لأن مؤتمر أنابوليس في 27 تشرين الثاني نوفمبر الماضي لم يكن أصلا من أجل حل الصراع العربي الإسرائيلي فإن جولة الرئيس الأميركي جورج دبليو. بوش الراهنة التي قال إنها من أجل متابعته لا علاقة لها بهذا الصراع إلا بقدر ما تخدم الإستراتيجية الأميركية لإنجاح مشروع احتلالها للعراق وتحييد مضاعفات المواجهة مع إيران وسوريا على هذا المشروع ولم يؤد انتقاله من القاعدة الإسرائيلية للقوة الأميركية في الغرب إلى القواعد الأميركية في الشرق إلا إلى إغراق كل إدعاءاته عن المهمة السلمية لجولته في ضجيج تهديداته للمقاومة العراقية وإيران وسوريا ليكشف بوضوح لم يجد له رادعا للدعوة علنا إلى أن يستبدل "الحلفاء والأصدقاء" العرب العدو الإسرائيلي بعدو إيراني وإلى حثهم على وحدة صفوفهم التي كانت واشنطن تحرص دائما على تفريقها في جبهة واحدة مع أميركا وإسرائيل.
ومنذ المحطة الفلسطينية الأولى لجولته في دولة الاحتلال الإسرائيلي كان "الخطر الإيراني" لا "عملية أنابوليس" هو موضوع أول اجتماع رسمي خلال جولته يعقده مع رئيس الوزراء إيهود أولمرت، وباسم "السلام" في الشرق الأوسط الذي منحه عنوانا لجولته جاء إلى المنطقة ليستعرض مجريات الحرب العدوانبة التي يشنها على عرب العراق منذ خمس سنوات وليحرض على عدوان حربي مماثل على إيران إذ منذ المحطة الأولى لجولته الخليجية في الكويت صعد حملته الدعائية ضد إيران بينما كانت عينه على خريطة العراق بين يدي قائده هناك ديفيد بترايوس.
إن جولته قد سلطت الأضواء على حقيقة أن منطقة الخليج العربي قد تحولت إلى ساحة عسكرية خلفية للولايات المتحدة وأظهرت كم أصبحت واشنطن متخندقة في المنطقة وضالعة ومتورطة في شؤونها العربية الإسلامية كأمر واقع مفروض بقهر القوة المسلحة، وهذه حقيقة تضغط بواسطتها على حكومات المنطقة وشعوبها لكي تنضم أو تدعم آلة الحرب الأميركية التي تعيث قتلا ودمارا وخرابا في العراق كي يستقر لها قاعدة للعدوان على جواره العربي والإسلامي حتى إحكام هيمنتها على المنطقة برمتها، وهي أيضا حقيقة تفسر رد الفعل الإيراني الدفاعي المشروع بقدر ما تفسر العداء الشعبي المتسع والمتنامي لأميركا.
وقد غطت زياراته للقوات الأميركية في الخليج -للقاعدة الأميركية في الكويت حيث يوجد (15) ألف من قواته ولقيادة أسطوله الخامس في البحرين في الجفير على مرمى حجر من قاعدة العبيد في قطر المجاورة بينما حاملات طائراته وسفنه الحربية تشق مياه الخليج مهددة "الأعداء" الإيرانيين في الشرق بقدر تهديدها ل"الحلفاء والأصدقاء" العرب في الغرب بعد أن أنجزت مهماتها في غزو العراق- على لقاءاته رفيعة المستوى مع القادة الذين التقاهم وهو يفكر بتفاصيل إعادة تدوير عائداتهم النفطية عندما يخطر الكونغرس هذا الأسبوع بعزمه بيعهم أسلحة تزيد قيمتها على عشرين مليار دولار.
لقد كان الوجود العسكري الأميركي في منطقة الخليج العربي عامل عدم استقرار أمني إقليمي قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران بفترة طويلة عندما كانت واشنطن تسوغ هذا الوجود ب"الخطر الشيوعي" لكي تتخذ من حجة "الخطر الإسلامي" الخميني والخطر "الدكتاتوري" الصدامي بعد ذلك ذريعة لاستمرار هذا الوجود بعد انهيار الاتحاد السوفياتي قبل أن تنقل تركيز دعايتها إلى التذرع ب"الإرهاب" العربي الإسلامي كما تمثله القاعدة بعد اعتداءات الحادي عشر من أيلول سبتمبر .
