رحلتي إلى الوطن ما بين الواقع والمحال (1)
تمتد آلام الوطن، عبر سياجات الحرمان من التواصل، مع الأهل والوطن، ربما ينتزع ذلك من المرء مساحات للبوح، من داخل اللاوعي، حيث تتدفق معه الكلمات لتزاحم القلم، وتشكو حروفها من مرارة الاغتراب، الحنين، لذلك الوطن الغائب الحاضر، في بؤرة وجداننا الممزق، الذي لا مناص من الابتعاد عنه، ولا مفر من الحنين والعودة إليه، لم يكن هناك وقت للتفكير، بل يجب أن يكون القرار حتميا وضروريا، كما يجب عليَ التخلص من كافة الأفكار التي قد تثنيني عن الذهاب متسللة إلى وطني، حيث أن الغربة القسرية التي فرضت علينا واجتثتنا من أرضنا وقذفت بنا خارج اللاوعي العربي والإنساني، وسط يباب لا حصر له من المعاني، تتقاذفها ماهية لاجئ حين، وشتات حين آخر، غربة تفقد شروط وجودها كتلك الظروف العقيمة التي أنجبتها. وربما حالة التهجير القسري أيضا التي فرضت علينا، هي التي خلقت لدينا حالة من التحدي الحقيقي، لكل شيء حيث نستلهم من ذاك التحدي ملحمة حقيقية في ماهيات الصمود، والحرية، وننسج منه حلم العودة، في ظل صحراء قاحلة تأتي في إطار واقع عربي أليم، بيد أنه من رحم هذا الألم يولد الأمل متحديا المستحيل.
قرار الرحلة
مرحلة اتخاذ القرار تأتي في ظل منظومة إدارية يتعاطى معها الفرد في إطار تفكيره العملي ومحدداته المسبقة لماهية القرار، وأهدافه، ونتائجه، ولكن مع الحنين، والوطن تتلاشى هذه المنظومة، فما أن علمت بحالة الاجتياح البشري للحدود المصرية الفلسطينية صبيحة يوم الأربعاء الموافق 23-1-2008م، حتى عزمت على الذهاب وحدي وبدون أدني ترتيب، وفجأة يتصل رامي هذا الشاب الفلسطيني الذي أضناه الحنين إلى الوطن مثله مثل ملايين اللاجئين الفلسطينيين الذين تقطعت بهم السبل في العودة للوطن من خلال احتلال صهيوني يرفض حقهم في العودة لوطنهم الأم فلسطين، هاتفني رامي على أن نسافر ثلاثة أنا وإيمان وهو، أغلقت معه الهاتف بالموافقة، ولكن فكرت قليلا أنه قد يتعرض في الطريق لمضايقات أمنية، وقد لا يسمحوا للفلسطينيين بالمرور فأرسلت له رسالة برفضي لسفره معنا، مع علمي المسبق بمدى تألمه لذلك القرار الذي قد يراه جائرا، وقد كان ما حسبت حسابه؛
جاءتني إيمان إلى منزلي وكانت متألمة للغاية لعدم ذهاب رامي معنا، وحاولت أن تتصدى لقراري، وقالت ببراءة شديدة "إيه يعني لما يجرب خليه يا ستي يجرب حتى لو رجع هيكون علي الأقل أخذ شرف التجربة"، لم تكن إيمان تعلم مدى ما يمكن أن يتعرض له أي فلسطيني يقع تحت سياط بطش الأمن المصري، وأن هذه التجربة قد يكون ثمنها هو ترحيله من مصر أو إلقاءه في غياهب الجب في أحد المعتقلات، اتصلت في ذات الوقت بمسئولي الإغاثة الطبية في مصر، وعلمت أنهم سيأخذون قوافل، وسيسافرون اليوم في تمام الساعة الحادية عشرة مساءا، فأخبرت إيمان أن ننتظر، ونسافر معهم فوافقت، ولكن خطر في ذهني أنني لو سافرت معهم، وأنا فلسطينية قد اسبب لهم مشاكل علي الطريق والأفضل أن نسافر بمفردنا، وعلى مسئوليتنا الخاصة، وبالفعل جهزت شنطة سفري، ولم يكن بها سوى معجون الأسنان والفرشاة والكاميرا وجهاز اللاب توب، حملت شنطتي على ظهري، وانطلقت أنا وإيمان بدوي رفيقة رحلتي إلى موقف سيارات رفح -العريش بالمرج. وبرغم برودة الجو الشديد إلا أن اشتعال قلبي كان مدفئتي في هذا الصقيع القارص.
