(أي وساطة عربية يجب أن تجري مراجعة لاستراتيجية السلام التي تلتزم بها لكي تكون مؤهلة لإنجاح الحوار الفلسطيني)
أخيرا اتفق قطبا الانقسام الفلسطيني على شيء وهما ما يزالان مختلفين على كل شيء: الاحتكام إلى وساطة الأشقاء العرب لمساعدتهم في حل خلافاتهم. فإلى أي حد يستطيع العرب المساعدة في ضوء فشل سلسلة من وساطاتهم السابقة، خصوصا وأن تجديد المناشدة الفلسطينية الجديدة لهم من أجل التوسط ثانية تذكر بأن مبادرة وزراء خارجية جامعة الدول العربية للوساطة بينهم سيكون قد مضى عليها عام كامل في الخامس عشر من الشهر الجاري دون أن يتمخض عنها شيء.
مما لاشك فيه أن ما لم يستطع طرفا الانقسام التفاهم عليه فلسطينيا لن يتفاهما عليه عربيا وكذلك فإن ما لم يستطع العرب دفع كلا الطرفين إليه سابقا لن يتمكنوا من دفعهما إليه الآن إلا إذا كانت مستجدات الوضع الوطني والإقليمي والدولي قد خلقت لديهما حوافز للاستجابة، لكن قبل استجلاء ذلك لابد من استقراء ماذا يأمل كل من الطرفين في تحقيقه من الوساطة العربية وما هي الخلافات المستعصية ثنائيا بينهما ثم ما هي حدود قدرة الوسيط العربي على التوفيق بينهما حولها.
إن البيان المقتضب الذي أعلن فيه الرئيس الفلسطيني محمود عباس يوم الأربعاء الماضي مبادرته الجديدة غير المشروطة للحوار تحت المظلة العربية لم يقل الكثير عما يأمل فيه من الوساطة العربية غير دعوته "أمتنا العربية إلى التحرك على الصعيد الدولي لرفع الحصار الظالم عن أهلنا في قطاع غزة... الذي يشكل جريمة حرب"، وهذه الإشارة - الدعوة في الحقيقة تمثل من ناحية نقدا للعجز العربي عن التصدي لجريمة الحرب الجارية في قطاع غزة وتشير بشكل غير مباشر لكنه واضح إلى أن "التحرك" العربي ما زال مأمولا فيه فلسطينيا وإن "تحرك" متأخرا، لكن لا علاقة لها بالوساطة العربية لحل الخلافات الفلسطينية لأنها في الواقع تمثل نقطة الاتفاق الثانية بين طرفي الانقسام الفلسطيني، لفظيا في الأقل، بعد الاتفاق على الوساطة العربية.
غير أن ما تأمل الرئاسة الفلسطينية في تحقيقه من الاحتكام للوساطة العربية يمكن استنتاجه من النص في بيانه المصاغ بدقة على دعوته إلى "حوار وطني شامل لتنفيذ المبادرة اليمنية بكل عناصرها كما قررت ذلك القمة العربية في دمشق" بهدف "إنهاء الانقسام الوطني... الذي يشكل خطرا أكيدا على مشروعنا الوطني". إن هذا النص يوضح توضيحا لا لبس فيه أمرين الأول أن الرئاسة الفلسطينية متمسكة ببرنامجها السياسي دوليا وداخليا والثاني أنها تريد الاستقواء بالوساطة العربية استنادا إلى شرعية قمة دمشق لإنهاء ما ترى فيه "خطرا" داخليا على حظوظ هذا البرنامج في النجاح، وهذا الاستقواء بالعرب لحل استعصاء داخلي ينسجم مع ما كان أعلنه الرئيس عباس من احتكامه إلى العرب أيضا لحل أي استعصاء خارجي يواجه برنامجه في حال وصلت مفاوضاته مع دولة الاحتلال إلى طريق مسدود، مما يعطي مصداقية لما صرح به رئيس دائرة المفاوضات في منظمة التحرير صائب عريقات بأن بيان عباس لا يشير إلى أي "موقف جديد".
وتأكد هذا التوجه للرئاسة، الذي حرص عباس في بيانه على إعلانه باسم منظمة التحرير الفلسطينية، بتصريحات أطلقها خلال سويعات بعد البيان ياسر عبد ربه أمين سر اللجنة التنفيذية للمنظمة الذي اشترط "قبل الجلوس على الطاولة" للحوار "أن تكون هناك خطوات واضحة ومحددة لإنهاء الانقلاب" في قطاع غزة، قبل أن يستبدل عبارة "إنهاء الانقلاب" بعبارة "إنهاء الانقسام" ليضيف بأن إنهاءه "يعني أيضا القبول ببرنامج منظمة التحرير والتزاماتها".