ولا يسع المراقب إلا ملاحظة أن كل "الأخطار–الذرائع" الأميركية كانت في مجملها نتيجة للوجود العسكري الأميركي فالشيوعية وجدت آذانا صاغية لتحريضها على القواعد الأميركية التي كانت تحمي النهب الأجنبي للثروات الوطنية وتمنع التغيير الديموقراطي الذي يهدد هذا النهب، وكانت الثورة الإسلامية انتفاضة شعبية ضد ملكية إقطاعية حولت البلاد إلى قاعدة للتجسس الأميركي على الاتحاد السوفياتي، وكان المجاهدون المسلمون، الأب الشرعي للقاعدة، مدعومون عسكريا وماليا ولوجستيا من البنتاغون وأجهزة المخابرات الأميركية قبل أن ينقلب الطرفان على بعضهما بعد أن تناقضت مصالحهما.
أما دعم طرفي الحرب العراقية الإيرانية حتى إنهاك أهم معارضين إقليميين للهيمنة الأميركية فقصة ما زالت حية بدمويتها في ذاكرة الجيل الحالي. وكذلك "الخطر الإيراني" الراهن الذي يحرض بوش جيران إيران وشركاءها التجاريين العرب على التصدي له فإنه كان محصورا داخل حدود بلاده لولا الاحتلال الأميركي للعراق الذي منحه فرصة تاريخية لتجاوزها.
والرأي العام العربي خصوصا في الخليج واع تماما للهدف الحقيقي لجولة بوش ، فقد نقلت الصحف الإماراتية في 4/1/2008 ، على سبيل المثال، عن بوش قوله إن أحد الأسباب الرئيسية لجولته هو "احتواء" النفوذ الإيراني في المنطقة، في وضع "تجد فيه الولايات المتحدة نفسها تتنافس مع قوة ثانوية في الشرق الأوسط" كما كتب المحلل السياسي ديليب هيرو يوم الجمعة الماضي مضيفا أن هذا "الإدراك المهين" هو الذي يفسر "أكثر من أي شيء آخر" مسارعة بوش إلى إطلاق عملية أنابوليس.
كما أكد بوش الإطار الإستراتيجي الإقليمي ل"احتواء" النفوذ الإيراني عندما قال في مقابلة له مع أربع صحف عربية منها الشرق الأوسط اللندنية في البيت الأبيض أن جولته تستهدف بحث "خطة للأمن الإقليمي" في المنطقة وأن إطلاق مفاوضات فلسطينية – إسرائيلية إنما يجري في هذا الإطار، أي أن هذه الخطة تقوم على أساس المواجهة مع إيران والتحالف مع إسرائيل. وفي الخامس من الشهر الجاري نقل "صوت أميركا" عن بوش قوله في مقابلة مع قناة "الحرة" الفضائية إنه سوف "يضغط" خلال جولته من أجل "جولة أخرى من العقوبات ضد إيران".
وأوضحت الإيكونوميست البريطانية في الثالث من الشهر الجاري أن الهدف الحقيقي لجولة بوش هو "الاطمئنان بنفسه" على أن "حلفائه" في دول الخليج العربية "لا يبتعدون أكثر من اللازم باتجاه ترضية" إيران، في إقليمهم كما في لبنان حيث للطرفين نفوذ حاسم في تقرير مصير الصراع الدائر عل استحقاق الرئاسة المعلق، وذلك بعد دعوتهم الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد لمخاطبة قمتهم التي عقدوها في قطر واستضافة العربية السعودية له في الحج إلى مكة المكرمة الشهر الماضي. ومن الواضح أن لبنان بعد إيران يحتل أولوية في برنامج جولته أكثر من الصراع العربي الإسرائيلي فهو كما قال للحرة سوف يبحث مع القادة العرب الذين سيلتقيهم "العقبة الرئيسية" أمام انتخاب رئيس لبناني المتمثلة في رأيه بالرئيس السوري بشار الأسد الذي عليه "أن يفهم بأنه إذا كان يريد علاقات أفضل مع الولايات المتحدة ، وبصراحة علاقات أفضل في المنطقة ، فان الأمر الأول الذي عليه أن يفعله هو التوقف عن التدخل في عملية الرئاسة اللبنانية" .