العسس وتدابير الله
قاتل الله الغربة، مهما كان نعيمها ومغرياتها، تبقي الأفئدة معلقة هناك بذاك الحبيب القريب البعيد.. إنه الوطن..... حيث تسكن في قلب الغريب غصة، لا يشعر بها إلا الغريب والغريب فقط.... أخذنا تاكسي من منزلي حتى مترو التحرير، واستقلينا المترو حتى المرج، ولم تكن لي خبرة كافية في المترو، وهنا كانت الريادة لإيمان بدوي فهي ضيف دائم على تلك الوسيلة، وما هي إلا أربعون دقيقة للمسافة بين التحرير والمرج، ثم مشينا عدة أمتار لنجد موقف سيارات رفح- العريش، وما أن وصلنا حتى وجدنا عشرات من العسس (الأمن)، يحملقون في كل من يأتي لموقف السيارات في صورة تراجيديه، لن تكفيها الكلمات، وفجأة تتعالى أصوات السائقين بلا استثناء مرددة لن نأخذ معنا أي فلسطيني، إذا حاول أي فلسطيني أن يذهب معنا فسيتم إرجاعه، أصوات تتعالى وتتعالى فتهز معها دواخل نفسك، بيد أن الأمر أصبح بالنسبة لي مسألة تحد بالغ القسوة لتلك الإرادة المثخنة بجراحها أمام هذه الغربة القسرية. وأقف هنا أمام مساحة أخرى من التحدي واختبار الذات....
كانت إيمان تنظر إلي بشفقة شديدة، ولكني أخبرتها بأنني سأمر بعون الله، وهي ردت مسرعة "وأنا مش هاسيبك نهار أبوهم أسود لو خدوكي ولا اعتقلوكي، هاخرب بيت أبوهم"، لا أعلم كيف انهمرت في الضحك أمام كلماتها البسيطة الصادقة والجميلة فأنا أعلم جيدا أن في هذا الأمر مخاطرة كبيرة، وأنني قد أفقد مستقبلي كله، في سبيل الذهاب للوطن، والالتحام بالأهل هناك ولكنها كانت المغامرة والتحدي... انتظرنا طويلا حتى وافق أحد السائقين أن يأخذنا إلى العريش، وهنا كرر السائق سؤاله، فيه حد فلسطيني هنا، فقلت له اتكل على الله يا أسطى كلنا مصريين، وحمدت الله أن رامي لم يكن معنا وأنني أصبت في قراري بعدم ذهابه معنا....... فلولا تدابير الخالق ولطفه بنا ما وصلنا إلى غزة.....
أعيدوني إلى وطني؟!
ليس في حياة اللاجئين الفلسطينيين، شهادة ميلاد طبيعية، ولا أوراق ثبوتية لأماكن إقامتهم القسرية، فقط عنوانهم الحقيقي يكون الوطن بكل تناقضاته، فهم يعيشون في المنافي وقلوبهم معلقة بهذا الوطن المحتل، وحلم العودة إليه.... كنا تسعة أفراد داخل السيارة، خمسة نساء، وثلاثة رجال، والسائق، كان يجلس بالكرسي الأمامي رجلان مع السائق، والكرسي الأخير نجلس فيه أنا وإيمان ورجل آخر، وفي الكرسي الأوسط تجلس سيدة كبيرة في السن، ومعها فتاتان لن يزيد عمرهما عن العشرين عاما إن لم يكن أقل من ذلك، وما أن بدأت السيارة بالانطلاق حتى وجدنا شابا يهرع باتجاه باب السيارة الأوسط، ويفتحه، ويوصي هذه السيدة ومعها الفتاتين قائلا لهم، كان نفسي أوي أجي معكم، خلي بالكم من نفسكم، وسبقته دموعه متحشرجة في صوته، فتدخلت مسرعة لإنهاء هذا الموقف الدرامي،
يا أخي الكريم ما تقلق عليهم هم في عيونا اتكل على الله عشان نمشي فضحك الجميع وانطلقت السيارة، وبدأت في ترتيل السور، الأذكار من استغفار وحوقلة، وصلاة على النبي.. الخ الخ، حتى يلطف بنا الله وييسر أمرنا، ومرت الساعة الأولى منذ انطلاقنا من القاهرة حتى وصولنا إلى الإسماعيلية، وكأنها جبل من الأثقال، كان الجميع في تلك الفترة صامت، لم نسمع إلا صوت المذياع، الذي لم أكن أعلم ماذا يقول، فقد كنت أعيش في حالة من الاستغراق الذاتي، وفجأة قال السائق جهزوا البطاقات لأن فيه دورية أمن هنا، فقالت السيدة التي تجلس أمامي يا ابني أنا، وبناتي ما معناش بطاقات، بس معنا وثائق سفر،
