كنت في زيارة لجنوب أفريقيا لحضور مؤتمر عن الصراع العربي الإسرائيلي، وقد راجت شائعة أنه مؤتمر تطبيعي، وكنت على وشك الاعتذار، ولكن تصادف أن الصديق وضاح خنفر كان بجواري فطلبت منه أن يتحقق لي من الأمر فله كثير من الأصدقاء في جنوب أفريقيا، فأجرى بعض الاتصالات وفي اليوم التالي أخبرني أن الأمر أبعد ما يكون عن فكرة التطبيع والاستسلام. وبالفعل حينما حضرت المؤتمر فوجئت بأن معظم المثقفين والمسؤولين في جنوب أفريقيا يناصبون الدولة الصهيونية العداء، وأن من بينهم وزير الزراعة السابق ووزير المخابرات الحالي، رونى كاسريلز، وهو يهودي معادٍ للصهيونية، وعضو نشط في جماعة Not in my name "ليس باسمي" وهي جماعة تضم اليهود المعادين للصهيونية على مستوى العالم، وأعتقد أن مركزها في لندن، ولها فروع عديدة في أنحاء العالم. وعداء أعضاء النخبة الثقافية والسياسية في جنوب أفريقيا يعود إلى تجربتهم مع نظام الفصل العنصري الذي يشبه في كثير من النواحي النظام العنصري الصهيوني في فلسطين.
ومن المعروف أن التعاون الوثيق بين النظامين العنصريين في إسرائيل وجنوب أفريقيا استمر حتى أواخر الستينيات: فقد زودت إسرائيل نظام الفصل العنصري بمستشارين عسكريين متخصصين في حرب العصابات ليشرفوا على الحملة العسكرية التي قام بها هذا النظام ضد قوى التحرر الوطني بقيادة نلسون مانديلا. كما أن إسرائيل تعاونت مع جنوب أفريقيا في المجال النووي، فكانت إسرائيل تجري تجاربها النووية في جنوب أفريقيا التي كانت تزود الدولة الصهيونية باليورانيوم نظير أن تحصل على المعلومات اللازمة لتطوير سلاحها النووي. وقد كتب كاسريلز مقالاً بعنوان "غضب الفيل: إسرائيل في لبنان" يتناول الحرب السادسة، وقد وجدت المقال متميزاً فقمت بترجمته إلى العربية، حتى نفهم ما حدث، وحتى نتنبه إلى أهمية جنوب أفريقيا في حربنا ضد الدولة الصهيونية وفيما يلي نص المقال:
قال المتحدث الرسمي السابق لأرييل شارون، أثناء زيارته في جنوب إفريقيا، إن إسرائيل أصبحت مثل أفيال حديقة كروجر الوطنية (كروجر ناشونال پارك) [وهي محمية طبيعية يُمنع الصيد فيها وتسير الحيوانات خارج الأقفاص بكامل حريتها]. وتحدث رعنان جيسين بصفته ضيف الاتحاد الفيدرالي الصهيوني بالبلاد وقال: "نحن نريد أن يتركونا وحدنا، إننا نبدو لطفاء، لكننا إذا جُرحنا نثور ثورة عارمة لأننا فصيلة مهددة بالانقراض".
لقد شاهد العالم بأكمله لبنان، التي تبلغ مساحتها نصف مساحة إسرائيل، وقد عانت من غضب الأفيال: شعب لبنان وعاصمتها ومدنها وقراها والطرق والكباري ومرافق المياه والكهرباء سويت جميعها بالأرض. وكان السبب الظاهري وراء هذا الغضب هو أن حزب الله ألقى القبض على اثنين من الجنود الإسرائيليين.
قبل ذلك بأسبوعين، أُزهقت أرواح مائتي مواطن من قطاع غزة ودُمرت البنية التحتية بسبب هجوم حماس على موقع للجيش الإسرائيلي والذي أسفر عن أسر جندي إسرائيلي. لقد وصل عدد القتلى في لبنان إلى حوالي 1200 قتيل مقابل 150 قتيل إسرائيلي منهم 120 جندي. بينما كان ثلث القتلى اللبنانيين من الأطفال. وآلاف اللبنانيين شُوهوا وفقدوا منازلهم، فقد شُرد ربع سكان لبنان. وظلت لبنان تحت الحصار.
يقول الكاتب النرويجي چوستين جاردر: "نحن لم نعد نعترف بدولة إسرائيل ولا يمكننا أن نعترف بنظام العزل العنصري. ولابد أن نسمى قتلة الأطفال ’قتلة الأطفال‘. ولا نعترف بمبدأ العين الإسرائيلية بألف عين من أعين العرب".
لقد حاول العالم جاهدًا أن يفهم سبب هذا الصراع. إن الموقف الصهيوني المألوف، وفقًا لما يقوله الإسرائيليون، هو أنهم فصيلة مهددة بالانقراض. وقد بدأ اليهود في العودة إلى فلسطين منذ أواخر القرن التاسع عشر ليستعيدوا وطنهم المذكور في الكتاب المقدس. ولدى حصولهم على الأرض، لقوا مقاومة عنيفة متصاعدة من قِبل العرب، فكان على المستوطنين أن يدافعوا عن أنفسهم.