إن وهم الدولة الفلسطينية الذي حاول الرئيس الأميركي الزائر بيعه للعرب قد دفن قبل أن يولد أولا في انحياز بوش للرؤية الإسرائيلية لهذه الدولة بحيث تكاد تتطابق"رؤيته" لحل الدولتين معها ودفن ثانيا في الرؤية التي يراها بوش لدور هذه الدولة في الإستراتيجية الأميركية ولرؤيته للثمن الذي يريد من العرب دفعه لها كما أوضح في المحطات الخليجية لجولته.
"إذا أراد الرئيس بوش أن يدفع قدما ما يسمى عملية السلام ينبغي عليه أن يظهر استعدادا حقيقيا لممارسة الضغط على إسرائيل... وفي الحقيقة لا يوجد شيء يشير إلى استعداد كهذا" كما كتب وزير الخارجية المصري السابق أحمد ماهر في الشرق الأوسط اللندنية في الثاني عشر من الشهر الجاري. والنتيجة كما كتب بيير هيومان في دير شبيغل الألمانية يوم الخميس الماضي هي أن بوش "قد نجح في دفن الدولة الفلسطينية حتى قبل أن تولد" محولا رؤيته لحل الدولتين إلى "حلم أجوف".
إذ بالرغم من "إيجابيات" زيارته الفلسطينية ، مثل قوله إن الاحتلال "يجب أن ينتهي" وأن الدولة الفلسطينية "مستحقة منذ وقت طويل" وأن "الجبنة السويسرية" لا تنجح في إقامة دولة متصلة جغرافيا، في إشارة إلى الكانتونات الفلسطينية المحاصرة بالمستعمرات الاستيطانية الإسرائيلية، ناهيك عن كون الزيارة في حد ذاتها تمثل اعترافا بكيان فلسطيني استخدم الرئيس بوش لأول مرة عبارة "دولة فلسطين" لوصفه، فإن انحياز بوش للرؤية الإسرائيلية في كل قضية تقريبا من قضايا الوضع النهائي ينقض كل تلك "الإيجابيات" نقضا لا تفسير له سوى الوصول في النهاية إلى المشروع الإسرائيلي لإقامة دولة مؤقته كحل انتقالي طويل الأمد ترفضه كل القيادات الفلسطينية رفضا لا تأثير للانقسام الوطني الراهن في الإجماع الفلسطيني عليه.
بوش يتبنى المشروع الإسرائيلي للدولة الفلسطينية
لذلك لم تكن زيارة بوش "ربحا صافيا" كما قال أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عبد ربه، لأن الدولة الفلسطينية بالمواصفات التي تحدث بوش عنها، إذا ما قدر لها أن ترى النور سواء خلال ولايته أو بعدها، لن تعدو كونها نسخة معدلة تعديلات طفيفة للمشروع الإسرائيلي تتبناها الولايات المتحدة وأوروبا وتدعمها الدول العربية راضية أو مكرهة ويتم فرضها بالإكراه على الشعب الفلسطيني كمحمية أجنبية على جزء من الأرض المحتلة تحت الوصاية الخارجية في إطار الإستراتيجية الأمنية الإسرائيلية وضمن إستراتيجية واشنطن الإقليمية في الشرق الأوسط تعفي دولة الاحتلال الإسرائيلي من ثمن تمويل أهدافها الأمنية في الضفة الغربية وقطاع غزة وتحملها للأوصياء الأجانب على المشروع في مقابل توقيع قيادة فلسطينية على "إنهاء النزاع" الفلسطيني مع إسرائيل كحل نهائي يكون مدخلا لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي سياسيا.
ومما يرجح هذه "الرؤية" أن الأطراف الفلسطينية والإسرائيلية والأميركية وغيرها التي شاركت في مؤتمر أنابوليس، وهذا المؤتمر هو الأساس التي تستند هذه "الرؤية" إليه، قد اعتمدت "خريطة الطريق" مرجعية وحيدة لتوليد دولة فلسطينية قيصريا خارج إطار الأمم المتحدة وقراراتها وما تمثله من شرعية دولية وخارج القانون الدولي وفي غياب كامل للمؤسسات الشرعية الممثلة للشعب الفلسطيني، بغض النظر عن إشارة الإدعاءات الفلسطينية الذاتية خارج إطار أنابوليس إلى مبادرة السلام العربية وغيرها من المرجعيات فالهدف الواضح لإشارات كهذه هو جذب الدعم العربي للمشروع أو في الأقل تحييد المعارضة العربية والفلسطينية له.
