شهدت الجمعة الثانية من شهر رمضان المبارك مزيداً من التشديد والمضايقات بل الجرائم ضد المسجد الأقصى، وتمثلت هذه المرة بمنع من رغبوا بالصلاة من المرور إلا بشروط تعجيزية؛ وهي أن يكون عمر الرجل المصلي 50 عاماً والمرأة 45 عاماً ومنعوا اصطحاب الأطفال؛ ونلاحظ أن عمر من يُسـمح له بدخول المسـجد الأقصى وفق المعايير الاحتلالية يزداد عاماً بعد عام ولا يُستبعد أن يصل خلال رمضان الحالي أو القادم أو الذي يليه إلى 70 عاماً للرجل و60 عاماً للمرأة!!
فأحد المواطنين الذي تجاوز الخمسين سنة وله عدة أحفاد حدثني بألم عن محاولته العبور قبل مدة إلى القدس والصلاة في المسجد الأقصى، فقد حاول الرجل المرور من طُرق فرعية تجنباً للحواجز والكمائن إلا أنه سقط أخيراً في كمين لإحدى دوريات الاحتلال، فسألوه عن سبب دخوله للمدنية فأجاب: ـ
ـ جئت مع عائلتي للصلاة.
ـ أليـس هناك مسـاجد عندكم في جنين كي تصلي؟!
ـ بلى يوجد، ولكن أنا جئت للمسجد الأقصى، فأنتم تعرفون قداسته وعظم أجر وثواب من يُصلي فيه....
ـ نعم «كل الاحترام» للأقصى ولكن أنت لا تحمل تصريح دخول وعليك العودة وإياك أن تكرر المحاولة...!
هذا المنطق هو الذي يحكم عقلية المحتل ولن تنفع كل محاولات الاستجداء في أن نصل لمسجدنا بأمان، وقد تزامنت هذه الإجراءات والممارسات الإجرامية مع «فتاش» أطلقته مجرمة وعضوة في الكنيست الصهيوني عن حزب ليبرمان (إسرائيل بيتنا) وتُدعى «استيرينا ترتمان» حيث دعت إلى إلغاء الآذان في مدينة القدس لأن الآذان «يُزعج السكان اليهود ويُزعجها هي شخصيا»!!! وصدق المثل الشعبي الفلسطيني: «الدار دار أبونا وأجو الغرب يطردونا...!» ولا يظنن أحد أن تصريحات هذه الحاقدة تُمثلها هي وحزبها فقط بل هي تُمثل حزب (كاديما) وحزب "العمل" و(الليكود) وحتى (ميرتس) أحباء بعض العرب... كلهم يُفكرون بنفس الطريقة ولكن لا بد من التدرج وإطلاق هذا «الفتاش» باستخدام هذا اللسان القذر، وانتظروا قوانين وأنظمة جديدة تُقيد صوت الآذان وتفرض شروطاً على حجم مكبرات الصوت من المآذن ونوعيتها وصولاً لمنع الآذان في بيت المقدس، لم العجب؟! فمن كان قبل عشرين سنة يتصور ما جرى يوم الجمعة على حاجز قلنديا؟! ومن ظنَّ قبل خمسين عاماً أن نُحرم من الصلاة في المسجد الأقصى؟ ما دام الضعف والهوان ينهشان الأمة فعلينا توقع أسوأ (السيناريوهات)، والضعف نحن سببه، ولله در شاعرنا العراقي أحمد مطر حين قال في «معلقة القدس... بكف بغداد»:ـ
يقوَ القويُّ بضعف من ضعفوا *** كما يقسو الوِسادُ برقة الوسّادِ!
