ظهر أفيجدور ليبرمان كلاعب رئيسي على مسرح السياسة الإسرائيلية بعد أن اعتبره رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت طوق نجاته. فمن هو ليبرمان هذا؟ وما رؤيته، وما هو برنامجه السياسي؟.
ولد ليبرمان في مولودوفا (التي تقع بين رومانيا وروسيا)، ولا تتوافر معلومات كافية عن الفترة التي قضاها هناك، ولكن من المعروف أنه هاجر إلى إسرائيل عام 1978، وهو بعد في العشرين. ظهر ليبرمان في الساحة السياسية الإسرائيلية إبان حكومة الليكود عام 1996 حين شغل منصب مدير عام مكتب رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو، بعد أن كان قد أمضى عدة سنوات في صفوف حزب الليكود. وقد عُرف ليبرمان في تلك الفترة بأنه رجل المهمات القذرة والشخصية المثيرة للجدل والأزمات، وقد يعود اختياره لهذا المنصب إلى محاولة اجتذاب الجمهور الروسي الذي كان يعاني صعوبات في الاندماج في المجتمع ومؤسسات الدولة. واضطر ليبرمان إلى الاستقالة بعد سنة واحدة فقط، بسبب ملف جنائي يتعلق بالتهجم على طفل وضربه ضرباً مبرحاً. (فراس حماد، وكالة الأخبار العراقية، 24 أكتوبر2006).
وفي أعقاب خلاف بين رئيس حزب الليكود، بنيامين نتنياهو، ونتان شيرانسكي، رئيس حزب يسرائيل بعليا (الحزب الروسي)، أشار نتنياهو على ليبرمان بتشكيل حزب روسي جديد موال لليكود. وبالفعل أنشأ ليبرمان عام 1999 حزب يسرائيل بيتينو (إسرائيل بيتنا) نسبة إلى حزب روسي كان بزعامة الرئيس الروسي السابق يلتسن يدعى "روسيا بيتنا"، وهي محاولة من ليبرمان لكسب تعاطف المهاجرين الروس(Patrick Seale, The Daily (Star, 27 Oct. 2006. خاض حزب إسرائيل بيتنا الانتخابات، وطرح برنامجاً سياسياً اجتماعياً اقتصادياً دعا فيه إلى استيعاب المهاجرين بشكل كامل، والعمل على صهرهم داخل المجتمع، من أجل إيجاد مجتمع يهودي متكامل. وقد قام الحزب بالتحريض على فلسطينيي الداخل وفلسطينيي 67 والعرب عامة، وحصل حزبه في انتخابات الكنيست الخامسة عشر عام 1999 على 4 مقاعد، وفي عام 2003 خاض الانتخابات في قائمة مشتركة مع حزب موليدت تحت اسم "إيحود ليئومي" على 11 مقعد، وأصبح هذا التحالف بذلك القوة الرابعة في الكنيست من حيث عدد المقاعد. (فراس حماد، وكالة الأخبار العراقية 24 أكتوبر2006).
ولكي نعرف ليبرمان حق المعرفة لا بد من استعراض مواقفه السياسية، وبرنامجه الحزبي، ورؤيته. ابتداءً يجب الإشارة إلى أن ليبرمان سياسي صبياني على المستوى الشخصي، طفولي على المستوى الجماهيري. يعيش في الدولة الصهيونية منذ 28 عاماً إلا أنه لا يزال يتسم بعقلية المهاجر، فهو يحزم حقائبه بسهولة ولا يتمسك بفكرة أو بشخص أو بكرسي، فليس عنده أي صبر على الحلول الجزئية التي سمحت لإسرائيل بالبقاء 58 سنة في منطقة معادية (ناحوم برنباع، يديعوت أحرونوت، 23 أكتوبر 2006). وليبرمان من أشد المعجبين بجابوتنسكي، الذي يرى أنه يجب على المرء أن يكون عبقرياً وقاسياً في ذات الوقت، إذا حاول أعداؤك زعزعة الوضع، عليك أن تهاجمهم بصورة شمولية وشديدة جداً. لا توجد حدود أو قيود، عليك تحطيمهم تماماً إلى أن يبكوا متوسلين قائلين [أي الأعداء] "كفى" (القدس، 30 مايو 2004).
