الحلولية هي أن يحل الإله في كل مخلوقاته أو في أحدها ويتماهى معها ليصبحا جوهراً واحداً. والرؤية اليهودية للتاريخ -في تصوري- رؤية حلولية، بمعنى أن بعض الحاخامات كانوا يتصورون أن الإله قد حل في الشعب اليهودي فأصبح شعباً مختاراً، كل أفعاله، خيّرة كانت أم شريرة، أفعال مقدسة، وتاريخه أصبح تاريخاً مقدساً. وقد ورث الصهاينة هذه الرؤية الحلولية والتي تتبدى في عدة أمور:
1- الخلط بين التاريخ الزمني والتاريخ المقدس. "التاريخ" الذي ورد في القرآن أو القصص التي وردت فيه ليس تاريخاً زمنياً، وإنما تاريخاً يهدف إلى هداية الناس. ومن هنا، فإن قصص الأنبياء –كما يبيّن الدكتور علي عبد الواحد وافي– ليست كاملة، وإنما تم اختيار أحداث معينة منه ذات دلالة، حتى يتضح الدرس الأخلاقي وحتى تظهر الموعظة. ومن هنا، لا يمكن الحديث عن تاريخ إسلامي، وإنما تواريخ المسلمين. والتاريخ الزمني هو مجال الفوضى، ومجال النهوض والسقوط، أما التاريخ المقدَّس فهو تاريخ مثالي، يُكافَئ فيه المصيبُ، ويُجازَى المخطئ. ومهمة التاريخ المقدس هي تزويد الإنسان بمعايير يحاكم بها التاريخ الزمني.
على العكس من هذا يرى بعض الصهاينة أن الإله قد حل في التاريخ ومن ثَمَّ يختلط التاريخ البشري الزمني (مجالُ الهداية والضلال) بالتاريخ المقدَّس (الذي تتجلى من خلاله، في كل كبيرة منه وصغيرة، إرادةُ الله). ولذا نجد أن الصهاينة يذهبون إلى أن القصص الذي ورد في العهد القديم (تاريخ الملوك والأسباط) هو تاريخ مقدس وزمني في ذات الوقت. ولذا نجد أن القصص التوراتي يرد كاملاً بكل وقائعه، فوقائع تاريخ الملوك العبرانيين -على سبيل المثال- ترد كاملة منذ اعتلاء الملك العرش حتى وفاته. فالهدف ليس الموعظة ولا تزويد المؤمن بالمعايير الأخلاقية، وإنما الهدف هو رصد كل الوقائع، فهي موضع الحلول، وهامة في حد ذاتها، كما أنها تتجاوز الخير والشر، ولذا لا يمكن الحكم عليها بأية معايير أخلاقية.
2- يتحدث الصهاينة عن المسألة اليهودية كما لو كانت أمرا فريدا، وعن الدولة اليهودية كما لو كانت ليس كمثلها شيء، والهولوكوست باعتباره أمرا فريدا حدث لليهود وحدهم. وحتى يصلوا إلى هذه النتيجة يقومون بعزل هذه الوقائع التاريخية عن سياقها وإطارها بحيث تصبح ظواهر غير تاريخية يمكن للصهاينة أن يفرضوا عليها أي معنى يشاءون، ثم يوظفونها بالطريقة المناسبة لهم والتي تخدم مصالحهم ورؤيتهم الأيديولوجية.
هذه الظاهرة أسميها الأيقنة، أي أن تتحول الواقعة التاريخية إلى ما يشبه الأيقونة، يتعبد الإنسان أمامها لأنها أصبحت موضع الحلول، أي أن الإله حلّ فيها فتألهت. وحتى نفهم هذه الوقائع حق الفهم، في تركيبيتها وزمنيتها وتعينها، لابد من استرجاع البعد التاريخي والإنساني، إن فعلنا ذلك سيتضح لنا أن المسألة اليهودية لم تكن مسألة عالمية وإنما كانت مسألة يهود شرق أوروبا، وخاصة في روسيا، ولم تكن مسألة مقصورة عليهم وإنما كانت جزءا من مشكلة كل الأقليات في روسيا القيصرية التي كان يصفها لينين بأنها "سجن الأمم".