وهناك أمرٌ خطرٌ جداً يغيب عن بال الكثيرين منا وهو أن حالة من «ألفة الأمر الواقع» ستسود؛ فبمرور الوقت يُصبح هنالك نوع من تبلد الشعور واللامبالاة من إجراءات سلخ المسجد الأقصى عن رواده والإجراءات المنهجية المفروضة على القدس؛ ونحن تلاميذ في المدارس كنا نذهب بشكل دوري في رحلات مدرسية وسفريات خاصة إلى القدس والمسجد الأقصى مما جعل الارتباط الوجداني بالمدينة ومقدساتها ومعالمها حاضراً، وكان الآلاف من الضفة وغزة يتوجهون إلى مدينة القدس بهدف قيام ليالي رمضان في أروقة وساحات المسجد الأقصى، خاصة في العشر الأواخر من الشهر المبارك...
أما الآن فتلاميذنا، بسبب إجراءات الاحتلال، لا يذهبون إلى القدس، وتقريباً قُطعت العلاقات والوشائج الأخرى بين مدينة القدس وشقيقاتها في الضفة وغزة؛ ففي الماضي كان المرضى يُعالجون باستمرار في مستشفيات القدس مثل مستشفى العيون والمطلع (الأوغستا فيكتوريا) والمقاصد الخيرية وكان أقرباؤهم وأصدقاؤهم يزورونهم ويُعرجون على المسجد الأقصى ويتجولون في المدينة، وكان هناك مؤسسات فلسطينية في القدس وكان هناك طلبة جامعيون في القدس من شتى أرجاء الوطن، ناهيك عن روابط المصاهرة والعلاقات التجارية وغيرها، أما اليوم فقد عزل الجدار وإجراءات الاحتلال المدينة ومقدساتها عن أهلها، وغدا حالها كما وصفه لي أحد الصحافيين بأنها أشبه بغرفة محكمة الإغلاق والمفتاح في جيب (أولمرت) أو (باراك)!
لقد بتنا نألف الواقع المفروض وأخذنا نتعامل معه كأنه صواب وليـس أمراً شـاذاً وطارئاً؛ ورغم الحديث الإعلامي عن كون القدس الشريف هي عاصمة الدولة الفلسطينية العتيدة إلا أن الواقع على الأرض يُشير إلا أن العاصمة هي «رام الله الشريف» وجل ما يحلم به المفاوضون هو «أبو ديس الشريف» أو «العيزرية الشريف» ولا حول ولا قوة إلا بالله...
أما موقف العرب فرحم الله زماناً كانوا فيه يشجبون ويستنكرون ويُنددون ويتباكون؛ فذاك زمان بكينا منه، فلما رأينا حالنا الآن بكينا عليه، فحتى الشجب والاستنكار لم نعد نسمعه، ويبدو أنهم اكتفوا بوجود مسـاجد في مدنهم وعواصمهم، ففي كل مدينة أو عاصمة مساجد كثيرة فما شأنهم والأقصى... أي أن هناك تجاوباً ـ مع الأسف ـ مع فكرة الجندي الصهيوني الذي سأل الرجل الذي شدَّ الرحال لأولى القبلتين ومسرى الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم عما إذا كان هناك مساجد في جنين أم لا، من باب التهكم والازدراء والإذلال.
وحتى كتابة هذه السطور لم أرَ موقفاً رسمياً فلسطينياً أو عربياً ضد تصريحات تلك الصهيونية الحاقدة؛ ولكن تصوروا لو أن برلمانياً عربيا أو شخصية فلسطينية صرح بشيء يُشكك ولو قليلاً بالمحرقة «الهولوكوست» كيف ستكون ردة الفعل عند من لا يتجاوز عددهم سكان مدينة عربية، سيُقيمون الدنيا ويُقعدوها وسيُصرح البعض بأن هذا الشخص لا يُمثل إلا نفسه.. إنها حالة «الغثائية» التي جاء ذكرها في الحديث المشهور... غثاء كغثاء السيل... وحسبنا الله ونعم الوكيل... نسأل الله أن يُبدل الحال بخير مما هو عليه ببركة رمضان... اللهم آمين.
واقرأ أيضاً:
عماد مغنية... قدر الأحرار / هل يلعب الإعلام الحديث دوراً تضليلياً؟/ وهل الضفة الغربية/ بلفور... كم أكرهك وكم أعشق القوة!