غير أن عبد ربه أضاف مطلبا من الوساطة العربية لم يتطرق إليه بيان الرئيس وهو "وجود قوة عربية ومشاركة عربية في حماية الأمن في غزة" وقد كرر هذا المطلب في اليوم نفسه نمر حماد المستشار السياسي لعباس، وهذا المطلب لمنظمة التحرير والرئاسة يتقاطع مع اقتراحات أمريكية إسرائيلية مماثلة من ناحية ويتكامل من ناحية أخرى مع مطالبة مكررة معلنة من الرئاسة الفلسطينية بإرسال قوات دولية إلى القطاع، وهذه نقطة خلاف رئيسية بين قطبي الانقسام الفلسطيني لا بل إن معظم الفصائل الأعضاء وغير الأعضاء في المنظمة أعلنت معارضتها لها.
وتتقاطع المعارضة الفلسطينية التي تقودها حماس لهذا المطلب مع معارضة مصرية – أردنية معلنة ترفض المساهمة في تحمل أعباء يجب على دولة الاحتلال الإسرائيلي تحملها بموجب القانون الدولي وتشترط قيام دولة فلسطينية مستقلة ذات سيادة قبل ذلك ليكون ممكنا النظر في مطلب يتم بحثه بعدئذ في إطار العلاقات العربية البينية.
وإذا كان الرئيس الفلسطيني قد ذكر بأنه سيتحرك عربيا "لضمان التأييد" لمبادرته فإن إسماعيل هنية، باسم حماس وحكومته في غزة، دعا إلى أن يكون الحوار الفلسطيني "تحت رعاية جامعة الدول العربية"، وكانت حماس قد كررت مطالبتها بأن تقوم لجنة تقصي الحقائق التي ألفتها الجامعة في سياق مبادرتها المشار إليها في مستهل هذا المقال بزيارة القطاع، وربما كانت حماس تريد بذلك كسر الحصار المفروض عليها أكثر مما تريد تقصي الحقائق التي رفعتها بمذكرة إلى الجامعة في وقت مبكر, ويتضح ذلك من مطالبتها المستمرة بأن تتحرك الجامعة لكسر الحصار المفروض على القطاع عبر العمل مع مصر على فتح معبر رفح على الحدود الفلسطينية المصرية، وما زالت هذه نقطة خلاف بين طرفي الانقسام الفلسطيني حيث تصر الرئاسة على إعادة فتحها بموجب الاتفاقيات الموقعة بينما تصر حماس على أن تطور الأحداث قد أسقط هذه الاتفاقيات ولابد من إعادة فتح المعبر على أسس جديدة، وتتخذ مصر والدول العربية من هذا الخلاف الفلسطيني – الفلسطيني ذريعة لبقائها متفرجة على الكارثة الإنسانية المتفجرة في القطاع، والاحتمالات واقعية جدا لنجاح الوساطة العربية في حل الخلاف حول ذلك بين الطرفين إذا قدر لمبادرة عباس أن ترى النور، لكن حظوظ أي وساطة عربية في التغلب على نقاط الخلاف الأخرى لا تبدو واعدة بالقدر نفسه.
وأقل هذه الخلافات يتعلق بالاصطراع على سلطة هي إما محاصرة بالعدوان العسكري المتواصل على احد جناحيها في قطاع غزة أو هي مقيدة بمرجعيتها المتمثلة في الحاكم العسكري الإسرائيلي من ناحية وبارتهانها لكرم المانحين من ناحية ثانية في الجناح الآخر بالضفة الغربية، أما أعوص هذه الخلافات فيتعلق بعملية للسلام وصلت إلى طريق مسدود ما زال أحد القطبين يعارضها بينما القطب الآخر ملتزم بها. ويبدو طرفا الانقسام في سرعة استجابتهما للحوار كمن يسعى إلى استثمار الوقت الضائع الناجم عن التغيير المرتقب في الحكومتين الأميركية والإسرائيلية نتيجة بدء حملة انتخابات الرئاسة الأميركية واحتمالات كبيرة جدا لتغيير مماثل في إسرائيل، فحماس تسعى إلى كسر الحصار بينما تسعى الرئاسة إلى محاولة ترتيب البيت الداخلي الفلسطيني لمصلحتها لتحسين أوراقها التفاوضية لتكون جاهزة لاستئناف المفاوضات حالما يستكمل شركاؤها المرحلة الانتقالية التي يمران بها.
والمفاوضات نقطة خلاف فلسطينية رئيسة ولا يمكن لأي وساطة عربية فيها أن تكون محايدة، فالإجماع العربي على السلام كخيار استراتيجي انبثقت عنه مبادرة السلام العربية التي تستند الرئاسة ومنظمة التحرير الفلسطينية إليها في برنامجها السياسي لا بد وأن تكون منحازة لهذا البرنامج وأصحابه وبالتالي فان احتكام الرئاسة إلى الوساطة العربية سيكون بالتأكيد وسيلة ضغط على حماس. والأمين العام للجامعة العربية عمرو موسي يدرك جيدا أن وساطته تستهدف تأهيل الوضع الفلسطيني للتفاوض لأن المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية لن تنتهي طالما بقي الانقسام الفلسطيني دون حل، كما نقلت وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية عنه قوله مؤخرا.
وتستقوي حماس لتعزيز مواقفها بالاتفاقيات الفلسطينية – الفلسطينية الموقعة بقدر ما تستقوي الرئاسة بالاتفاقيات الدولية التي وقعتها، فقد حرص هنية في بيان استجابته السريعة لمبادرة عباس على الإشارة إلى الاتفاقات الموقعة بين الطرفين، دون أن يفصلها، لكنها تشمل اتفاقات القاهرة ومكة ووثيقة الأسرى والمبادرة اليمنية التي طرح عباس مبادرته الجديدة على أساسها وتشمل أيضا إعلان صنعاء المنبثق عنها والموقع بدوره. وقد كررت فصائل منظمة التحرير بخاصة، وخصوصا الجبهتان الشعبية والديمقراطية، مطالبتها بتفعيل هذه الاتفاقيات كمدخل لتفعيل منظمة التحرير الفلسطينية كمرجعية للعمل الوطني تآكلت نتيجة تغول سلطة الحكم الذاتي عليها.
فالإشارة إلى هذه الاتفاقات لها أهميتها من عدة نواح، الأولى أن بعضها وقع برعاية عربية ملزمة لرعاتها، والثانية أنها تخاطب مطالبة الفصائل الأخرى –التي كانت مشاركة وموقعة عليها– بأن لا يكون الحوار الوطني ثنائيا يقتصر على فتح وحماس، والثالثة أن جميع هذه الاتفاقات كانت وثائق توافق وطني على التوفيق بين البرنامجين الوطنيين المتضاربين، وما زال تنفيذها استحقاقا معطلا برسم الرئاسة، كما أن تنفيذها سيكون على جدول أعمال الحوار الجديد المرتقب وسيكون محك نجاح أو فشل هذا الحوار، مما يجعل أي عودة للحديث عن أي "برنامج وطني" في معزل عنها عودة إلى نقطة الصفر، كما فعل البعض في حاشية الرئيس خلال سويعات بعد إعلان مبادرته عندما تحدثوا بأن إنهاء الانقسام يعني القبول بالتزامات منظمة التحرير وبرنامجها الراهن ويعني "إنهاء الانقلاب" أولا، فعلام سيجري الحوار إذن!
ولابد لنجاح الوساطة العربية في إنجاح الحوار الفلسطيني المرتقب من التوفيق بين الطرفين على ثلاثة مسائل أساسية قاد عدم التوافق عليها إلى انهيار كل جولات الحوار الفلسطينية السابقة وإلى فشل تلك التي نجحت منها في التوصل إلى اتفاقات وطنية في وضع تلك الاتفاقيات موضع التنفيذ، وثلاثتها غائبة عن المبادرة التي أعلنها الرئيس عباس نهاية الأسبوع الماضي لاستئناف الحوار، مما يفسر ما استقبلت المبادرة به من حذر شديد وتحليلات ترى فيها مناورة تكتيكية لا توجها استراتيجيا، بالرغم من المناخ السياسي الإيجابي المتفائل الذي خلقته.
المسالة الأولى هي عدم التوافق على برنامج سياسي يكون أساسا لوحدة الصف الوطني المأمولة، إذ طالما ظل الاستقطاب قائما حول برنامجين وطنيين متضاربين في الاستراتيجية كما في تكتيكات النضال الوطني فإن الانقسام سوف يظل نارا تحت الرماد ليتحول إلى مجرد هدنة في الاصطراع الدائر عندما ينشط الحوار أو الوساطات لكن سرعان ما يشتعل أوارها عندما يغيب الحوار الوطني أو يستعصي.
والمسألة الثانية هي عجز ما يسمى بالنظام السياسي الفلسطيني الذي نشأ في ظل الاحتلال منذ عام 1993، لأسباب ذاتية وأخرى خارجية قاهرة، عن خلق مؤسسات حيادية قادرة على إدارة الخلافات أو الاختلافات الوطنية، بعد أن نجح تماما في تفكيك وتهميش النظام السياسي الوطني السابق، المتمثل في منظمة التحرير الفلسطينية، حد الشلل، وهو نظام كان قد أثبت جدارة في إدارة الاصطراع الداخلي عندما كان هذا الاصطراع يدور في "غابة بنادق" الكفاح المسلح وليس تحت مظلة "السلام"، فمؤسسة الرئاسة وحكوماتها والمؤسسات الأمنية والمجلس التشريعي ظلت حكرا على فصيل واحد ومنحازة له لا بل جزءا منه حتى لم يعد هذا الفصيل يدري أين تنتهي حدوده وتبدأ حدود سلطة الحكم الذاتي، إلى أن جاءت الانتخابات التشريعية أوائل عام 2006 لكي تتمخض نتائجها عن القضاء تماما على أي حيادية واستقلالية للمؤسسات تمكنها من إدارة سلمية للصراعات الداخلية.
وربما هنا تكمن الأهمية الأكبر في مبادرة الرئيس عباس الجديدة، التي فتحت فرصة جديدة للحوار الوطني حظيت بالترحيب العربي الشقيق والدولي الصديق والاستجابة السريعة لها من حماس والترحيب الأوسع من الفصائل كافة، الأعضاء وغير الأعضاء في منظمة التحرير، إذ أنه لأول مرة تحدث بلغة محايدة أظهرت مؤسسة الرئاسة مستقلة غير متخندقة مع هذا الطرف أو ذاك من قطبي الانقسام، وهذه استقلالية مستحقة منذ مدة طويلة لكن تجذيرها في الظرف العصيب الراهن أصبح مطلبا وطنيا ملحا ينسحب على كل المؤسسات الأخرى لكي تتحول إلى مؤسسات وطنية بعد أن تحول الوطن لفترة طالت أكثر من اللازم إلى مؤسسة فصائلية كانت هي السبب في ما يصفه طرف بالانقلاب السياسي على نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة ويصفه الطرف الآخر بالانقلاب على السلطة.
إن المعارضة الإسرائيلية الأميركية لحوار الرئاسة مع ما تعتبره تل أبيب وواشنطن "إرهابا" ومراهنة "قنابل فلسطينية موقوتة" لا تريد حوارا وطنيا في الأصل على فشل المبادرة الجديدة للحوار أسوة بكل الحوارات والوساطات السابقة واعتبار التهديد بإعادة فرض الحصار العسكري والاقتصادي على السلطة قدرا محتوما لا مفر منه في "حسابات" هؤلاء السياسية هو حذر مبني على فرضية أن المفاوضات مستمرة ومجدية، لكن "الفشل" هو ما وصلت إليه هذه المفاوضات (مستشار الرئيس نمر حماد) ووصولها إلى نتيجة لن يحدث إلا ب"معجزة" (رئيس الوفد المفاوض أحمد قريع).
وهنا يكمن السبب الرئيسي الثالث الذي حان الوقت أيضا للتوافق عليه كي ينجح الحوار الوطني الفلسطيني، وهو تحديدا وقف المفاوضات الجارية والاتفاق على أسس جديدة لاستئنافها إن كان لابد منها. إن أي مراجعة ل"الشروط" التي اقترحتها فصائل فلسطينية عديدة لاستئنافها ركزت على وقف الاستيطان والغزو والعدوان بضمانات دولية، غير أن الوقت قد حان لكي يشترط المفاوض الفلسطيني، إضافة إلى ذلك، اعترافا رسميا إسرائيليا وأميركيا مسبقا بدولة فلسطين، بعد أن منحت منظمة التحرير الفلسطينية دولة الاحتلال اعترافا يكاد يكون مجانيا، ثم يشترط ضمانات ملزمة لحرية حركة الناس والسلع عبر منافذ قطاع غزة كحاجة إنسانية حيوية حتى يتوقف ولا يتكرر ما وصفه الرئيس عباس ب"جريمة الحرب" في القطاع.
غير أن أي وساطة عربية يجب أن تجري مراجعة لاستراتيجية السلام التي تلتزم بها لكي تكون مؤهلة لتبنى هذه المطالب الإضافية ولكي تنجح في إنجاح الحوار الفلسطيني.
اقرأ أيضاً:
أي دولة فلسطينية يسوقها بوش!