يمكن القول إن العربدة العسكرية الأمريكية في العالم تعود إلى تصور المحافظين الجدد أن القطبية الثنائية التي كانت من سمات النظام العالمي القديم قد تساقطت، وأن النظام العالمي الجديد أحادي القطب. ولكن بسبب إنكارهم التاريخ (فهم من المؤمنين بنهايته) لم يدركوا أن هذه الأحادية لا يمكن أن تستمر. فأوروبا في حالة خوف من هذا القطب الواحد وربما يحدث تكتل فرنسي -ألماني- روسي، ومن المحتمل أن تنضم إليه الصين، وهي قوة عظمى آخذة في النمو وكذلك دول آسيا. ولعل وعسى بعض الدول العربية تفيق وتدرك أنها يجب أن تتكتل فيما بينها لتواجه التكتلات الاقتصادية والسياسية الكبرى في عالم اليوم، وإن كنت متشائماً بخصوص صحوة النخب العربية الحاكمة. عموماً أعتقد أن هذه القطبية الأحادية لن تستمر طويلاً، تؤيدني في ذلك تلك المعارضة المتزايدة للولايات المتحدة على مستوى الرأي العام العالمي. كما أنني أعتقد أن الرؤية الاختزالية التي هيمنت على النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة لن تعمر طويلاً، ورغم أنني لا أستطيع تحديد مدىً زمنياً متوقعاً لهذه التحولات، إلا أن علينا ملاحظة أن الدورات التاريخية في الآونة الأخيرة أصبحت أكثر سرعة وذلك بسبب وسائل الاتصال الحديثة.
وقد صدر كتاب بعنوان "ما بعد الإمبراطورية"، يقول فيه مؤلفه إن هناك تناسباً عكسياً بين التراجع الاقتصادي الأمريكي الذي يعتقد أنه لا رجعة فيه، وبين زيادة النزعة العسكرية العدوانية، ويقول إن الدليل على بداية سقوط الإمبراطورية الأمريكية هو زيادة عملياتها العدوانية ضد البلاد الأخرى. وأنا أتفق معه تماماً، وأعتقد أن كل الإحصاءات تبين ذلك، فوزيرة الخارجية الأمريكية كوندوليزا رايس لخصت الموقف في قولها أن ميزانية الحرب، أو ميزانية الدفاع في الولايات المتحدة، تصل إلى حوالي 500 مليار دولار، وهذا يعادل ميزانيات الدفاع في كل أرجاء العالم، ثم أضافت قائلة إن تكاليف السلم أعلى بكثير من تكاليف الحرب، أي أنها تجاهلت تماماً التكلفة البشرية (فهي تدور داخل إطار نفعي مادي)، ونظرت إلى الحرب باعتبارها مجرد استثمار اقتصادي لا يختلف عن أي مشروع رأسمالي لابد أن يكون له عائداً، وحيث أنه لا بد لمصانع السلاح أن تستمر في الدوران، باعتبار أن هذا من أهم القطاعات الاقتصادية في الولايات المتحدة، لابد وأن يكون هناك حالة حرب، كما أن الولايات المتحدة تحاول تعويض تراجعها الاقتصادي عن طريق القوة العسكرية، واختيار أفغانستان والعراق للغزو هو اختيار اقتصادي بالأساس، فلم يكن هناك تهديد عراقي لأمن الولايات المتحدة.
قد يمكن القول إن أفغانستان بوجود طالبان فيها كانت تشكل تهديداً أمنياً للولايات المتحدة، وهذا أمر مشكوك فيه، أما العراق فلا يمكن تفسير غزو الولايات المتحدة لها إلا في إطار حاجة الآلة الأمريكية الصناعية الشرهة للبترول بأسعار رخيصة، وحتى يتسنى للولايات المتحدة أن تسيطر على منابع البترول في كل أنحاء العالم حتى تعوض تراجعها الاقتصادي. وقد قمت بنحت مصطلح "المسألة الغربية"، أي شراهة الإنسان الغربي ومحاولته الوصول إلى معدلات استهلاكية لا تتناسب مع معدلات إنتاجيته ولا مع المصادر الطبيعية المتاحة في الحركة الأرضية. يجب ألا ننسى أن منظومة التقدم الغربية مبنية على افتراض خاطئ، وهو أن المصادر الطبيعية لا تفنى وأنها لا نهائية وهو أمر غير حقيقي، لكن رغم ذلك تظل آلة الاستهلاك الغربية في التصاعد يوماً بعد يوم، وكل هذه الحروب الاستعمارية والعربدة العسكرية هي محاولة للاحتفاظ بمعدلات استهلاكية عالية.
