين، أفراداً وجماعات ومؤسسات، وإن اختلفت هذه التخوفات باختلاف منطلقاتها ومشاربها.
* القوى السنية
من جهتها، حذرت "هيئة علماء المسلمين" من مجالس الصحوات على طول الخط، وإن لم يخرج التحذير عن الإطار الهادئ المتحفظ الذي عرفت به الهيئة. إذ دعا الشيخ حارث الضاري شيوخ العشائر ألا يكونوا جزءاً من المخططات الأمريكية التي تهدف إلى إضعاف وتفتيت العراق وجعْله كانتونات ومناطق مسلحة.
وفي مقابلة مع قناة "الجزيرة" قال الأمين العام لهيئة علماء المسلمين: إن ما يسمى بصحوة العشائر ظاهرة مثل ظواهر كثيرة موجودة في العراق، متهماً الإعلام بالمبالغة في تصويرها.
وأوضح الشيخ: أنه يعرف بحكم اتصاله بالقبائل أن العشائر العراقية لم تنتفض (كما يقال) وإنما من قام بذلك هم مجاميع وأفراد من أبناء العشائر ساروا في هذا الطريق لأسباب معروفة، مشيراً إلى أن القبائل تعتبر ظاهرة الصحوة عبئا عليهاً.. واتهم الضاري بعض المسؤولين العراقيين ببيع العراق وتقديمه على طبق من ذهب.
وفي نفس السياق، هاجم شيخ عشائر "شمر" الشيخ عزيز نزهان الصديد "مجالس الصحوة"، قائلاً: إنها ليست صحوة بل غفوة، فالصحوة تطرد المحتل ومن جاء معه, لا تسانده وتدعمه في مواجهة أبناء جلدتنا. وتابع: أعتقد أن من ينتسب إلى ما يسمى زوراً "الصحوة" ليس إلا شاذاً وأفاقاً, إذ كيف يمد هؤلاء أيديهم للمحتل الذي قتل أطفالنا ودمر بلدنا... إن عشائر "الدليم" ــكبرى عشائر الأنبارــ مازلوا على موقفهم الرافض لما يسمى مجالس الصحوة.
وأضاف: "الأمريكيون أتوا لاحتلال بلدنا، ونحن مجبرون على مقاتلتهم". مؤكداً أن "مجلس شيوخ العشائر" الذي هو أحد أعضائه، لن يضع يده في يد المحتل الأمريكي.
كما اعتبر الشيخ عبد الرحمن العبيدي ــأحد رؤساء "العبيد" الذي تمتد اقطاعياته من سهول كركوك إلى صلاح الدينــ اعتبر أن الاندفاع الأمريكي باتجاه مجالس الصحوة "وصفة للنزاعات الدموية لا نهاية لها بين القبائل". وأوضح أن قائد القوات الأمريكية، في كركوك، اعتقل ابنه واثنين من أبناء عمه "بتهم زائفة"، فقط، لأنه رفض تشكيل "مجلس يقظة". وتابع: إنها لفتنة شنيعة تلك التي يبذرها الأمريكان.. إنهم يريدونك أن تقتل إخوانك وأبناء عمومتك.
ومن جهته، حذر رئيس عشيرة "البكارة" الشيخ جمعة الدوار من هذه المجالس، طالباً من شيوخ العشائر أن ينتموا لوطنهم وتاريخهم، مشيراً إلى أن أبناء العشائر العربية في الجنوب، ورثة ثورة العشرين، هم الذين بدأوا المقاومة وكبدوا قوات الاحتلال خسائر فادحة. مؤكداً في الوقت نفسه أن مدينة الموصل، تمثل حاضنة شعبية واسعة للمقاومة العراقية التي تتشكل من أبناء العشائر العربية، ويقودها ضباط الجيش العراقي الباسل.
وكان مشايخ عشيرة "الدليم" ــ التي ينحدر منها رئيس مجلس صحوة الأنبار عبد الستار أبو ريشةــ قد نبذوه من بينهم ونفوا عنهم أي دور في مساعيه لدى المحتل، وأصدروا بياناً قبل أن يقتل، جاء فيه: "نود أن نوضح بأن المدعو عبد الستار أبو ريشة لا صلة لنا به سوى القرابة والنسب، وهو ليس شيخ العشيرة أو المخول بالتحدث باسمها". حيث اتضح من هذا البيان أن أبو ريشة لم يكن هو الشيخ المعتمد في عشيرته، لكنه فقط استطاع إقناع الأمريكيين بنفوذه ليدعموه.
وعلى صعيد المقاومة، اعتبرت "جبهة الجهاد والتغيير" أن ظاهرة مجالس الإنقاذ أو الصحوات، ما هي إلا مشروع أمريكي من أجل ضرب المقاومة العراقية، بحجة تصفية القاعدة. وقال الناطق الرسمي باسم الجبهة، ناصر الدين الحسني: إن ظاهرة المجالس دليل فشل الاحتلال ومشروعه.. أما عن موقفنا من العشائر فنحن نفصل بين مشروع مجالس الإنقاذ وبين عشائرنا العراقية الأصيلة المعروفة بمواقفها المشرفة، والتي كانت وما زالت المعين الرئيس للمقاومة العراقية، وبالنسبة لحجم التعاطف الشعبي معنا فإن حاضنتنا الشعبية هي أهم ما نملك في جهادنا المنضبط، ونسعى للمحافظة على هذا التعاطف ونعتبره واجباً شرعيا ومصلحة مقدمة.
* الشيعة
من جهتهم، أبدى الشيعة غير قليل من المعارضة لكن من وجهة غير التي عارض عليها السنة، وجاءت معارضتهم في أطر طائفية، إذ أن الأمر انحصر بأذهانهم في كونه تسليح لجماعات سنية لا يؤمن جانبها، مهما كانت انتماءاتها السياسية. وخشي الشيعة الحوار المنفرد للقوات الأمريكية مع العشائر السنية، وحذروا مطالبين الاحتلال بممارسة المزيد من الإشراف على مشروع "يقظة العشائر". كما بدا من خلال تصريحات كبار زعمائهم، محذرين من خطورة تسليح العشائر أو تشكيل قوات عسكرية فيها يمكن أن تتحول إلى قوة تحاربهم فيما بعد.
فقد حذر همام حمودي ــعضو البرلمان العراقي عن المجلس الأعلى (الشيعي)ــ من أن العشائر السنية يمكن أن تنقلب ضد الحكومة (التي يهيمن عليها الشيعة) ذات يوم عندما يتلاشى الحضور الأمريكي. مضيفاً: "إن ممثلي هذه العشائر بحاجة إلى محاورة الحكومة.. فإذا ما بقي اتصالهم فقط مع الأمريكان، فإنهم لا شك يشكلون قنبلة موقوتة، وفي المستقبل قد يصبحون أعداء لمشروع الديمقراطية".
أصوات الحكومة الشيعية هي أيضاً دقت أجراس الإنذار من تحول العشائر السنية إلى قوة يصعب السيطرة عليها، خاصة بعد أن كثر في يدها السلاح والمال الأمريكي. إذ لم تنظر الحكومة يوماً ما بعين الرضا لما ترصده من نمو سريع لوحدات المجالس، التي باتت تضم سبعة وسبعين ألف فرد من عرب العشائر الذين تمت الاستعانة بهم من داخل أحيائهم.
وعلى الجانب الشعبي، سجل لمئات من أبناء المناطق الواقعة شمال مدينة الحلة ــومعظمهم من أنصار التيار الصدريــ اعتصامهم أمام مبنى محافظة بابل احتجاجاً على جملة من الإجراءات السياسية والقانونية، ومنها محاولة السلطات الحكومية تشكيل مجالس للصحوة في المنطقة. وطالب المتحدث باسم المعتصمين بأن تقوم الحكومة "بإيقاف مشاريع الصحوة القائمة على قدم وساق في المحافظة، والتي تثير النعرات الطائفية واستبدالها بالجيش العراقي النظامي".
وفي محافظة ميسان (العمارة) رفض عشائر المحافظة بالإجماع، طلباً أمريكياً بتأسيس "مجالس صحوة شيعية" على غرار المجالس الأخرى.
مستقبل المجالس
مبدئياً تبدو فكرة تأسيس مجالس الصحوة ــوهي قوى طامحة إلى تشكيل سلطات محلية صغيرة مبعثرة في كل مكانــ كأنها لا تقوم إلا على فهم بسيط للوضع العراقي المعقد؛ وإن لجوء الأمريكيين إلى حل يقوم على أساس تسليح العشائر، إنما هو مجرد مظهر واحد فقط من بين مظاهر عدة تدل على أن الإستراتيجية العسكرية الأمريكية باتت تترنح.
ولعل ظاهرة سيطرة بعض العشائر على مناطق بعينها، وإنشاء مخافر للشرطة خاصة بها، مقابل سيطرة عشائر منافسة على مناطق أخرى وإنشاء مخافر خاصة بها أيضاً -وهي ظاهرة جديدة وغير مشهودة في تاريخ العراق- قد تكون شرارة الانقسام العشائري في البلاد. ولذلك ينبغي في هذا الإطار الاعتراف دون تردد بأن مجالس الصحوة قد خلقت واقعاً جديداً في العراق، قد يصعب تخيل إمكانية الخروج منه بسهولة.
وليس من قبيل التكهن القول: إن مجالس الصحوة المسلحة والمفرغة من أي نظام معقول، والفاقدة لأي روح وطنية أو ثورية، ستمثل ذروة الخطر الذي لن يهدد الكيان العراقي وحده، بل سيتخطاه إلى المنطقة بأكملها مما سيخلق وضعاً لا شك لن يكون الأمريكيون معه في مأمن.
وفي الواقع يجب أن تثير هذه التوجهات العراقيين جميعاً مما يُخطط لهم في السر والعلن، بحيث لا يجدون أنفسهم في قلب معادلات سياسية، تصبح فيها القبائل طرفاً في تقطيع أوصال العراق، لا في "تحريره من الإرهاب" كما يزعم الأمريكيون.
وقد بدأت هذه المجالس تشهد ــفي الآونة الأخيرةــ ما يشبه التراجع، خاصة بعد اتهامها "بتدنيس" يدها بالمال والسلاح الأمريكي، وبعد عمليات التصفية الجسدية التي طالت قادتها مثل زعيم مجلس صحوة الأنبار عبد الستار أبو ريشة في الأنبار، وحسين جبارة في صلاح الدين، وحسين علي صالح الجبوري في كركوك، وتفجير منزل رئيس صحوة عشائر الموصل فواز الجربة، وقتل عطا الله إسكندر حبيب بمجلس صحوة الحويجة مع سائقه، ثم قام المسلحون بإحراق جثته والسائق مع السيارة في موقع الحادث.. الأمر الذي يلقي بظلال من الشك حول هذه التجربة ومدى إمكانية استمرارها.
وإذا جئنا نبحث في ما يمكن أن نطلق عليه "مستقبل المجالس" لن نجد ما يبشر القائمين عليها بخير. في ظل محددات كالتالي:
اختراق المجالس
حيث حذر مسئولون أمنيون بحكومة المالكي من تغيير تنظيم "القاعدة" تكتيكاته، والتكيف مع الإجراءات الجديدة، باختراق واسع للأجهزة الأمنية ومجالس الصحوة التي شكلها الأمريكيون لمواجهته. وكانت القاعدة قد بثت شريطاً مصوراً لإعدام تسعة من عناصر الشرطة، حذرت خلاله تلك المجالس، من التمادي في التعامل مع الأمريكيين، ومؤكدة العودة القريبة لعناصرها.
وقد عكست بعض عملياتها، مثل تفجير مقر البرلمان، واستهداف نائب رئيس الوزراء سلام الزوبعي، ونائب رئيس الجمهورية عادل عبد المهدي، بالإضافة إلى اغتيال عبد الستار أبو ريشة قدرة كبيرة للتنظيم على اختراق مراكز أمنية حساسة، عبر زرع عناصره داخلها لفترات طويلة.
ويؤكد الخبراء أن "التنظيم ما يزال الأكثر قدرة على إعادة تنظيم صفوفه، في ضوء وجود عشرات الخلايا النائمة التابعة له داخل العراق وخارجه، وتحولها إلى العمل السري بعدما تأكد من أن كشف عناصره وحكم وإدارة المناطق سهل استهداف أعداد كبيرة منهم".
وتأسيساً على معلومات استخبارية، قال اللواء (عبد الجبار ربيع) ــالذي كان قائداً في جيش الرئيس السابق صدام حسين ويترأس الآن الجيش في محافظة صلاح الدينــ قال: إنه قاد قوة من الجنود والشرطة الحكوميين، في 30 أكتوبر الماضي، للقبض على عناصر بخلية تابعة للقاعدة، وتحرير رهائن من سجن يقع في جبال (حمرين) البعيدة التابعة لمحافظة صلاح الدين. مضيفاً: عندما وصلت القوات اكتشفت أن معظم رجال القاعدة كانوا قد حُذروا من العملية برمتها، وهو ما يؤكد وجود اختراقات بالأجهزة الحكومية لصالح فصائل المقاومة.
* المقاومة الشريفة أبقى وإن طال ظلام المجالس
وينتهي متابعون للشأن العراقي وتطورات مجالس الصحوات، إلى أن هذه المجموعات النشاذ لن تعيش طويلاً، أمام إرادة الشعب العراقي ومقاومته الباسلة التي تعهدت بدحر المحتلين وكل عميل جاء معهم أو تم تنظيمه لاحقا! إذ لن تدوم صهوة جواد مجدٍ متوهم، أو كبرياء قائد مغرور، وإن رفرفت رايات العمالة والاحتلال وحكم لفترة ممتطي دبابة الغزاة.