والحزب الذي أسسه ليبرمان حزباً فاشياً متأثراً بأفكار جابوتنسكي، ومن هنا دعوته لإقامة نظام رئاسي في إسرائيل. فأساس النظم الفاشية هو خلق نموذج "الزعيم" الذي يفعل كل ما يرغب بمعزل عن السلطتين التشريعية والقضائية (ميساء أسعد، خاص، 2 نوفمبر 2006). دخول ليبرمان الحكومة يعني تقبل أجندة اليمين وتحولها لجزء مركزي في الخارطة السياسية. إن التحالف الفاشي بين اليمين الاستيطاني واليمين الليبرماني يعتبر مسألة بديهية وطبيعية، فقد نجح اليمين في وضع معادلة قياسية لمن يكون وطنياً، فجعلت درجة الولاء للوطن تقاس بدرجة معاداة العرب، وهذه بلا شك أصداء فكر جابوتنسكي ("الفاشي" على حد قول موسوليني) (تسفي برئيل، هآرتس، 29 أكتوبر2006).
وقد دعا ليبرمان من على منصة الكنيست إلى قصف السد العالي بقنبلة نووية بهدف إغراق الشعب المصري، بحجة أن اتفاقية السلام التي وقعها النظام المصري مع الكيان الصهيوني لم تكن حقيقية، لأن مصر ما زالت تدعم المطالب المشروعة للشعب الفلسطيني، كما طالب كذلك بتدمير طهران. وكان يرى أن بقاء عرفات حياً يعتبر من أكبر المؤشرات على ضعف وعجز إسرائيل، ولذا اقترح أن تقوم طائرة بإسقاط قنبلة وزنها طنين على المنطقة التي يعيش فيها عرفات لتهدمها على رأس من فيها وبذلك يتم تدمير مسيرة السلام. وطالب ليبرمان كذلك بتخريب أحياء سكنية في غزة، وترحيل 90% من عرب إسرائيل، وذلك عن طريق طرد الفلسطينيين العرب من منطقة المثلث داخل أراضي 1948 إلى الضفة الغربية وتعزيز عمليات الاستيطان(طارق حسن، الأهرام، 28 أكتوبر 2006- القدس، 30 مايو 2004- ناحوم برنباع، يديعوت أحرونوت، 23 أكتوبر 2006).
ورغم كل هذا الضجيج الإعلامي فإن ليبرمان حسب قول الصحفي إيتان هابر في افتتاحية يديعوت أحرونوت لا يقصد فعلاً ما يقول وأنه يثرثر وحسب. ويتفق معه في هذا الرأي ناحوم برنباع الذي يعتبر تصريحات ليبرمان شكل من أشكال الهذيان اللفظي (المشهد الإسرائيلي، 1 نوفمبر2006).
ولكن بغض النظر عن كون ليبرمان ثرثاراً أم لا، فإنه يظل تعبيراً متبلوراً عن التيار العنصري اليميني المتطرف، فهو كما وصفه يتسحاق ليئور (هآرتس،1 نوفمبر2006) دودة ضخمة نبتت وترعرت في حقل القثاء هذا ["أي في الساحة السياسية الإسرائيلية"]. إن ليبرمان شأنه شأن غيره من الزعامات الصهيونية العنصرية مثل مائير كهانا ورحبعام زئيف وكتلة المستوطنين في الكنيست، يقومون بدفع السياسة العنصرية الصريحة (ترانسفير) أو الضمنية (حق إسرائيل في المناطق) تحت مظلة الديموقراطية الإسرائيلية. كهانا اعتاد توظيف الهولوكوست لإقناع الناس ببرنامجه، كما أنه رسخ دعايته العنصرية على أساس النصوص الدينية.
وقد قضت حماقة لبنان على العقيدة المشتركة بين اليسار واليمين على حد السواء، أي قضية الأمن القومي، فقد أصبح واضحاً خلال عدة عقود أنه ليس هناك حلاً عسكرياً لمشكلة إسرائيل الأمنية. هنا يظهر الخطاب الكهاني-الليبرماني الذي يتسم بالمزج بين العنف والوعد الإلهي: نطرد العرب ونحل كل المشاكل من خلال ضربة واحدة ساحقة إلهية، وهكذا تطرح رؤية جديدة لحل العقدة الأمنية. ومن الملاحظ أنه رغم أن أغلب أعضاء الكينست في قائمة إسرائيل بيتنا من المهاجرين، إلا أن بينهم أيضاً ممثلين عن الأمن (نائب رئيس الشاباك السابق، إسرائيل حسون، ونائب المفتش العام للشرطة، يتسحاق أهرونوفيتش).