ورؤية المحافظين الجدد للواقع قد قوضتها تغيرات حدثت على المستوى العالمي والمستوى المحلي:
1. دخلت المنظومة الحضارية الغربية مرحلة الأزمة، كما اتضح من سقوط الاتحاد السوفيتي، وكما تتبدى في مظاهر التفكك المجتمعي في الولايات المتحدة.
2. مع تعاظم الأزمة البيئية ومع اكتشاف أن المصادر الطبيعية لا تتجدد، بدأت تظهر في الغرب قطاعات كثيرة تدرك أن مفهوم التقدم الغربي بتركيزه على الإنتاج والاستهلاك، وبإغفاله أي مرجعية إنسانية قد أدخلنا جميعاً في ورطة كونية، فظهرت جماعات الخضر والجماعات المعارضة للعولمة ومنظمة التجارة العالمية.
3. اكتشف الاستعمار الغربي أن المواجهة العسكرية مع قوى التحرير في العالم الثالث أصبحت باهظة التكاليف، مما اضطره إلى اللجوء إلى وسائل مراوغة لتوظيف العالم لصالحه، ولعل طرح فكرة النظام العالمي الجديد هو إحدى هذه الآليات.
4. بعد إخفاق النظم الحاكمة في العالم الثالث في تحقيق التنمية المرجوة، تزايدت القناعة بأن محاكاة النموذج الغربي بشقيه الرأسمالي والاشتراكي لم يعد يجدي، وأن المطلوب هو الوصول إلى رؤية تنموية جديدة.
5. تساقطت فكرة الدولة المركزية كما تساقطت فكرة الحزب الواحد أو الزعيم الواحد الذي يملك الحقيقة المطلقة، وبالتالي تأكدت ضرورة ظهور دولة المؤسسات وتداول السلطة ومشاركة الجماهير إما مباشرة من خلال الانتخاب وإما من خلال مؤسسات المجتمع المدني. لكل هذا تغير الوضع تماماً، وفُتحت نوافذ لقوى الممانعة.
6. أدرك الجميع- على المستوى المحلي- أن الدولة الحديثة مركبة للغاية، وأن إدارتها لا يمكن أن تتم من خلال فرد أو حزب واحد أو نخبة مغلقة، فالمطلوب هو إدارة الدولة من خلال مجموعة من المؤسسات المتخصصة.
7. كانت الدولة المركزية تحتكر المعلومات، فتذيع ما يخدم رؤيتها وتحجب ما عدا ذلك. ولكن ظهر مجتمع المعلومات وتطورت الفضائيات، الأمر الذي وفر المعلومات والتحليلات للجماهير، وقد زاد هذا من وعيها ونشط الوعي النقدي عند جيل الشباب.
8. بدأ الجميع يدركون أن الديمقراطية ليست مطلباً سياسياً وحسب، وإنما مطلباً اقتصادياً (ضرورة المساءلة لمنع الفساد باعتباره العائق الأكبر أمام جذب الاستثمارات، كما أنه يشجع على الطفيلية والانصراف عن الإنتاج) ومطلب أمني (تجنيد الجماهير للتصدي لمحاولات الاعتداء على السيادة الوطنية) ومطلب ثقافي حضاري (تأكيد الهوية القومية في مقابل اتجاهات العولمة التي تريد اكتساح كل الهويات).
كل هذه العناصر جعلت العالم الذي يتعامل معه المحافظون الجدد عالماً مركباً، وليس بسيطاً أو أحادي البعد، عالم القطب الواحد الذي يتخيلونه. فهم يصرون على اختزال عالمنا المركب بسبب خريطتهم الإدراكية المتحيزة وبسبب رؤيتهم الأيديولوجية الجامدة المعادية للتاريخ، ولهذا السبب فهم لن يغيروا من مواقفهم إلا من خلال ما أسميه الحوار المسلح، أن نرسل لهم برسائل مسلحة أو شبه مسلحة (مقاومة مسلحة- صواريخ- مقاطعة- ضغط اقتصادي) يواكبها حملة إعلامية لتوضيح موقفنا. ولعل هذه الرسائل المسلحة وشبه المسلحة تُدخِل بعض الرشد على عقل أعضاء النخبة الحاكمة الذين لا يدركون العالم إلا من خلال حواسهم الخمسة، فيدركون طبيعة الورطة التاريخية التي زجّ المحافظون الجدد بهم فيها.
والله أعلم.
ملاحظة: هذه المقالة نشرت بجريدة الاتحاد الإماراتية بصفحة وجهات نظر بتاريخ 8 مارس 2008.
اقرأ أيضاً:
تكلفة حرب العراق: رؤية أميركية / الجيش الإسرائيلي و’’الأعراض الفيتنامية / الرؤية الصهيونية للتاريخ / التناقض بين السفارد والأشكناز / مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا / 11 سبتمبر الأخرى!