اختفى مصطلح "مركزية الدياسبورا" من الأدبيات التي تتناول علاقة الجماعات اليهودية بالدولة الصهيونية وحل محله مصطلح «قومية الدياسبورا» الذي يشير إلى أن الجماعات اليهودية تشكل شعباً واحداً وقومية يهودية لها مركز واحد. ولكن هذا المركز لم يكن هو فلسطين في سائر اللحظـات التاريخية، وإنما كان ينتقل بانتقال القيادة الفكرية لليهود. فهو مرة في بابل، وأخرى في الأندلس، وثالثة في ألمانيا أو في روسيا، ولعله الآن في الولايات المتحدة أو إسرائيل. ويتفـق مفهـوم قومية الدياسـبورا مع الفكر الصهيوني في عدة نقاط، من أهمها أن اليهود يكوِّنون شعباً واحداً وأن له تراثاً واحداً. ولكن قومية الدياسبورا تختلف عن الصهيونية في قبولها تعددية المركز، وفي رفض فكرة مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا، أي الجماعات اليهودية. وقد يبدو هذا الاختلاف سطحياً، ولكنه في الواقع اختلاف جوهري إذ أن تعددية المركز تعني أن الدولة الصهيونية ليست مسألة ضرورية أو حتمية، وأن اليهود يمكنهم التعبير عن هوياتهم أينما وُجدوا. كما أنه يعني أن تراث يهود العالم تراث يستحق الحفاظ عليه، وأن الشعار الصهيوني الداعي إلى تصفية الدياسبورا ونفيها شعار معاد لليهود. ويُعتبر كلٌّ من المؤرخ الروسي اليهودي سيمون دبنوف والكاتب الروسي اليديشي حاييم جيتلوسكي من أهم دعاة قومية الدياسبورا.
وعل مستوى البنية الفكرية الكامنة، تعني قومية الدياسبورا بالنسبة إلي هذين الداعيين قومية يهود اليديشية أو القومية اليديشية باعتبارها قومية يهودية شرق أوروبية يمكن التعبير عنها من خلال إطار الدولة متعددة القوميات (على نمط الإمبراطورية الروسية والدولة السوفيتية والإمبراطورية النمساوية المجرية). وبالفعل، نجد أن قومية الدياسبورا أصبحت، على مستوى الممارسة، هي حق يهود اليديشية في التعبير عن هويتهم الثقافية وفي الحفاظ على تراثهم ولغتهم داخل إطار الدولة متعددة القوميات. ولذا، فإن مصطلح «قومية الدياسبورا» ليس دقيقاً البتة، وقد يكون من الأدق الإشارة إلى «القومية اليديشية الشرق أوروبية» أو «القومية اليهودية الشرق أوروبية»، وعلى كلٍّ فقد تهاوى هذا المفهوم بتزايد معدلات الاندماج بين يهود الاتحاد السوفيتي ويهود الولايات المتحدة.
أما المفكر الثالث الذي ينطلق من مفهوم قومية الدياسبورا فهو "جيكوب نيوزنر"، عالم ومؤرخ أمريكي يهودي تلقَّي تعليمه في كلية اللاهوت اليهودية (المحافظة)، ودرس في جامعة كولومبيا وجامعة براون. من أهم مؤلفاته كتاب تاريخ اليهود في بابل (خمسة أجزاء، 1965- 1970) والتقاليد الحاخامية عند الفريسيين (1971)، واليهودية في عصر علماني (1970). وله دراسات مهمة في التلمود. ويُعَدُّ من أهم علماء التلمود في العصر الحديث.