أما الدولة اليهودية فلو قارناها بالجيوب الاستيطانية الأخرى لوجدنا أنها جيب استيطاني إحلالي لا يختلف في توجهه وسماته العامة عن الجيب الاستيطاني في جنوب أفريقيا. أما الهولوكوست فلابد من وضعها في سياق إنساني وزمني أوسع، وداخل نمط متكرر، وهي عمليات الإبادة التي قامت بها الحضارة الغربية الحديثة ابتداء بإبادة السكان الأصليين في الأمريكتين وانتهاء بعمليات الإبادة في فيتنام والشيشان والجزائر. وبذلك تكتسب الهولوكوست بعداً إنسانياً تاريخياً. ولعل السمة المميزة الوحيدة للهولوكوست والتى تفصلها عن وقائع الإبادة الأخرى أنها حدثت داخل أوروبا وضد المواطنين البيض، على عكس كل عمليات الإبادة الأخرى.
النمط هنا لا يعني أنه كان من الحتمي أن تنشأ مسألة يهودية في روسيا القيصرية أو أن تغرس الدولة الصهيونية غرسا في وسط العالم العربي على أرض فلسطين، كما لا يعني أن الإبادة النازية ليهود ألمانيا مسألة حتمية لا مفر منها. رصد النمط وبلورته هو آلية لمحاولة فهم التاريخ لا كأحداث متفرقة وإنما كأحداث مختلفة تنتمي لنفس النمط. ولكي نصل إلى النمط المتواتر علينا أن نضع الأحداث التي تشبه بعضها البعض في إطار ونسميه ونصنفه ونطلق عليه اسما، ونستخلص منه بعض التعميمات التي تساعدنا على فهم بعض أحداث التاريخ، وما يدور حولنا، وربما على التنبؤ ببعض جوانب المستقبل.
3- تتبدى الحلولية بشكل مثير فيما أسميه ظاهرة "الاستمرار اليهودي"، فإذا كان تاريخ الشعب اليهودي هو موضع الحلول لأن الإله قد حل فيه ويوجهه ويحوطه بعنايته (فالشعب اليهودي هو الشعب المختار)، فإن مسار هذا التاريخ معروف ومقرر مسبقا ويتبع نمطا واحدا وسينتهي نهاية سعيدة، مهما كانت الصعاب والمشقات التي يلاقيها الشعب المختار. وهذا النمط ثلاثي الإيقاع: شعب مختار مستقر في وطنه -قوة ظالمة تنفيه من وطنه- عودة إلى وطنه لبناء الهيكل، هذا النمط حتمي متكرر يأخذ شكلا هندسيا متسقا مع نفسه، منغلقا على ذاته، مكتفيا بها، لا علاقة له بالواقع التاريخي المتعين الحي، ويصل إلى درجة عالية من الاتساق العضوي مع نفسه، ولذا فهو يشبه الأساطير القديمة ولا يختلف عن الرؤية اليونانية القديمة للتاريخ باعتباره تاريخا دائريا يأخذ شكل حلقات متكررة، والتي أعجب بها نيتشه، ربما بسبب عبثيتها، ولذا كان يتحدث هو الآخر عن فكرة العود الأبدي eternal return. إن كل الحلقات التاريخية بكل تفاصيلها بعد أن تصل إلى نهايتها ستتكرر مرة أخرى بحذافيرها.