وفي هذا السياق جاءت زيارة وفد من سلاح المهندسين الأميركي للحدود بين مصر وبين قطاع غزة، تزامنت مع زيارة بوش، ويجري إسرائيليا وأميركيا ومؤخرا فرنسيا بحث مشاركة حلف شمال الأطلسي "الناتو" في قيادة قوات متعددة الجنسيات مهمتها الحلول محل أي قوات وطنية فلسطينية في الدولة الفلسطينية التي يراد لها أن تكون مجردة من السلاح من أجل ضمان أمن إسرائيل.
ويحلو لبعض اليساريين الفلسطينيين الذين قفزوا إلى الحضن الأميركي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الإشارة إلى موافقة الزعيم الفيتنامي الراحل هوشى منه على وضع بلاده تحت الانتداب الفرنسي لفترة زمنية معلومة في أوائل الخمسينات من القرن العشرين الماضي للدفاع عن وضع الدولة الفلسطينية الموعودة تحت الوصاية الأجنبية–الإسرائيلية متجاهلين عمدا اشتراطه الاعتراف بوحدة الأراضي الإقليمية لبلاده والوحدة الوطنية لشعبه ومتغاضين قصدا عن إقامة الدولة الفلسطينية الموعودة أميركيا وإسرائيليا على أساس تجزئة الوطن الفلسطيني وانقسام الشعب الفلسطيني والأهم على أساس تقاسم الضفة الغربية المحتلة عام 1967 بينهم وبين القوة المحتلة.
مؤشران في زيارة بوش للأراضي الفلسطينية المحتلة يوم الخميس الماضي كان لهما دلالات على الوضع الحرج الذي وضعت الزيارة فيه القيادة الفلسطينية التي كانت تأمل أن تعزز الزيارة مكانتها ومصداقيتها لدى شعبها، وهو ما قال بوش نفسه إنه هدف رئيسي لزيارته: الأول كسر بوش لبروتوكول فلسطيني يقوم فيه كبار الزوار الأجانب بزيارة ضريح ياسر عرفات، رمز الوطنية الفلسطينية، والمؤشر الثاني كان عدم دعوة رئيس بلدية بيت لحم فيكتور بطارسة لمرافقة بوش أثناء زيارته لمهد المسيح عليه السلام لأنه (72 عاما) ينتمي للجبهة الشعبية التي تصنفها واشنطن منظمة إرهابية بالرغم من عضوية الجبهة في منظمة التحرير الفلسطينية المعترف بها أميركيا وإسرائيليا اعترافا رسميا شريكة لإسرائيل في عملية السلام منذ عام 1993.
لكن القيادة الفلسطينية إذا استطاعت التغاضي عن "جزئيات" كهذه قد تعتبرها غير هامة في ضوء "المصالح العليا" للشعب الفلسطيني كما تفسرها في الوقت الراهن فإنها لن تستطيع التغاضي عن عدم احترام الإدارة الأميركية لدور واشنطن كوسيط محايد في عملية السلام المفروض أنها استؤنفت بعد أنابوليس كما اتضح من انحياز بوش خلال جولته الحالية للرؤية الإسرائيلية حول كل قضية تقريبا من قضايا الوضع النهائي التي يفترض التفاوض عليها في هذه العملية.
لقد بددت زيارة بوش في ساعاتها الأولى الوهم الذي تروجه القيادة في رام الله بأن إدارته مؤهلة للقيام بدور الوسيط النزيه عندما أعلن في الدقائق الأولى لهبوط طائرته في مطار اللد (بن غوريون) أن "التحالف" بين دولتي الاحتلال سوف يضمن "أمن إسرائيل كدولة يهودية" دون أن يعبأ حتى بالحد الأدنى من اللباقة الدبلوماسية لكي يؤجل إعلان ذلك إلى ما بعد لقائه بهذه القيادة في اليوم التالي وهو يعرف تماما معارضتها المعلنة الواضحة ل"يهودية" دولة الاحتلال لما لذلك من مضاعفات سياسية لا تخفى على أحد ليس فقط على حق اللاجئين الفلسطينيين في العودة بل أيضا على مصير مليون وربع المليون فلسطيني من عرب 1948.
