إن تقسيم العمل بين النخبة الحاكمة والشعب الأمريكي أدت إلى أن الإنسان الأمريكي أصبح يهتم بشؤونه المباشرة ولا يكترث كثيراً بالسياسة الخارجية لبلده، والتي تنزفها بشرياً ومالياً. من ناحية ثانية ينبغي ألا ننسى أن الإنسان في الإطار العلماني المادي يصبح إنساناً اقتصادياً وجسمانياً، أي إنساناً يؤمن بالقضايا المباشرة التي تخصه بشكل مباشر، أما "الإطار الجامع" و"الكلي" لهذه القضايا كالسياسة الخارجية التي تؤثر في الشعب الأمريكي بدرجة كبيرة، وإن كان بشكل غير مباشر، فهو لا يفهمها ولا يكترث بها! وظاهرة عدم الاهتمام بالسياسة الخارجية وعدم إدراك تضميناتها ظاهرة حديثة وعالمية ولكنها توجد بشكل أقل في بلد مثل إنجلترا وفرنسا، إلي أن نصل إلي بلد مثل روسيا حيث نجد أن الناس هناك عندهم درجة أعلى من الوعي السياسي. ومع هذا أجري استطلاع للرأي في إنجلترا فظهر أن غالبية من شملهم الاستطلاع يظنون أن الإسرائيليين هم أصحاب الأرض وأن الفلسطينيين يحاولون اغتصابها منهم!.
ومع هذا إحقاقاً للحق، يجب أن نشير إلى أن الشعب الأمريكي عادةً ما يدرك حقائق الأمور بالتدريج، ويحاول إيقاف عربدة جيوش الأمريكية، كما حدث في حرب فيتنام، وكما يحدث الآن (عام 2008) في انتخابات الرئاسة الأمريكية، إذ بدأ المرشحون الديموقراطيون يتحدثون عن ضرورة التغيير والانسحاب من العراق، وذلك حتى يكسبوا الأصوات. ومع هذا يجب أن نطرح السؤال التالي: هل سينجح المرشح الديموقراطي، إن وصل إلى البيت الأبيض، في تنفيذ وعوده الانتخابية، أم أنه سيخضع لضغوط شركات السلاح الكبرى والمؤسسة العسكرية وشركات البترول؟.
يلاحظ أن هناك فارقاً بين أمريكا منذ أكثر من 30 سنة وأمريكا حالياً، ولكنها ليست فروقاً جوهرية، لأني أعتقد أن الذي يسيطر على الولايات المتحدة هي الرؤية "الاستهلاكية المادية" حيث ينظر للإنسان باعتباره مجموعة من الاحتياجات المادية أو الجسدية. حدثت بعض التغيرات في السياسة لكن في الرؤية العامة لم يحدث أي تغيير. كل ما في الأمر أن حلقات المتتالية العلمانية أخذت في التحقق.
خذ على سبيل المثال مسألة الشذوذ الجنسي، حينما تركت أمريكا عام 1969 كان الشذوذ موجوداً، كما هو الحال في كل المجتمعات الإنسانية، لكننا كنا نهمس حين نتحدث عنه. ثم بدأت قضية الشذوذ تتحرك من الهامش إلى أن وصلت إلى المركز. ولكن بعد ذلك مع تصاعد معدلات التوجه نحو اللذة والاستهلاك ومع اتساع رقعة النسبية الأخلاقية، بدلاً من المطالبة بالتسامح مع الشذوذ تحولت القضية إلى ضرورة تطبيع الشذوذ أي المساواة الكاملة بين الإنسان العادي والإنسان الشاذ. ثم تطور الأمر وتزايدت المطالبة بأن يكون الزواج المثلي زواجاً شرعياً، وأن يحصل أعضاء الزواج المثلي على نفس الحقوق التي يحصل عليها الأزواج العاديون، بما في ذلك حق تبني الأطفال. ولنتخيل طفلاً ينشأ في أسرة مكونة من رجلين أو امرأتين، أليس هذا إجهاضاً لحقه في أن تكون حياته عادية مثل حياة معظم البشر عبر التاريخ. ما أود أن أؤكده أن ما يحدث في المجتمع الأمريكي لم يحدث فجأة ولم يأت من القمر، وإنما كان كامناً في منظومة العلمانية الشاملة ومن ثم يجب ألا نتوقع أي تغير حقيقي في الوجدان السياسي للشعب الأمريكي إلا مع حدوث زلزال قوي.
وقد بدأت إدارة بوش تطرح نفسها على أنها إدارة تبغي الإصلاح وتريد نشر الديموقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، وفي تصوري أن مقولة "الإصلاح" في المنظور الأمريكي لا تختلف عن مقولات أخرى، مثل مقولة "حقوق الإنسان" و"المرأة" و"الديمقراطية"... ومؤخراً مقولة "معاداة السامية"، كلها مقولات استعملتها الولايات المتحدة كـ"آليات" للهيمنة على العالم، وعلى العالم العربي بشكل خاص! فـ"ليبيا"، على سبيل المثال، كانت إلى حد قريب تصنف على أنها جزء من "محور الشر" في العالم، ولكن حينما استسلمت لأمريكا وألقت بـ"أسلحتها" جانباً، غضت أمريكا الطرف عنها وخرس لسانها عن مطالبتها بالإصلاح، بل لم يقف الأمر عند حالة "السكوت" فتقدمت العلاقات الليبية الأمريكية خطوات إلى الأمام في مجال التبادل الدبلوماسي والتجاري بينهما، وفي مجالات أخرى.