ويُعَدُّ نيوزنر من أهم المفكرين الأمريكيين اليهود الذين يدافعون عن الوجود اليهودي خارج فلسطين (فيما يُسمَّي «قومية الدياسبورا»)، ولذا فهو يرفض المفهوم الصهيوني لإسرائيل باعتبارها المركز الروحي ليهود العالم. وينطلق نيوزنر من تعريفين للشعب اليهودي أحدهما ديني وثقافي والآخر سياسي وقومي. وهو يرى أن الدولة اليهودية قد يكون لها مركزية في حياة اليهود (الزمنية التاريخية)، ولكنها لا مركزية لها في حياة اليهود المتعينة كأناس "يعيشون ويعانون، يولدون ويموتون، يفكرون ويشكون، يربون أطفالهم ويقلقون عليهم، يحيون ويعملون. فما دام اليهود بشراً يعيشون في ظل ظروف إنسانية مستقلة، فلا الصهيونية ولا دولة إسرائيل يمكنها أن تكون محور حياتهم". كما أكد الحاخام نيوزنر أن الصهيونية ليـس لديها ما تقوله بالنسـبة لقضـايا الحياة الثابتـة الخالدة، لأنها (أي الصهيونية) لم تثر قط مشكلة الوجود اليهودي كما عبَّرت عنها اليهودية.
ورفض الحاخام نيوزنر الصهيونية في كتابه المعنون اليهودية الأمريكية (1972) وهو كتاب عميق للغاية إذ يرى أن الصهيونية أخذت تصبح تدريجياً بديلاً زائفاً عن الدين اليهودي، فاستولت على الخطاب الديني اليهودي وعلى رموز اليهودية الدينية، ولذا يعتقد الكثيرون أن الصهيونية واليهودية هما شيء واحد. ونتيجة هذا، يفشل كثير من يهود أمريكا في ممارسة أي نوع من أنواع التسامي الديني والتجاوز الروحي للعالم المادي، ذلك لأنهم يركزون كل اهتمامهم على قطعة أرض لا يعيشون فيها.... وثمة فارق شاسع بين أن يحلم المرء بأرض توجد في السماء في نهاية الزمان وأن يحلم ببلد بعيدة كل ما فيها خير، ولكن، مع هذا، بإمكان الإنسان أن يذهب إليها إن أراد، أي أن صهيون بالنسبة ليهود أمريكا لم تَعُد حلماً دينياً وإنما أصبحت تذكرة ذهاب وعودة إلى إسرائيل لمدة أسبوعين.
ويبدو أن حدة رفض نيوزنر للفكرة الصهيونية عن مركزية إسرائيل آخذة في التزايد كما يتضح في مقاله الغاضب المنشور في الواشنطن بوست في (10 مارس 1987) بعد وقوع فضيحة بولارد، فقد أكد بلا مواربة أن الوقت قد حان للقول "إن أمريكا أفضل من القدس بالنسبة لليهود، وإن كانت هناك أرض ميعاد فإن اليهود الأمريكيين يعيشون فيها ويشعرون بالسلام والأمن على نحو لا يمكن أن يُتاح لهم في إسرائيل. فاليهود في الولايات المتحدة طائفة مقبولة تجري مع التيار الرئيسي للحياة الأمريكية، وينتمي سبعة أعضاء في مجلس الشيوخ الأمريكي، أي 7% من أعضاء المجلس لطائفة تشكل 2% من مجموع السكان". لكل ذلك، دعا نيوزنر الجميع لطي المسألة وتساءل: "أين يفضل أن يعيش اليهودي؟" والسؤال خطابي استنكاري. فالمقال يقرِّر بما لا يدع مجالاً للشك أن اليهودي الأمريكي يعيش حياة يهودية كاملة في الولايات المتحدة، وأن الدولة اليهودية لا تشكل مركزاً روحياً بالنسبة له.
ورغم هذا الموقف الحاد، فإن نيوزنر يُسمِّي نفسه "صهيونياً"، بل إنه يؤيد إسرائيل تأييدا أعمى. ولا ندري بأي معنى من المعاني يمكن أن يهاجم مفكر المفاهيم الصهيونية الأساسية بهذه الحدة ويستمر في تسمية نفسه صهيونياً. ولكن رؤية قومـية الدياسـبورا أو ما نسـميه نحن «الصهيونية التوطينية»، مثلها مثل الرؤية الاندماجية، قد تم استيعابها هي الأخرى داخل إطار صهيونـية الدياسبورا، وهذا ما كان يعنيه الحاخام نيوزنر نفسه حينما تحدَّث عن مركزية الدولة الصهيونية في الحياة السياسية لليهود وحسب، وهامشيتها في حياتهم الروحية أو الحقيقية، فهو بذلك قد قسَّم حياة اليهود والشتات إلى قسمين: قسم سطحي «صهيوني» يعبِّر عن نفسه من خلال دفع التبرعات والضغط الســياسي. والقسـم الآخر، وهو الـكيان اليهودي الحقيقي، ويقع خارج نطاق الرؤية الصهيونية ويشمل حياة اليهودي في معظم أبعادها. كما أن هذا التقسيم يشير بأنه يرى أن تأييد يهود الولايات المتحدة للدولة الصهيونية هو تأييد سياسي وحسب، لا يختلف عن تأييد أي مواطن أمريكي يدور في إطار سياسة الولايات المتحدة الخارجية، والتي تؤيد إسرائيل تأييداً كاملاً.
ويمكن أن نعتبر أ. ف. ستون (1907- 1989) الكاتب والصحفي الأمريكي اليهودي من دعاة قومية الدياسبورا وقد عمل صحفياً ومراسلاً لعدد من المجلات والصحف الأمريكية منذ عام 1922 ودرس الفلسفة في جامعة بنسلفانيا. ويُعَدُّ ستون من المؤمنين بأن الجماعات اليهودية خارج فلسطين لها تراثها وهويتها وإسهاماتها الحضارية وبوجوب الحفاظ علي هذا الوضع وتدعيمه. وهو ينظر نظرة قاتمة إلى ما يسميه قومية ليليبوت (بلاد الأقزام في رواية مغامرات جلفر) ويعني بها إسرائيل (أو الصهيونية)، وهي قومية ضيقة الأفق إذا ما قورنت بما يسميه «قومية الشتات» بنظرتها العالمية (و«قومية الشتات» في مصطلحنا هي عبارة عن الانتماءات الثقافية والإثنية المختلفة لأعضاء الجماعات اليهودية والتي تختلف باختلاف الزمان والمكان). ويؤكد ستون أن القومية الأولي ثمرة الاهتمام الضيق بالمصلحة القَبَلية، أما الثانية فتنبع من رؤية إنسانية. وقد ألقَى ستون نظرة شاملة على منجزات الشتات (أي أعضــاء الجمــاعات اليهــودية في العــالم)، فوجـد أن الفترات التي ازدهرت فيها حياة اليهود مرتبطة بحضارات ذات رؤية تعددية، سواء في الفترة الهيلينية (في الإسكندرية)، أو الفترة التي ســادت فيــها الحضــارة العــربية في الأندلـس (وشمال أفريقيا)، أو في العصر الحــديث في غـرب أوروبــا والولايــات المتـحدة.
وهــو يــرى أن ازدهـار حياة اليهود في الشتات وإسهاماتهم الحضارية ظاهرة إيجابية جــديرة بالحــفاظ عليـها وتدعيمها. ولذلك، فبدلاً من المطالبة بتصفية الوجود اليهودي في الاتحاد السوفيتي أو تهجير اليهود إلى أرض الميعاد. وبدلاً من التهييج ضد الاتحاد السوفيتي، يقترح حث الاتحاد السوفيتي على القضاء على معاداة اليهود وعلى مَنْح اليهود السوفييت الحقوق الخاصة بالاستقلال وحرية التعبير التي يمنحها لغيرهم من الأقليات المختلفة. ويؤكد ستون أن الصهاينة لم يتفقوا معه في المنهج لأن الصهيونية تزدهـر مع الكــوارث اليهودية، فبــدون هــذه الكوارث لن تقوم لها قائمة. ثم يهاجم ستون الدولة الصهيونية لاضطهادها الفلسطينيين وإنكارها حقوقهم. ومن أهم مؤلفات ستون كتاب محاكمة سقراط.
والله أعلم.
نقلاً عن: جريدة الاتحاد الإماراتية 2008-04-12
واقرأ أيضاً:
كنيس يهودي أم غواصة بحرية؟ / الدولة الصهيونية ويهود العالم/ هل لإسرائيل جيش حقيقي؟/ الصهيونية ويهود أميركا / اليهود والبكتيريا/ فكر يهودي يهاجم اليهود واليهودية/ هل لإسرائيل جيش حقيقي؟