في هذا الإطار، وانطلاقاً من فكرة الاستمرار التاريخي يرى الصهاينة أن العبرانيين القدامى دخلوا كنعان واستقروا في أرض الميعاد، وتبع ذلك حكم القضاة والملوك وهذا هو الكومنولث اليهودي الأول أو الهيكل الأول. ثم جاءت الجيوش الأشورية ثم البابلية وتم نفي اليهود من وطنهم فيما يسمى السبي الأشوري والسبي البابلي، ثم عاد اليهود من بابل بأمر قورش إمبراطور فارس، وتم تأسيس الكومنولث اليهودي الثاني أو الهيكل الثاني. وبدأ الغزاة السلوقيون في مناوشة اليهود في وطنهم القومي (أي فلسطين) فقامت الثورة الحشمونية وانتهى الأمر بأن جاءت الجيوش الرومانية بقيادة تيتوس فهدم الهيكل الثاني ونفى اليهود. ولكن رغم هذا النفي، ظل الشعب اليهودي قابعا داخل تاريخه المقدس الذي حل فيه الإله ولم تكتمل الحلقة ثلاثية الإيقاع (وطن- نفي- عودة) إلا عام 1948 بعودة اليهود مرة أخرى إلى فلسطين. وبالتالي، فالاستيطان الصهيوني تعبير عن نمط متكرر ومستمر ومتوقع.
ويحاول بن جوريون تبرير عسكرة المجتمع الإسرائيلي باللجوء إلى أسطورة الاستمرار، فيقول: «إن جنود موسى ويوشع وداود لم يكفُّوا عن القتال... وكذلك جنود صهيون [أي دولة إسرائيل] لن يتوقفوا عن القتال». بل إن الصراع العربي الإسرائيلي بأسره ينظر إليه على أنه استمرارا لصراع العبرانيين مع الفراعنة والآشوريين والبابليين والفينيقيينن.
4- تتبدى الرؤية الصهيونية الحلولية للتاريخ فيما أسميه القياس التاريخي الزائف الذي يفترض أن الظواهر المحيطة بيهود اليوم تشبه في كثير من الوجوه الظواهر التي واجهها اليهود في ماضيهم السحيق وتنتمي لنفس النمط. فنجد، مثلاً، أن حاييم وايزمان يطالب العرب في خطابه أمام المؤتمر الصهيوني العشرين (1937) بالتفاوض مع اليهود مذكراً إياهم بأنه، في الفترات العظيمة من التاريخ العربي، تعاون الشعبان معاً في بغداد وقرطبة على حفظ كنوز الثقافة العربية. فالعرب في نظره ما زالوا كما كانوا، واليهود أيضاً لم يتغيروا، أما الظروف التاريخية المتغيرة فهي أمر ثانوي يحسن التغاضي عنه كلية.
5- تشكل الرؤية الصهيونية الحلولية للتاريخ خريطة الصهاينة الإدراكية. فهم لا يمكنهم رؤية حقوق الآخرين، إذ كيف يمكن لشعب مقدس بل ومتأله أن يدرك هذه الحقوق. وهم يرون أن احتلالهم فلسطين ليس اغتصاباً وقيامهم بذبح الفلسطينيين هو مجرد دفاع عن النفس وعن الحقوق اليهودية المطلقة لشعب مقدس يعود إلى أرضه المقدسة. وهكذا يختفي عنف الصهاينة ودمويتهم وراء ستار القداسة والحلول الإلهي.
وقد تنبه الحاخامات القدامى لخطورة الرؤية الحلولية، فهي تصعد أوهام أعضاء الجماعات اليهودية وتؤدى إلى التفجرات المشيحانية، نسبة إلى الماشيح (المسيح المخلص اليهوديى) الذي سيأتي في آخر الأيام ويقود شعبه ويعود بهم إلى صهيون. فأكد الحاخامات أن عوده الماشيح (أي المسيح المنتظر اليهودي، أو المهدي المنتظر اليهودي) والعصر الماشيحاني لن يأتي إلا في آخر الأيام (أي خارج التاريخ) وأنه لن يحدث إلا بأمر الإله، ولذلك حرموا العودة إلى فلسطين وطلبوا من اليهود الانتظار في صبر وأناة (داخل التاريخ) إلى أن يشاء الإله ويرسل بالماشيح فينهي التاريخ الزمني ويعود التاريخ المقدس. ومن يخالف الإرادة الإلهية ويعود بإرادته فإنه بذلك يكون قد ارتكب خطيئة الداحيكات هاكتس، أي التعجيل بالنهاية، دون الانتظار لإرادة الإله. ولكن جاء الصهاينة فالغوا المسافة بين التاريخي والزمني، وأصبحوا هم موضع الحلول، أي أن إرادتهم تجب إرادة الإله، وأعلنوا أنه لابد من العودة دون الانتظار لمشيئة.