المسألة في رأيي ليست إصلاحاً حقيقياً، إنما هي محاولة للهيمنة عن طريق مقولة "الإصلاح"، تماماً مثل الطريقة الانتقائية التي كانت الولايات المتحدة تتعامل بها مع مسألة "حقوق الإنسان" في العالم. حيث كان تقديم المصالح الأمريكية الاستراتيجية الثابت الأساسي في تعاطيهم لـ"حقوق الإنسان" في العالم كله، أليست- على سبيل المثال لا الحصر- الإدارة الأمريكية هي التي أسقطت مصدق الديمقراطي الليبرالي وناصرت الشاه ممثل الاستبداد الشرقي، كما يقولون! ومن الذي قتل سلفادور أليندي في تشيلي في 11 سبتمبر 1974. هم يتحدثون دائماً عن 11/ 9/ 2000 ولا يذكرون قط 11/ 9 الأخرى أو الأولى التي اعتلى بها الدكتاتور والجزار بينوشيه سدة الحكم بمساعدة الولايات المتحدة، وظل معتلياً عرش الإرهاب والذبح أكثر من عشر سنوات. ولننظر ماذا يفعلون الآن في العراق في أبو غريب والحديثة وغيرها من الأماكن التي تم اكتشافها والإعلان عنها، هل كانت كل هذه الحوادث الإجرامية يمكن أن تتم دون ضوءٍ أخضر من القيادة السياسية الأمريكية الداعية للإصلاح الديموقراطي والمدافعة عن حقوق الإنسان؟.
لا يوجد التزام أمريكي مبدئي وأخلاقي بالمقولات الديموقراطية أو الأخلاقية، فكل شيء يوظف في خدمة المصالح الأمريكية حتى لو كان فيها مس بكرامة الإنسان وانتهاك لحقوق الشعوب الأخرى! ولننظر إلى جوانتنامو وأبو غريب، والأهم من هذا لننظر إلى تاريخ الولايات المتحدة الإمبريالي.
وتاريخ الاستعمار يبيّن بجلاء وقوفه في مواجهة أي محاولة لتحديث وتطوير البلاد التي يستعمرها، وقد ظهر ذلك بشكل واضح وجلي في الجيب الاستيطاني في الجزائر، إذ ظهر بعد رحيل المستعمر الفرنسي أنه لم يكن في الجزائر إلا بضعة أطباء ومهندسين.
أثناء حرب الخليج الأولى كانت الولايات المتحدة تردد دوماًُ بأنها ستضرب العراق إلى أن تعود به إلى حالة ما قبل الثورة الصناعية، وهناك الكثير من الأمثلة التاريخية التي تدل على أن سلوك الولايات المتحدة ليس استثناءً للقاعدة، وإنما جزء من نمط غربي عام. ولنتذكر ماذا فعل التحالف الغربي ضد محمد علي الذي كان يحاول تحديث مصر والدولة العثمانية. ومن أهم الأمثلة الأخرى وقوف القوات البريطانية ضد أحمد عرابي الذي كان يمثل الرؤية الديموقراطية الحديثة ووقفوا إلى جانب الخديوي ممثل الرؤية الشمولية. لكن يبدو أن الغرب في الوقت الحاضر وجد أن عملية التحديث والديمقراطية "المحكومة" قد تؤدي إلى بروز نخب حاكمة مرنة يمكن التفاهم معها، ويمكن أن تحول الشعب العربي إلى شعب ينسى كل القيم مثل الكرامة والعزة والقومية بحيث يطبق عليه السقف المادي ويصبح ذي توجهات اقتصادية وجسدية ومادية تجعله أكثر استعداداً للتعاون مع إسرائيل، وعندها تصبح القضية متعلقة بالأسواق وليست قضية قومية أو قضية أمن عربي.
وقد يكون في تصور القوى الغربية في سعيها للهيمنة أن الديمقراطية من شأنها أن تخلق حالة من الفوضى تسمح بتقسيم العالم العربي كما يحدث في العراق. وهي الآن وبعد فوز حماس في انتخابات المجلس التشريعي في حالة إعادة النظر لرسم سياسات جديدة لتحقيق نفس الأهداف الاستراتيجية بعيداً عن المفهوم المتعارف عليه للديموقراطية المتمثل في الأغلبية وفي أن لكل إنسان صوت. فالديموقراطية في المفهوم الغربي تعطي الحقوق السياسية لمن يخدم المصالح والرؤية الأمريكية والغربية ولا يقاوم الهيمنة الأمريكية والغربية.
والله أعلم.
ملاحظة: هذه المقالة نشرت بجريدة الاتحاد الإماراتية بصفحة وجهات نظر بتاريخ 22 مارس 2008.
اقرأ أيضاً:
تكلفة حرب العراق: رؤية أميركية / الجيش الإسرائيلي و’’الأعراض الفيتنامية / الرؤية الصهيونية للتاريخ / التناقض بين السفارد والأشكناز / مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا