عباس من الاغتراب الوطني إلى التلاشي السياسي
على الرغم من متابعتي الدائمة للشان الفلسطيني إلا أنني كثيرا ما أنسى أسماء قادة السلطة الفلسطينية أو أخلط بين الأسماء والأشكال ، فمثلا أخلط بين صائب عريقات ونبيل شعث (مع احترامي الشديد لكليهما)، وربما أتذكر بصعوبة وجه نبيل أبو ردينة ولكني لا أذكر له كلمة علقت برأسي أو وجداني وكل ما أعرفه عنه أنه كان يقف خلف ياسر عرفات يذكره حين ينسى الكلمات بسبب كبر سن الأخير، وكذلك كان محمود عباس إلى أن تولى قيادة السلطة بعد عرفات، وعلى الرغم من إلحاح صورة وإسم محمود عباس إعلاميا إلا أنني حين أحاول قراءة هذا الرجل أو فهمه أو تفهمه أشعر بعجز شديد حيث لا توجد له تضاريس واضحة أو سمات مؤكدة وصريحة، فملامحه لا تقول شيئا محددا وكذلك كلماته تأتي باردة جامدة خامدة، أو تمر عبر منحنيات كثيرة، وتجري لها معالجات كيميائية وفيزيائية عديدة فتصل إلى فمه وقد فقدت أصالتها وطعمها ورائحتها ونكهتها فتصدر باهتة متهافتة وتصل إلى الأذن وكأنها خارجة لتوها من ديب فريزر.
ولا تكاد ترى عباس مبتسما ابتسامة حقيقية إلا إذا كان في لقاء مع بوش أو مع أولمرت أو كونداليزا رايس، فهو قادر على التواصل الفكري والسياسي والوجداني مع كل هؤلاء ولكنه غير قادر بأي حال من الأحوال علي التواصل أو حتى الاتصال بإسماعيل هنية أو محمود الزهار رغم أنهما يطلبان ذلك سرا وعلنا لمصلحة القضية الفلسطينية. وقد نشرت لعباس صورة من رآها أعتقد أنه لا ينساها حيث ظهر وهو يقبل كونداليزا رايس في رقبتها وهما في حالة نشوى واضحة وهيام رومانسي شجي وشقي.
ولو رأيت، إذ رأيت، بقية صور عباس ومواقفه لا تملك إلا أن تقول "نحن غرابي عنك"، وهذا هو الوضع الذي يعيشه عباس ومعه قيادات السلطة الفلسطينية بعد خروجهم من غزة وبعد شماتتهم الخفية في حصار غزة وأمنيتهم الساذجة في انهيار المجتمع الغزاوي تحت وطأة الحصار فيثورون على قادة حماس ويرتمون في أحضان عباس لكي يجلب لهم الخيرات الأمريكية والرضا الإسرائيلي ويعترفون بخطئهم في تفضيل حماس على فتح، فهم يعيشون الآن في ثلاجة الضفة الغربية بلا نبض أو حرارة وبلا أحداث تذكر اللهم إلا اجتماعات باردة وفاشلة ينتقلون فيها من قاعة إلى أخرى، مع صور أكثر برودة مع شخصيات أمريكية أو إسرائيلية، تلك الاجتماعات وهذه الصور التي تنزع عباس ورفاقه عن جذورهم الوطنية وترمي بهم في أحضان سامة.
ولست أدري إن كان عباس ورفاقه يشعرون بما آل إليه أمرهم أم أنهم مطمئنون إلى الأحضان الأمريكية والإسرائيلية، تلك الأحضان التي ثبت أنها تقتل من يأوي إليها أو تبرده أو تجففه، وقد كان في محمد دحلان عبرة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد، فدحلان ظل "يتدحلب" حتى دخل في الرحم الأمريكي والإسرائيلي فلفظه الرحم الفلسطيني، ولا يدري أحد أين هو الآن، وسيدخل التاريخ من أبواب خلفية أو تحتية أو سفلية.
ذلك المصير الذي ذهب إليه دحلان ينتظر عباس إن لم ينتبه قبل فوات الأوان، وأظنه لن ينتبه. وعلى الرغم من مشكلات عرفات في القيادة وإدارة الصراع والمآخذ التي كانت تؤخذ عليه إلا أنه كان يدرك بوضوح الخطوط الحمراء في المحافظة على الصف الفلسطيني، فتعامل كرئيس للفلسطينيين وليس لفتح أو للسلطة الفلسطينية فقط ورفض كثير من الضغوط عليه لإنهاء وجود حماس فقد كان يرى أنها مصدر قوة وورقة ضغط مهمة في الصراع، ولا شك أن هذا كان موقفا وطنيا واعيا يحسب له رغم كثرة أخطائه، وربما هذا هو السبب في موته، فقد كانت قيادات من فتح ترى غير ذلك (وأغلب الظن أنها مدفوعة بأجندة خارجية أو على الأقل مصالح شخصية انتهازية)؛
ولهذا أزاحته أو سعت لإزاحته ليتسنى لها (سذاجة أو تآمرا) أنها قادرة على إزاحة حماس واستبعاد الجهاد وكل قوى المقاومة، وتسوية الأمر بأي شكل مع الكيان الصهيوني، وتأسيس دولة علمانية فلسطينية يرضى عنها سيد البيت الأبيض وسادة العالم الغربي، مع صناعة ضاحية قدس جديدة تكون عاصمة لفلسطين الجديدة، ولهذا حين وصلت هذه القيادات للسلطة حدث المحظور وانشق الصف الفلسطيني، وليس ذلك بسبب انقلاب حماس، كما يتصور المسطحون، وإنما بسبب تصرفات دحلان ومن ورائها تآمرات السلطة الفلسطينية وفسادها، مما وضع حماس أمام خيار مر لم تجد له بديلا، وربما يكون هذا هو السيناريو الموضوع من قبل من يستفيد من هذا الصراع.
ونسى الساعون نحو الاغتراب أو المتورطون فيه تلك الأبعاد الدينية العميقة للصراع مع إسرائيل، تلك الأبعاد التي تدركها حماس وتتفاعل معها، ولذلك يتفاعل معها الشارع العربي والإسلامي، وتتفاعل معها القوى الوطنية حتى وإن اختلفت مع توجهاتها.
وإذا تأملت وجوه قادة فتح وقادة السلطة الفلسطينية القابعون في الضفة ينتظرون أن تسلمهم أمريكا أو إسرائيل مفاتيح غزة ومعها رؤوس قادة حماس، فلن تجد في هذه الوجوه وجها واحدا يصلح لتحريك عقل أو وجدان الشعب الفلسطيني فضلا عن تحريك عقول ووجدانات الشعوب العربية والإسلامية، لذلك لا ترى تعاطفا شعبيا معهم، وهم يعلمون ذلك ويركنون إلى التعاون الرسمي مع بعض الحكومات التي تستخدمهم لتحقيق مصالحها وتسحبهم يوما بعد يوم بعيدا عن شواطئهم العربية والإسلامية.
وعلى الجانب الآخر نجد شخصيات مثل أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي ومحمود الزهار (أبو الشهيدين)، وخالد مشعل، وإسماعيل هنية، وفيصل الحسيني (يرحمه الله)، شخصيات محفورة بصورها وبأسمائها لا تخطئها العين ولا يخطئها القلب فملامحها مؤكدة وأسماؤها محفوظة ورجولتها حاسمة، وكلماتها وآرائها معلومة ومحددة، وأقوالهم تنبض بالحيوية والبكارة والأصالة والصدق والمعاناة والألم النبيل المسئول، وتبدو على وجوههم علامات وآثار النضال والصمود والرجولة الحقة، لذلك تخشاهم إسرائيل وتخشاهم أمريكا، ويحاصرهم المعتدون والمتواطئون والمرتعشون والمتخاذلون.
وكلما ازداد حصارهم وإيذاؤهم كلما تعمقت أسماؤهم وصورهم في الوجدان الوطني والوجدان الإسلامي والوجدان الإنساني فالناس لا تتذكر إلا الصادقين ذوي الأصالة والوضوح، وهذا يجعل العيون والقلوب الآن ومنذ فترة طويلة على غزة حيث يقطن الأبطال ويقاومون، وكأن فلسطين الآن اختصرت في غزة، فهي التي تتمتع بالحرارة والنبض والحياة، ولهذا لفظت غزة محمد دحلان ورفاقه بعد أن عاشوا مغتربين وسط هذا الكيان الصادق المقاوم الصامد، وهذه حتمية نفسية وحتمية وطنية وحتمية سياسية، ودروس التاريخ ودروس علم النفس والاجتماع تؤكد أن من يغترب عن أهله وناسه ويتحدث لغة غير لغتهم وينبض قلبه على إيقاع قلوب غير قلوبهم ويذوب عشقا وهو يعانق عدوهم، من يفعل هذا مصيره الطرد من رحم الوطن ورحمته، وأنا أعتقد أن عباس ورفاقه يعيشون هذه الحالة الآن فهم في عزلة عن العقل والقلب الفلسطينيين، وفي عزلة عن الشارع العربي والإسلامي، وفي عزلة عن الأحلام الوطنية، ويعيشون في ثلاجة الضفة الغربية يتسولون اجتماعا هنا أو لقاءا هناك يجمعهم بأعداء شعبهم، ويتوسلون إلى سادة الغرب والشرق للضغط على إسرائيل، وقد ضل سعيهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا.
فالزعماء يعبرون عن وجدان شعوبهم وينتمون إلى تلك الشعوب وتدق قلوبهم على نبض أهليهم، ولذلك تأتي مواقفهم صادقة وأصيلة ومعبرة عن احتياجات أصيلة وحقيقية في قلوب البسطاء من عشيرتهم قبل النخبة، فهم يتصلون بجذورهم ويتواصلون مع العقل الجمعي لذويهم، وتؤكد مواقفهم كل ذلك. ويكفي أن نقارن بين شخصيتين فلسطينيتين لعبت كل منهما دورا مؤثرا في الأحداث لا ينكره أحد ذلكما هما ياسر عرفات والشيخ أحمد ياسين، كانت مواقف عرفات تتراوح بين الوطنية والبراجماتية وتتلون كثيرا بين الشرق والغرب والشمال والجنوب، وتدخل في انحناءات والتواءات كثيرة بعضها واضح وبعضها غامض مثير للريبة والجدل ، لذلك مات عرفات بشكل غامض وباهت ومثير للريبة والجدل ، واختفى من الذاكرة الفلسطينية والعربية والإنسانية بشكل سريع ومذهل،
أما الشيخ أحمد ياسين فكانت أفكاره واضحة ومعتقداته صافية ومؤكدة وخطواته واثقة وأهدافه صريحة وشريفة، وتضحياته عميقة، وارتباطاته بجذوره وبوجدان شعبه وأمته مثل فلق الصبح، ولهذا جاء موته موافقا لهذه المسيرة الشريفة فقد قتلته صواريخ العدو الغادرة وهو خارج من المسجد بعد أن أدى صلاة الفجر، ولهذا نرى صور أحمد ياسين معلقة في كل مكان في فلسطين والعالم العربي، وستبقى سيرته ناصعة نقية يذكرها التاريخ بكل فخر وشرف ونبل، وهكذا تكون الزعامات الحقيقية في كل زمان ومكان.
وقد يعتقد البعض أنني أقول هذا من موقع مستقطب تجاه حماس ضد منظمة التحرير، وهذا غير صحيح، فقد كنت أتمنى شأن أي شخص موضوعي عاقل أن تشكل فتح وحماس جناحي المقاومة الفلسطينية، وأن يكون هذا نواة تعددية متوازنة في الدولة الفلسطينية فيما بعد، ولكن للأسف الشديد ذهب هذا الحلم وعلينا أن ننتظر عشرات السنين حتى يلتئم هذا الجناح ويعود للجسد الفلسطيني النازف (إن كان ثمة أمل في علاجه وعودته).
وعلى الرغم من أن العالم الخارجي يعطي شرعية لحكومة عباس لأسباب مفهومة أو غير مفهومة، إلا أن تلك الحكومة تفقد الشرعية الشعبية الحقيقية، تلك الشرعية التي تحمي النظام حماية حقيقية، أما الشرعية الخارجية والرسمية فهي تتلاعب بالسلطة حسب ما تملي عليها مصالحها المتقلبة، وقد شعر عباس ورفاقه بالأمان الكاذب تحت المظلة الأمريكية الإسرائيلية، ولست أدري إن كانوا يعلمون أنهم يمشون فوق رمال متحركة تسحبهم بعيدا عن أشواق شعبهم وعن جذور قضيتهم وعن قلوب أمتهم.
وبناءا على هذه القراءة لطبيعة الزعامة والزعماء نكاد نجزم بانهيار المستقبل السياسي والوطني لعباس ورفاقه فهم الآن ورقة محروقة وطنيا وشعبيا وعربيا وإسلاميا تعمل إسرائيل على استخدامها كقنابل بشرية تطلقها على غزة وعلى الجسد الفلسطيني المثخن بالجراح، وليس هذا رجما بالغيب وإنما قراءة لقوانين النفس والمجتمع والحياة، ومراجعة لدفاتر حركات التحرر والمقاومة في كل عصر ومصر، ذلك لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
واقرأ أيضًا:
صدّام حسين ليس بطلا / التحليل النفسي لشخصية صدام حسين/ شخصية الطاغية/ ماذا....لو سلمت حماس؟؟/ قراءة في تسريحة محمد دحلان