ويتصور ليبرمان أن الاحتكاك القائم بين الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني هو أساس المشكلة، ولمنع حدوث الصراع يجب الحؤول دون الاحتكاك بينهما، ومن هنا يدعو إلى تبني النموذج القبرصي، حيث تم فصل الجزء اليوناني عن الجزيرة عن الجزء التركي، ويذهب ليبرمان إلى أن العقبة الأساسية هي مشكلة عرب إسرائيل ولكن مع هذا يمكن تجاوزها عن طريق عزل الفلسطينيين في الضفة والقطاع في كانتونات مفصولة عن بعضها البعض، ومحاطة بالمستعمرات الصهيونية من كل الجهات، على غرار الكانتونات التي أقامها نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا للمواطنين السود، كما يمكن تجميع العرب بصورة تتيح فصلهم عن الدولة، وبما أن الجليل هو مكان أغلبية عرب إسرائيل، لا بد من ترحيلهم شمالاً، ويتم ضم منطقة المثلث في الجليل الأدنى إلى الضفة الغربية المحتلة، أما يهود كريات شمونة (مع باقي يهود الجليل) فسيحلون محلهم في الجنوب الواسع. وسيتولى أركادي غايدماك– رفيق ليبرمان- بناء كريات شمونة الجنوبية متيحاً المجال أمام يهود الشمال للفرار نهائياً من نقمة صواريخ حسن نصر الله. وبهذه الطريقة يتم تطبيق النموذج القبرصي على إسرائيل، حيث تكون إسرائيل الشمالية للعرب، وإسرائيل الجنوبية ستكون كلها لليهود، ويتم تطهير الدولة من الشوائب العرقية (ألون ليئال، هآرتس، 6 نوفمبر2006).
ما هو سر دخول مثل هذا التيار الفاشي العنصري الواضح إلى تحالف وزاري يضم أكبر حزبين في إسرائيل؟ يمكن أن ندرج الأسباب التالية:
1- إن انضمام ليبرمان إلى الحكومة الإسرائيلية لا يعد أكثر من تسديد فواتير داخلية وتلاقي مصالح بين أطراف الساحة السياسية الإسرائيلية، فقد وعد ليبرمان أولمرت بدعم استقراره في الحكم مقابل ضمه للحكومة، وهذا يأتي بعد أن أصبحت الساحة السياسية الإسرائيلية أحزاباً وأشخاصاً ضعيفة وعاجزة عن تقديم الحلول الواضحة لجمهورها بدرجة كبيرة، وتحاول مداراة هذا العجز بأصحاب الدعوة الصريحة إلى الحرب والكراهية والعنصرية (طارق حسن، الأهرام، 28 أكتوبر 2006).
2- الديموقراطية قادرة على التغلب على كل المصاعب، مثل الحرب والأزمات الاقتصادية، ولكنها لا يمكنها أن تتغلب على عائق واحد هو فقدان ثقة المواطن. ومصدر الأزمة التي علق فيها المجتمع الإسرائيلي ليست مجرد الفشل في الحرب، بل رفض أصحاب السلطة الاعتراف بأن الهزيمة كانت من فعل أيديهم، ليس النظام هو المذنب، ولكن الأشخاص الذين سقطت منظومة السلطة في أيديهم.
3- يستغل ليبرمان الفراغ الناشئ في أعقاب الانهيار المعنوي للوسط. وبالفعل مع توجه أولمرت إلى ليبرمان فإنه يعلن بأن ليس في وسعه قيادة الدولة بنفسه. أما عمير بيرتس، فقد اعترف بأن ليست لديه القدرة على رد الحرب بالحرب. أولمرت وبيرتس يعرفان أنهما فقدا ثقة الجمهور، كما يعرفان أن حرب لبنان الثانية أديرت بشكل متسيب، ولكن القيادة السلطاوية ترفض الاعتراف بمسؤوليتها، ولذا يتردد الحديث عن قدرة ليبرمان في أن يجند، إحباطات ومخاوف الطبقة الوسطى الدنيا ويوظفها (زئيف شتيرنهال، هآرتس، 27 أكتوبر 2006).