لم يفهم الجميع ما تقول ولكني التقطت الكلمة من السيدة، قائلة لها هو أنت فلسطينية يا حجة، فقالت أيوه يا بنتي، فرد السائق قائلا ليلة سودة ربنا يستر، أنا مش قلت إن الفلسطينيين مش هيعدوا فقلت له مسرعة توكل على الله يا أسطي إحنا نقول إن هذه السيدة والدتنا وإحنا بناتها وان شاء الله تعدي على خير كنت أتحدث بهذا التحدي وأنا وضعي أسوأ منهم بكثير، وكنت أردد في صمتي يا محاسن الصدف ليلتنا فل إن شاء الله، ونظرت أنا وإيمان لبعضنا البعض وانهرنا في الضحك، وما أن سمع الجميع ضحكاتنا ظانين إن هذه قوة منا، ولم يكونوا يعلموا إنها مرارة التحدي لواقع مرير،
وهنا رد الرجال في الكرسي الأمامي للسيارة، قائلين ما تخافيش يا حجة أكيد ربنا هيسترها، وجه هذه السيدة مكتوب عليه كل تباريح اللجوء، فما أن وصلنا للكمين الأمني حتى أخرج الجميع بطاقاتهم، كانت السيدة وبناتها قد وضعوا رؤوسهم فوق بعضها، وكأنهم نائمين وكنا قد أوصيناهم بذلك، وأخرجت أنا الكريديت كارد، وعندما سألني عن البطاقة، قلت له أن كل التفاصيل موجودة في الكريديت، ويبدو انه أراد أن يتأكد من لهجتي كوني مصرية أو فلسطينية، فلم يعلم هذا الشرطي، أن ولائي لمصر يغلب ولاءه، وأنني أحبها أكثر منه، وحريصة على أمنها كحرصي على وطني، ولكنه الحنين للوطن الذي لا يعرفه إلا أمثالنا نحن اللاجئين، ما أن تخطينا الكمين بعدة أمتار حتى ضحك الجميع وكأنها صيحات الانتصار، ودأبت هذه السيدة تحكي لنا بشكل تلقائي ودون أن يسألها أحد قائلة لنا،
أن أهلها جاءوا إلى مصر عقب نكبة فلسطين عام 1948م، وأنها من مواليد مصر، حيث كبرت وتربت في مصر، وتزوجت من أحد أبناء عمومتها من غزة، وكان يتنقل ما بين مصر وغزة، حتى وافته المنية تاركا لها ثلاثة أولاد، وثلاثة بنات أصغرهن من هم معها بالسيارة، وأن أحد أبنائها التحق بصفوف الشرطة الفلسطينية في غزة منذ عام 1994م، ولم تره منذ عدة سنوات بسبب ظروف المعبر، وعندما حدث فتح الحدود اتصل فيها ابنها طالبا منها أن تأتيه، وهي وأخواته البنات لكي يراهم جميعا في رفح، ثم استدركت في حديثها، بأن ابنها الذي كان يودعها كان يتمنى الذهاب للقاء أخيه هناك، ولكنه يخاف من الأمن فقد يسمحون ويتعاطفون مع النساء، وهذا ما حدث بعد ذلك بالفعل، ولكنهم لن يرحموا شابا مثله، ونظرت أنا وإيمان لبعضنا البعض وقالت إيمان الحمد لله إن رامي لم يأتِ معنا، وهنا تبادر إلى ذهني أن أسأل هذه السيدة البسيطة عدة أسئلة، فقلت موجهة أسئلتي إليها، ما رأيك يا حجة أن تعيشي بفلسطين؟؟ فردت مسرعة أمنية حياتي يا بنتي بس ازاي، ياريت ربنا يكتب لنا نرجع بلدنا قبل ما نموت، فقلت لها لكن أولادك اتولدوا بمصر، وقد تكون حياتهم في مصر أفضل، وأكثر أمنا، فردت ابنتها الصغيرة لا يوجد مكان الدنيا أغلى من بلد البني آدم، لقد كان صوت حال هذه الأسرة مرآة تعكس أصوات اللاجئين الفلسطينيين في المنافي هاتفة بقلبها أعيدوني إلى وطني.
اقرأ أيضاً:
ملفات فلسطينية / رسالة إلى غزة/ الطريق إلى غزة.. عندما تسللت إلى وطني