مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا وغزو الجماعات اليهودية وتصفيتها
يذهب الصهاينة إلى أن مركز الحياة اليهودية في العالم بأسره هو إسرائيل (فلسطين). ويعبرون عن موقفهم هذا من خلال مصطلح "مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا". وهذه الرؤية لها جذور في الطبقة الحلولية في العقيدة اليهودية، إذ يحل الإله في الشعب والأرض ويربطهما برباط عضوي ويخلع عليهما القداسة ويضفي على "إرتس يسرائيل" محورية خاصة. وقد قام الصهاينة بعلمنة هذه العقيدة فنادوا بضرورة أن تصبح الدولة الصهيونية مركز الجماعات اليهودية في العالم، وأن تكون الدولة الصهيونية الملجأ الوحيد لليهود، وبأن تقوم وحدها بالدفاع عنهم، وأن تتحدث باسمهم، وقالوا إن الحروب التي يخوضها المستوطنون الصهاينة إنما تهدف إلى الدفاع عن كل يهود العالم.
ويرى الصهاينة أن الدولة الصهيونية هي التي تساعد يهود العالم في الحرب ضد خطر الاندماج وفي الحفاظ على الهوية اليهودية، وأنها هي التي تضمن استمرار التراث اليهودي وتطوُّره، وتحسن صورة اليهود أمام الأغيار، فبدلاً من صورة اليهودي التاجر والمرابي والجبان تأكدت صورة اليهودي باعتباره المقاتل الشرس، وبذا يستعيد اليهودي احترامه لنفسه بعد أن فقده بسبب آلاف السنين من النفي. وتقوم المنظمة الصهيونية بإشاعة هذه الرؤية فتبيِّن مدى مشاركة الجماعات اليهودية في بناء إسرائيل ودعمها والالتفاف حولها، ومدى تَحمُّسهم أثناء الحروب الإسرائيلية المتتالية، وذلك حتى يشعروا بأنهم جزءاً من إسرائيل وحتى يتعمق لديهم الإحساس بازدواج الولاء.
والصهيونية تفترض أن أعضاء الجماعات اليهودية لا يحيون حياة يهودية كاملة لأنهم يعيشون خارج وطنهم القومي، كما أنهم يعانون من شذوذ الشخصية وهامشية الحياة إذ لا جذور لهم في الحضارات المختلفة لأنهم شعب عضوي لا تستطيع حضارة الآخر أن تعبِّر عن جوهره المتميِّز. والسبيل الوحيد إلى التعبير عن هذا الجوهر هو الوطن القومي والتربية القومية. فالصهيونية، بحسب تصوُّر كلاتزكين، هي «رفض الدياسبورا» لأنها "لا تستحق البقاء". وهذه النغمة الصهيونية من أكثر النغمات تكراراً؛ فالحاخام موردخاي بيرون، كبير حاخامات الجيش الإسرائيلي، وصف الشتات بأنه «لعنة إلى الأبد.. لعنة دائمة»، ولم يستثن من ذلك حتى العصور الذهبية المختلفة ليهود الشتات. كما أشار بن جوريون إلى الشتات على أنه «غبار إنساني متناثر»، ووصفه كلاتزكين بأنه «دمار وانحلال وضعف أبدي».
إن موروثات أعضاء الجماعات اليهودية، في التصور الصهيوني، لا تستحق الحفاظ عليها، بل تجب تصفيتها لأنها تجسِّد هامشية اليهود وشذوذهم وقيمهم غير القومية التي يجب التخلص منها. ووجود اليهود على هيئة جماعات في أنحاء العالم هو حالة مؤقتة لا قيمة لها في التصور الصهيوني. ولذا يجب اعتبار وجودها مجرد جسر يعبر عليه الشعب اليهودي إلى فلسطين. بل إن يهودا جوردون اقترح أن تقوم علاقة كولونيالية بين الوطن القومي اليهودي والدياسبورا التي تصبح مجرد لبنات يُبنى بها الوطن القومي.
وقد طرح الصهاينة فكرة "مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا" وبذلك تصبح الدولة الصهيونية هي الغاية وتصبح الجماعات اليهودية في العالم هي الوسيلة. ثم طرح الصهاينة مفهوماً أكثر راديكالية وهو "نفي الدياسبورا negation of the diaspora" والتي تعني تصفية الجماعات اليهودية في العالم وتهجير أعضائها إلى الدولة الصهيونية.
وقد ظلت الدعوة إلى استغلال الدياسبورا ونفيها قائمة حتى عام 1948، ولكن بعد إنشاء الدولة وتزايد اعتمادها على الولايات المتحدة وعلى يهود العالم للدفاع السياسي والعسكري عنها ولدعمها مالياً تخلَّى الصهاينة عن الصيغة المتطرفة وتم تبنِّي صيغة معدَّلة مقلَّصة، ومن ثم أصبحت الدولة الصهيونية لا تهدف إلى نفي الجماعات وتصفيتها وإنما تنظر إليها باعتبارها مصدر دعم مادي وسياسي ومعنوي، أي قبلت ما نسميه «الصهيونية التوطينية». ولذا، فإن الآلة الصهيونية تركز كل همها على جمع التبرعات.
لقد زوَّد أعضاء الجماعات اليهودية الدولة الصهيونية بنحو 25% من كل مواردها المالية في السنين الأولى، ولكن، مع زيادة حجم الميزانية الإسرائيلية، ومع التضخم، نجد أن أعضاء الجماعات لا يزودونها إلا بـ 3% من مواردها، كما أن جمع الأموال أصبح يسبب نوعاً من الجفاء تجاه الصهيونية ونوعاً من الضيق بالكيان الصهيوني. بل إن المنظمات الصهيونية في الخارج تحتفظ بقـدر كبير من الأموال التي تجمعـها لتمويل نشاطاتها هي، أيضاً أعضاء الجماعات بدأوا يثيرون قضايا مثل كيفية إنفاق هذه التبرعات، فيصر كثير منهم على إنفاقها في الرفاه الاجتماعي وليس في الحرب، على حين أن فريقاً منهم يرفض أن تُنفَق أية تبرعات على المُستوطَنات في الضفة الغربية.
وقد طُرحَت مؤخراً صيغة جديدة للتعاون بين الصهيونية وأعضاء الجماعات اليهودية، تشكل تراجعاً صهيونياً. فهذا المشروع يركز على القدرات المهنية والفكرية لأعضاء الجماعات انطلاقاً من القول بأن العقول هي رأسمال عصر العلم، تماماً كما كانت النقود رأسمال عصر الصناعة. ولذا، فإن هذا المشروع يهدف إلى أن تكون إسرائيل أول المجتمعات في عصر الفضاء وأكثرها تركيباً من الناحية التكنولوجية والعلمية والثقافية، وتتحول بذلك إلى قوة عظمى صغيرة تُنتج التكنولوجيا وتُصدِّرها، فتحل مشكلة ميزان المدفوعات وترفع مستوى مواطنيها، وتسد الهوة الاجتماعية الإثنية داخل المجتمع الصهيوني، ثم تضمن في النهاية استمرار وجود الهوة الكيفية بينها وبين جيرانها.
ولذا، لن يُطلَب من أعضاء الجماعات اليهودية أن يهاجروا وإنما سيُطلَب منهم إقامة مشاريع ذات طابع كيفي متميِّز في إسرائيل، وسيكون بوسع المساهمين في هذه المشاريع قضاء أوقات أطول في إسرائيل والمسـاهمة بكفاءتهم العلمـية والتكنولوجية دون أن يهاجروا بالفعل. كما يمكنهم أيضاً المساهمة في استيراد وتسويق السلع الإسرائيلية، بل يمكن أن يتحولوا إلى وكلاء يتقاضون عمولة كبيرة تستخدم لتمويل المشاريع المختلفة. وحيث إن كل هذه النشاطات يمكن أن تتم من خلال البريد الإلكتروني، فإنه يطلق عليها "الدياسبورا الإلكترونية". وغني عن القول أن هذه مهمة يمكن أن يقوم بها أيضاً أي إنسان يطمع في تحقيق الربح، فهي لا تتصل بالضرورة بالهوية اليهودية أو بوحدة الشعب اليهودي كما لا تتصل بالعلاقة الخاصة بين دياسبورا يهودية في المنفى ومركز يهودي في فلسطين!.
والله أعلم.
ملاحظة: هذه المقالة نشرت بجريدة الاتحاد الإماراتية بصفحة وجهات نظر بتاريخ 5 أبريل 2008.
اقرأ أيضاً:
تآكل المقدرة القتالية لـ’’العجل الذهبي‘‘ / الجيش الإسرائيلي و’’الأعراض الفيتنامية‘‘ / تكلفة حرب العراق: رؤية أميركية / الجيش الإسرائيلي و’’الأعراض الفيتنامية / الرؤية الصهيونية للتاريخ / التناقض بين السفارد والأشكناز