4- التوافق بين أولمرت وبين ليبرمان يعكس التقاء قاتل للمصالح، فما حدث في إسرائيل أن الطغاة الماليين بنوا أنفسهم من خلال نهب ممتلكات الجمهور وأصبحوا محرك السلطة في المجتمع الإسرائيلي، ثم وصل الطغاة إلى مرحلة الصدام مع القيم الديموقراطية، ولذا كان لا بد من تفويض "رجل قوي" يحيد الديموقراطية ويحدد أصول اللعبة الجديدة لصالح أصحاب رأس المال. هذا الدور كان من نصيب اريئل شارون وحزب كديما، وحين فشل أولمرت في تحقيق الأمر فإن هذا ألزمه بضم ليبرمان بزعم أنه الشخص الصحيح ليستمر أولمرت في منصبه.
وما يلفت النظر في قضية ضم ليبرمان وحزبه لحكومة أولمرت، أن الشارع في الكيان الصهيوني لا يعارض هذه الخطوة بل يرحب بها، رغم إدراكه للطبيعة العنصرية لحزب ليبرمان، فالحقيقة التي تمخضت عنها الحرب الأخيرة على لبنان، هي أن المجتمع الصهيوني يتجه بصورة ثابتة ومطردة نحو الفاشية، وأن الأحداث الكبرى بما فيها الهزائم العسكرية تسرع من التوجهات الفاشية في هذا المجتمع المصطنع.
أولمرت يعلم أن الوسيلة الوحيدة للخروج من مأزق الحرب على لبنان هو توسيع القاعدة البرلمانية لحكومته بضم أحزاب جديدة اليها، فلم يكن ما تمخضت عنه الحرب الأخيرة مجرد هزيمة عسكرية للكيان الصهيوني، بل هزيمة شاملة تجلّت مظاهرها في كافة البنى الأمنية والاقتصادية والسياسية والاجتماعية. لقد كشف استطلاع للرأي العام، أجرته صحيفة يديعوت أحرونوت (13 أكتوبر2006) أن المجتمع الصهيوني أصبح أكثر يمينية بعد الحرب على لبنان، القضية هنا لا تتعلق بانضمام حزب يميني ذي نزعة فاشية إلى حكومة أولمرت، بل هي تتعلق أساساً بتجمع استيطاني يرحب بهذه النزعة. يقول جدعون ليفي (هآرتس 15أكتوبر2006) إن ليبرمان يبدو متطرفاً بالنسبة للذين يتصنعون البراءة، ولكنه في واقع الأمر يقوم بما تقوم حكومة إسرائيل بفعله. ولذا فإنه سيزيل القناع عن حكومة إسرائيل وسيظهر أولمرت للفلسطينيين وللعالم أين تتوجه الحكومة الحالية (ميساء أسعد، خاص، 2 نوفمبر2006).
ثمة سؤال هام يطرح نفسه: هل أفغيدور ليبرمان رئيس حزب إسرائيل بيتنا خارج الإجماع الصهيوني المهيمن؟ وهل هو فعلاً خارج فلك حزب كديما الحاكم والذي مزج بين نهج حزب العمل ونهج الليكود؟ وهل ليبرمان ونهجه أكثر عنصرية من نهج حزب كديما أو حزب العمل الذي يستند إلى الرؤية الصهيونية للأمن القومي الإسرائيلي وبالهاجس الديموجرافي ورفض أية تسوية؟ هل ليبرمان أكثر عنصرية من النظام الحاكم والدولة، أم أنه وليدهما وتعبير عن إعادة إنتاج عنصريتهما؟ (المشهد الإسرائيلي، 21 ابريل2006). كل الأسئلة السابقة هي أسئلة خطابية، فالإجابة معروفة لكل من يرصد المشهد السياسي الإسرائيلي، وكل ما فعله ليبرمان هو أنه أوضح ما كان متخفياً، وأبرز ما كان كامناً.
والله أعلم.
نقلاً عن موقع الدكتور عبد الوهاب المسيري
اقرأ أيضاً:
الرؤية الصهيونية للتاريخ / التناقض بين السفارد والأشكناز / مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا / 11 سبتمبر الأخرى! / المحافظون الجدد والعربدة العسكرية الأمريكية / فلسطين المحتلة والعقل الأمريكي