إن الخطورة السياسية في تصريح بوش مزدوجة فهو من ناحية يخرج بطريقة مستفزة للقيادة في رام الله عن دور الوسيط المحايد الذي يدعيه لنفسه وتدعيه له ومن ناحية ثانية يتخذ موقفا يستبق التفاوض حول قضية من أخطر قضايا الوضع النهائي وهي قضية اللاجئين. لذلك اضطرت القيادة الفلسطينية للرد ولو على مستوى "غير رئاسي" مع أن استفزاز بوش كان يقتضي ردا رئاسيا ندا له في بيان رسمي إن لم يكن في تصريح للرئيس الفلسطيني أثناء مؤتمره الصحفي المشترك مع ضيفه.
"إن تصريحات بوش مرفوضة كليا وجزئيا وهي تعبر عن وجهة نظره الشخصية وليست ملزمة للفلسطينيين" كما قال رئيس دائرة المفاوضات في المنظمة صائب عريقات للشرق الأوسط اللندنية مضيفا أن "بوش ليس الرئيس الفلسطيني... ولا نستطيع مراقبة شفتيه وهو يعرف معرفة جيدة جدا موقف السلطة الفلسطينية من هذه القضية وقد أبلغه (الرئيس عباس) أبو مازن ذلك شخصيا".
ولم تكن هذه هي القضية الوحيدة من قضايا الوضع النهائي التي ينحاز فيها بوش للرؤية الإسرائيلية. فالقيادة الفلسطينية في رام الله لم تتوقف لحظة واحدة منذ أنابوليس عن ضخ الآمال الخادعة حول النتائج المتوقعة من ذلك المؤتمر لكن الشعب الفلسطيني الذي لم يشتر تلك الآمال بعد أن عركته تجارب ستين عاما من الانحياز الأعمى والدعم الأميركي غير المحدود لدولة الاحتلال الإسرائيلي ربما كان بحاجة فعلا إلى زيارة بوش لكي تبدد السراب الأميركي الذي تركض القيادة لاهثة خلفه لتبيع شعبها وهم أن الدولة الفلسطينية قد أصبحت قاب قوسين أو أدنى.
إذ حرص بوش خلال زيارته على إحراجها بالتأكيد على أن المؤتمر نفسه وكذلك جولته الحالية لهما هدف واحد هو إطلاق عملية تفاوض فلسطينية–إسرائيلية تتوصل إلى اتفاق حول "تعريف" للدولة الفلسطينية قبل نهاية ولايته وليس إقامة دولة فلسطينية قبل رحيله عن البيت الأبيض كما تعد الدعاية التي تروجها القيادة في رام الله.
وأعلن بوش أن دوره يقتصر على "رعاية رؤية للسلام" وأن "دور القيادة الإسرائيلية والفلسطينية هو القيام بالعمل الصعب اللازم لتعريف تلك الرؤية". وعندما قال تقرير للواشنطن بوست في الثامن من الشهر الجاري إن بوش قد تراجع فعلا رد البيت الأبيض عليه في اليوم نفسه بأن "الرئيس لم يقل أبدا... إنه سيكون لدينا فعلا دولة فلسطينية نهائية ذات سيادة بنهاية عام 2008".
غير أن تقرير الواشنطن بوست عن تراجع بوش قد وجد تأييدا له من سفير دولة الاحتلال السابق لدى واشنطن زلمان شوفال: "لقد أصبح (بوش) أكثر واقعية... فقال إن الولايات المتحدة لن تفرض سقفا زمنيا... وإنه يعتقد بأن ما يمكن وما ينبغي لعملية أنابوليس أن تفعله هو وضع خطوط عامة لدولة فلسطينية في المستقبل، وهذا مختلف جدا عن إقامة دولة فلسطينية قبل كانون الثاني / يناير 2009". ومن المعروف أن القيادة في رام الله طالما هللت ب"السقف الزمني" المحدد بانتهاء ولاية بوش كموعد لإقامة الدولة المأمولة.
وإذا كانت الموضوعية تقتضي القول إن بوش وإدارته كانوا صادقين مع أنفسهم فإن المراقب لا يستطيع الخروج بالاستنتاج نفسه حول صدقهم مع القيادة الفلسطينية الشريكة لهم أو حول ما روجه الشريك الفلسطيني في أنابوليس عن أنابوليس وعن بوش وإدارته من أوهام جاء بوش نفسه ليبددها في جولته الراهنة.
إن إدعاء القيادة بأن أنابوليس قد أعاد القضية الفلسطينية إلى مركز الضوء الدولي قد بددته الساعات الأولى من زيارة بوش عندما عقد اجتماعا مغلقا مع رئيس وزراء دولة الاحتلال إيهود أولمرت حول "الخطر النووي الإيراني" المزعوم ليؤكد بأن الأولية في جدول أعمال جولته في محطاتها الإسرائيلية والعربية لم تكن ولن تكون القضية الفلسطينية.
وفي اليوم الأول من جولته حرص بوش على دحض مطلب فلسطيني معلن وواضح يؤكد "أن أي إنجازات في المفاوضات تحتاج إلى ضغط أميركي فإسرائيل ليست مستعدة لتقديم أي شيء دون ضغط والضغط ينبغي أن يأتي من الولايات المتحدة" كما قال نبيل عمرو مستشار الرئيس الفلسطيني محمود عباس، غير أن بوش أعلن أنه "يجب على الجانبين التوصل إلى اتفاق بأنفسهم" وأن دوره يقتصر على تشجيعهما ومساعدتهما فقط.
فقضية المستعمرات الاستيطانية هي قضية أخرى من قضايا مفاوضات الوضع النهائي التي اتخذ بوش منها الموقف ذاته، ضاربا عرض الحائط بكل استغاثات رام الله للتدخل لدى دولة الاحتلال لوقف توسيعها خصوصا في القدس المحتلة عام 1967 باعتبار توسيعها "العقبة الرئيسية" أمام نجاح عملية أنابوليس. "إنها مشكلة... لكنني أعتقد أن العقبة الرئيسية هي... المتطرفون" الذين يحاولون تخريب عملية أنابوليس كما قال بوش لفضائية العربية قبل أيام من انطلاق جولته.
وكان أولمرت قد أكد للجروزالم بوست أن بوش ما زال ملتزما برسالة ضماناته لسلفه أرييل شارون في 14/4/2004 عندما قال إن بوش هو الرئيس الأميركي "الوحيد" الذي يلتزم بأن أي اتفاق إسرائيلي – فلسطيني شامل هو اتفاق يقوم على أساس "حدود 1967 زائد" مضيفا أن"هذا إنجاز رائع لإسرائيل"، ليبدد أولمرت وحليفه الأميركي الزائر ما تروجه رام الله عن الآمال بدولة على حدود 1967.
وكان بوش صريحا وواضحا في دعمه لضم الكتل الاستيطانية الكبرى لإسرائيل من خلال "تعديلات يتفق عليها الطرفان لخطوط الهدنة علم 1949 لتعكس الحقائق الراهنة" كما قال، أي لتعكس المكاسب الإقليمية التي حققتها إسرائيل بالقوة المسلحة خلافا لميثاق الأمم المتحدة وقراراتها والقانون الدولي وحكم محكمة العدل الدولية في لاهاي عام 2004.
ولفت النظر صمت بوش المطبق عن قول أي شيء يدحض أو يعارض إعلان أولمرت أثناء زيارته بأن القدس ومستوطناتها لهما وضع "يختلف" عن وضع الضفة الغربية وكذلك صمته عن قول أي شيء عن الجدار الذي تبنيه إسرائيل لتقسيم الضفة الغربية بينها وبين الدولة الفلسطينية الموعودة.
إن تصريحات بوش بقدر ما تكشف كمين أنابوليس الذي أعده للقيادة في رام الله بقدر ما تبدد الآمال الخادعة التي روجتها هذه القيادة وتكشف أيضا تصميمه على الضغط على هذه القيادة لمنع أي تراجع لها عن خطأ يريدها أن تكابر فيه حد الانتحار الذاتي، لأن تصريحاته في نصوصها وروحها تستبق المفاوضات وتعطي الضوء الأخضر لإسرائيل لمواصلة خلق الحقائق على الأرض المحتلة لكي تحسم نتائج المفاوضات قبل أن تبدأ.
ولم يخف بوش أنه يستعد في المحطات العربية لجولته لتجنيد ضغط عربي إضافي على هذه القيادة كي لا تتراجع بدفع "الدول العربية في المنطقة لدعم "الخيارات الصعبة" التي سيقدم عليها عباس ب"تحديث" تواصلها مع إسرائيل بطرق"ملموسة" كما قال مستشاره للأمن القومي ستيفن هادلي.
اقرأ أيضاً:
وعد (بلفور) ومؤتمر (بوش)/ بلفور... كم أكرهك وكم أعشق القوة!/ سياسة المواجهة مؤكّدة... الحرب ممكنة./ أنقذوا غزة / عملية السلام العارية!!!