يُروج أنصار التطبيع في مصر لأكذوبتين من العيار الثقيل، الأولى: أن المثقفين هم الذين يرفضون التطبيع مع الكيان الصهيوني ويدعون إلى مقاطعته، والثانية: أن من شأن المقاطعة أن "تحرمنا" من التقدم العلمي في الكيان الصهيوني وهو الذي أصبح يملك نفوذاً كبيراً في أوساط التجارة والصناعة، وإننا إذا سرنا وراء دعاة المقاطعة فسنعود إلى عصر التراسل بالحمام الزاجل!
الأكذوبة الأولى ذكرتني بالسباك الذي جاء ليُصلح شيئاً في بيتي، واحتاج إلى قطعة غيار، ولما طلبت منه شراءها من السوق القريب، رد عليَّ قائلاً إنه سيبحث عنها في مكان آخر، لأن البضاعة الموجودة في سوقنا القريب «نجسة»! ولأنني أفهم مقصده لأول مرة، فقد سألته عما يعنيه، فكان رده إنها نجسة لأنها (إسرائيلية) الصنع! ليست هذه قصة وحيدة، وإنما لديَّ قصص أخرى من هذا القبيل، ترد زعم المُطبعين بأن المثقفين وحدهم هم الذين يتبنون الدعوة لمقاطعة الكيان الصهيوني؛
وتؤكد الحقيقـة التي يذكرونها المتمثلـة في أن رفض التطبيع هو موقف المجتمع بالدرجـة الأولى والمثقفين الذين يُعلنون ذلك الرفض يُعبرون عن نبض الشـارع ومشـاعره الحقيقيـة التي لم تتلوث بحسـابات المطبعين وأهوائهم، ولو أُجري في مصر أو أي بلد عربي أي اسـتطلاع أمين للرأي أو اسـتفتاء نزيـه ومحايد لكشـف بوضوح أن إقدام بعض الحكومات على التصالح مع الكيان الصهيوني كان تعبيراً عن حسـابات سـياسـيـة ولم يكن بأي حال تعبيراً عن موقف الرأي العام، وللعلم فإن رفض التطبيع لا ينطلق من موقف وطني فحسـب، وإنما من موقف أخلاقي أيضاً، ذلك أن الكيان الصهيوني المدجج بالسلاح النووي، الذي يتمدد على الحدود المصرية ويُصر على اغتصاب الأرض ونهب زراعتها ومياهها، يظل في كل أحواله خطراً يُهدد الأمن القومي المصري بالدرجة الأولى، وبإصراره على ابتلاع فلسطين برفض السلام العادل الذي يُعيد الحق إلى أهله، فإنه يؤكد أطماعه التي ينبغي أن تحذر منها دولة عربية كبرى مثل مصر.
على صعيد آخر، فإن استمرار الكيان الصهيوني في ارتكاب عمليات القتل والتدمير والتجويع للفلسطينيين، مع احتجاز 11 ألفاً منهم في السجون والمعتقلات، يوقعه في محظور الإبادة الجماعية وارتكاب قائمة طويلة من الجرائم ضد الإنسانية، الأمر الذي يوجب على كل مواطن شريف ألا يمد إليه يد التطبيع، لأسباب إنسانية وأخلاقية، وليس فقط وطنية.
أكذوبة أن الكيان الصهيوني قاطرة التقدم الذي تُعيدنا مقاطعته إلى عصر التراسل بواسطة الحمام الزاجل، مسكونة بالتغليط والتدليس، فضلاً عن كونها تعبيراً عن تمكن الشعور بالهزيمة من دعاة التطبيع، الذين أصبحوا يسوقون شعار "إسرائيل هي الحل"!
لا ينكر أحد أن الكيان الصهيوني أولى العلم بأبحاثه ومعاهده اهتماماً خاصاً، حتى كانت الجامعة العبرية من أول ما أنشأه لتحقيق مشروعه، لكننا ينبغي ونحن نقيِّم دوره في هذا المجال أن نلاحظ عدة أمور، أولها أن أغلب العلماء في الكيان الصهيوني هم من اليهود الذين برزوا واستُجلبوا من دول أوروبا وأمريكا، وجميعهم بلا استثناء يُجرون جانباً من أعمالهم البحثية في الجامعات الأمريكية بوجه أخص، وبالتالي فهم يُحسبون على الثقافة الغربية بأكثر مما يُحسبون على أكاديمية الكيان الصهيوني؛
الأمر الثاني أن معظم صناعات الكيان الصهيوني المتقدمة (ما بين 75% – 80%) منها موجه إلى أوروبا وأمريكا، وإنتاجها يُصمم تنفيذاً لعقود مبرمة مع المؤسسات المعنية في الدول الغربية، الأمر الثالث أن العلم موجود ومتوفر لغير الكيان، وما حققته الهند والصين وماليزيا وغيرها، خير دليل على أن اللحاق بالعصر لا يمر بالكيان الصهيوني بالضرورة، ولكن المهزومين والمنبطحين وحدهم الذين يرون في الكيان "قاطرة وحيدة للتقدم"، الأمر الرابع والمهم أن الكيان الصهيوني يتقدم علمياً واقتصادياً في الفراغ الناشـئ عن انكفاء الدول العربيـة وتراجع أهميتها في حلبـة السـياسـة؛ ولو أن للدول العربيـة احتراماً أو تقديراً لما عاونت ألمانيا الكيان الصهيوني في إنتاج الأسـلحـة البيولوجيـة ولما تبنت فرنسـا مشـروعاً يسـمح للكيان بأن يكون شـريكاً في كل الأبحاث العلميـة التي تُجرى في الاتحاد الأوروبي.
اقرأ أيضاً:
مطلوب تحرير أبو مازن من مختطفيه/ «جريمة» حماس التي لن تغتفر/ هل نندم علي الانسحاب من غزة؟/ الحرية قبل الديمقراطية وليس بعدها