ويلاحظ أن المؤرخين الجدد وعلماء الاجتماع النقديين في إسرائيل بدءوا ينضجون الوعي التاريخي في الكيان الصهيوني. فالممارسة الصهيونية جعلتهم يكتشفون أن فلسطين ليست أرضا عذراء، وأن الشعب الفلسطيني ليس غائبا ولا بد من التعامل معه، ولذا فشعارات صهيونية معادية للتاريخ مثل "أرض بلا شعب" أو "من النيل إلى الفرات" تراجعت، والآن يتحدث الصهاينة أنفسهم عن تحديد الحدود. فكرة الحدود نفسها فكرة تاريخية أما "صهيون" التي تشكل حجر الزاوية في الرؤية الصهيونية فهي فكرة معادية للتاريخ. وقد بدأ كثير من الإسرائيليين ينظرون للدولة الصهيونية باعتبارها دولة تستند إلى حقائق سياسية وليس إلى حقوق مطلقة أو إلى الوعد الإلهي. وقد كتب زئيف هرتزوج، أحد المؤرخين الإسرائيليين، دراسة بيّن فيها أن الأساطير التوراتية ليس لها أي سند تاريخي. وحين سُئل: إذا كانت الأساطير التوراتية ليس لها أي سند تاريخي، فلماذا أنتم (أي الإسرائيليون) هنا؟! فكان الرد: نحن هنا لأننا هنا (أي أمر واقع)، وهو رد مهذب، فهو لم يتحدث عن السلاح الإسرائيلي أو البطش الإسرائيلي، ولكنه مع هذا أكد أن إسرائيل حقيقة سياسية تاريخية، لا تتمتع بأي قداسة، وهذا يشكل في تصوري خطوة إلى الأمام.
واصطبغت الصهيونية في الآونة الأخيرة بصبغة دينية فاقعة، وجعلت التوسع الصهيوني مصدر شرعيتها، والأرضية التي تستند إليها، ولكن تحت ضغط الواقع وبسبب المقاومة الفلسطينية التي لا تتوقف نجد أن ثمة محاولة لفصل التاريخ المقدس عن التاريخ الزمني حتى في الأوساط الدينية. فللمرة الأولي في تاريخ الصهيونية يعتزم الممثلون الرسميون لدولة إسرائيل التنازل رسميا عن سيادة الدولة اليهودية على جزء من أرض إسرائيل (التوراتية) أراض هي -في تصورهم- موضع الحلول الإلهي. ولذا يذهب بعض الصهاينة المتدينين إلى أن تنازل دولة إسرائيل عن السيطرة على "القلب التاريخي" لأرض إسرائيل يقوّض الأرضية التي يستند إليها الشرعية الصهيونية، ويسقط عن دولة إسرائيل صفتها كتعبير عن الاستمرارية التاريخية لليهودية.
والله أعلم.
نقلا عن موقع د. عبد الوهاب المسيري
اقرأ أيضاً:
الحقائق الكاذبة / فلنفاوض ولنقاوم / نهاية إسرائيل / الخطة دَاِليت / تآكل المقدرة القتالية لـ’’العجل الذهبي‘‘ / الجيش الإسرائيلي و’’الأعراض الفيتنامية‘‘ / تكلفة حرب العراق: رؤية أميركية