ما يعيشه العالم العربي هذه الأيام يجعلنا نؤمن بأهمية التفكير الاستراتيجي الذي من شأنه ضبط بوصلتنا العربية صوب الأهداف الكبرى بحسب أولويات النهضة العربية واحتياجاتها ومشاكلها ومقاساتها في كل بلد عربي وعلى المستوى القومي، وهذا اللون من التفكير يدفعني بصفتي مواطنا ومثقفا عربيا إلى دعوة كافة المثقفين العرب باختلاف أطيافهم الفكرية إلى تأسيس ميثاق عربي يتمحور حول رفض التدخلات الأجنبية في أقطارهم العربية بأي شكل كانت، فالتدخل الأجنبي –مهما كان مصدره وأدواته- مرفوض وغير مبرر بغض النظر عن الظروف والملابسات التي تعيشها تلك الأقطار العربية؛
ويجئ تأكيدنا على حتمية هذا الميثاق على إثر الاتهامات الموجهة للرئيس السوداني الفريق عمر حسن البشير من قبل محكمة الجنايات الدولية بشأن أحداث دارفور وكل ما يقال حولها، وبغض النظر عن خلفية تلك الاتهامات أو ملابساتها القانونية والجنائية والسياسية، فنحن نتحدث عن قضية (مبدأ) مشروعية التعاطي مع الشأن العربي والتدخل في شئونه الداخلية من قبل القوى والمؤسسات الأجنبية، لاسيما أن بعض المثقفين العرب –وتحديدا من الليبراليين الجدد ومن ينسج على منوالهم– ينشطون في تعبئة العقل العربي وإقناعه بصحة أو حتمية نظرية "الاستقواء بالخارج"، مؤكدين على شرعية التدخل الأجنبي في الشئون العربية حتى لو كان ذلك عسكريا كما هو في العراق والصومال، الأمر الذي يؤذن بحدوث فوضى خلّاقة أو غير خلاّقة في محيطنا العربي... فهل يعقل أن نشهد هذا اليوم تنادياً على تدخل بعض القوى الأجنبية في هذا البلد العربي وغدا في بلد عربي آخر لأن فئة من المثقفين العرب رأوا أن ذلك سائغ من أجل تحقيق مشاريع الإصلاح العربية المعطلة!!
الإصلاح العربي يجب أن يكون في مبتدأه وخبره شأن عربي خالص لا تكدره أي مكدرات أجنبية بأي وصفة كانت، ولا توجد أمة حية أو مجتمع ناهض اعتمد على غيره في تحقيق الإصلاح أو محاربة الفساد، وعلى هذا فيجب التأكيد على أن ما يحدث داخل البلاد العربية هو شأن شعوبها فقط، من خلال الحراك السياسي والثقافي وبالطرق السلمية، مع تشديدنا على إعطاء هذا الحراك ما يحتاجه من الفضاءات والآليات التي تتيح له أن يطور وظائفه وأداءه في مجال محاربة الفساد بكافة أشكاله المالية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ وتحقيق أو توسيع المشاركة السياسية الشعبية الحقيقية وفق الخيار الديمقراطي الذي يرتضيه الشعب العربي داخل إطاره الحضاري العربي الإسلامي؛
كما يتعين على الأنظمة العربية أن تفيد جيداً من دروس تلك الأحداث، وأن تكون على مستوى المسئولية في المضي قدما في طريق الإصلاح الحقيقي، بعيدا عن الشعاراتية الفارغة التي لم تعد تنطلي على أحد، ولقد هالني جدا ما رأيته في برنامج "منبر الجزيرة" في قناة الجزيرة -يوم السبت 19 يوليو- حيث شاهدت أن النسبة الكبرى من المتصلين –وهم من بلاد عربية كثيرة، داخل البلاد العربية وخارجها– يؤيدون وبشكل متحمس محاكمة الرئيس السوداني البشير في المحكمة الدولية، ومع أنه لا يمكن القول بأنها نسبة ممثلة للتوجهات العربية الشعبية، إلا أنها تعطي مؤشرات لا يسوع تجاهلها، من قبل الأنظمة الرسمية العربية، فهو مؤشر على سخونة الأوضاع العربية، وعلى ارتفاع منسوب السخط الشعبي، كما شاهدت برامج في قنوات إعلامية أخرى تعرض الموضوع للاستفتاء العام في صورة تؤكد على أن الوضع العربي وصل إلى درجة خطيرة ومخيفة من الفوضوية الفكرية والسياسية.
ومن هنا يتوجب على الفئة المثقفة توعية الشعوب العربية بخطورة السير في هذا المنحدر الخطر، حيث يتوهم بعض العرب أن الغربيين يفرشون بتلك المحاكمات وما يشابهها مسارب النهضة العربية بورود العدالة ورياحين الحرية، وربما يعبر البعض عن يأسهم المطلق من كافة المشاريع العربية النهضوية، وفي هذه الحالة أو تلك ارتكاس نهضوي ويأس حضاري مميت، وكل هذا يوجب على المثقفين أن يقوموا بدورهم التاريخي من أجل الحيلولة دون وقوعه، كما ننادي الأخ الدكتور عمرو موسى بضرورة اتخاذ موقف أكثر صلابة في الجامعة العربية، ويجب إشعار الجامعة بأن الكتلة الثقافية العربية ذات التوجهات الوطنية والعروبية والإسلامية تقف ضد أي تدخل أجنبي سافر ، حتى لو تدثر بإهاب القانون الدولي وتحدث باسم الإنسانية، فالإنسانية أجل من أن تستخدم سياسياً بشكل بشع، كما نراه الآن، وبازدواجية مقيتة باتت مكشوفة لكل أحد.
فمن يعلق جرس البدء بإيصال صوتنا العربي ، والتحرك على كافة الأصعدة لتدوين الميثاق العربي في هذا الشأن والوفاء باستحقاقاته القانونية والسياسية والثقافية والإعلامية لوقف هذه المهازل، في حراك ثقافي عربي ناضج... حراك ذاتي لا تحركه سوى المصلحة العربية العليا وفق أولوياتها الحقيقية والنأي بالعالم العربي عن موارد الفوضى ومسالك التشتت والفرقة، راجين أن يقنع ذلك الحراك المخلص الأنظمة العربية بضرورة الاقتراب من شعوبها وتلمس سبل الإصلاح الحقيقي ومكافحة الفساد بكافة ألوانه، وإن بشكل تدريجي!
واقرأ أيضاً:
بيان إلى الأمة في الذكرى الستين للنكبة / الحماقة الصهيونية الكبرى/ الدولة الصهيونية ويهود العالم/ الصهيونية... مرتع الفساد / الحركة الصهيونية كمشروع غربي