في حقيقة الأمر، كان هدف الصهيونية منذ البداية هو طرد المواطنين الأصليين حتى تصبح الدولة دولة يهودية خالصة، وعندما أدرك الفلسطينيون هذا بدؤوا في المقاومة، وفي عام 1948 لدى استقلال إسرائيل، وفقًا لخطة الأمم المتحدة للتقسيم، كان نصيب اليهود من الأرض 56%، بينما كان نصيب الفلسطينيين هو 44%. لكن إسرائيل زادت نصيبها بعد ذلك إلى 78% بعد أن حصلت على القوة والمساعدات والموارد اللازمين لهذه العملية، فطردت الفلسطينيين، ثم أصبحت إسرائيل هي القوة الإقليمية العظمى بمساندة أمريكا، ثم تم حصر من تبقى من الفلسطينيين في 12% من الأرض من خلال إقامة المستوطنات اليهودية غير الشرعية وشبكة الطرق الآمنة وبناء الجدار العازل الضخم حول الضفة الغربية المحتلة. وهذا الطرد والعزل أشبه بنظام الفصل العنصري وعزل المواطنين الأفارقة في جيوب محددة (بانتوستان) لا تزيد مساحتها عن 13% من جنوب أفريقيا. هذا هو السبب الرئيسي للصراع، من وجهة نظر الكثيرين.
وكانت لبنان أيضًا جزءًا من خطة الضم الصهيونية، إذ اعتبرت إسرائيل أن نهر الليطاني في شمالها هو من حدودها الطبيعية، وكانت تتطلع دائماً إلى أن تجعل لبنان درعاً مسيحياً ضد المسلمين. فغزت لبنان عام 1948 و1978 و1982 وبقيت في الجنوب حتى عام 2000، قبل أن يطردهم حزب الله. في خلال هذه الفترة، أثارت إسرائيل الحرب الأهلية، وارتكبت المجازر، وأقامت جيشًا عميلاً في الجنوب، وظلت متمسكة بمزارع شبعا الإستراتيجية. لا عجب أن الجنود الإسرائيليين المنسحبين كانوا يشعرون أن لبنان حكاية بلا نهاية.
ماذا وراء العدوان الإسرائيلي الأخير؟ هل من الممكن أن يكون كل هذه الاستجابة غير المتكافئة رداً على اختطاف جنديين إسرائيليين؟ كانت هناك طوال الوقت مناوشات بين الطرفين على الحدود، كان من الممكن أن يكون رد إسرائيل أبسط من ذلك بكثير أو أن توافق على تبادل الأسرى الذي اقترحه حزب الله. لكن بدلاً من ذلك اشتعلت أتون الحرب. ومما لا شك فيه أن رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولمرت وراء اندلاع هذه الحرب، فهو يختلف عمن سبقوه بأنه لم يكن قائداً عسكرياً، ولكونه فيل جديد كان عليه أن يثبت جدارته ويلقن العرب درساً، لكن مازال هناك ما هو أسوأ في جعبة الإسرائيليين.
وقد حذر ناشطو السلام الإسرائيليون من قبل من أن القوات العسكرية تنتظر أي استفزاز لإطلاق "مزيج من إرهاب الدولة المكثف والمجازر" ضد سكان غزة لتأمين سياسة "الفصل الأحادي" لشارون وبأي ثمن.
كذلك، اتخذت إسرائيل لنفسها موقعاً في إستراتيجية الحرب على الإرهاب التي يرفع لواءها المحافظون الجدد في واشنطن عقب أحداث 11 سبتمبر. وقد صرح الكثير من المعلقين بأن الهدف الرئيسي بالنسبة للولايات المتحدة هو خنق محور حزب الله وحماس وسوريا وإيران، الذي تعتقد حكومة بوش بأنه يعبئ الموارد لتغيير الأوضاع الإستراتيجية في الشرق الأوسط. وأوضح مسؤول إسرائيلي رفيع أن عملية حزب الله كانت "لحظة مثالية لتلاقي المصالح" الأمريكية والإسرائيلية. وقد رحبت إسرائيل بهذا الصراع الجديد الذي يحول أعين العالم عن الصراع العربي الإسرائيلي الذي هو السبب الرئيسي للمشكلة. ويعتقد البعض أن هذا "التلاقي" أعطى حافزًا للصقور الإسرائيلية للانقضاض العنيف على لبنان، بينما يشير البعض الآخر إلى مخاطر ربط مصير الشعب الإسرائيلي بمثل هذا البرنامج.
إنه من الصعب قمع مقاومة شعب من أجل قضية عادلة. وكان من أسباب زيارة جيسين إلى جنوب إفريقيا هو أن يؤكد للصهاينة المحليين أن إسرائيل لم تخسر الحرب مع حزب الله، بل خسرت الحرب الإعلامية فقط، لكنها ما زالت منتصرة على الأرض. لكن إسرائيل، في حقيقة الأمر، خسرت الحرب إعلامياً وعلى الأرض. فقد لقن حزب الله الإسرائيليين، الذين اعتقدوا أن بإمكانهم إبادته، درساً عند وادي الليطانين وأسقط بذلك أسطورة إسرائيل التي لا تقهر، فالاضطهاد والظلم يزيد من قوة وعزم المقاومة– في كل من لبنان وفلسطين.
ويرى الرأي العام أن إسرائيل قد خسرت الحرب لأن العالم كله شاهد جثث الأطفال العرب تخرج من تحت حطام المباني، ألم يقل الناس "ها قد تصرف اليهود الآن تماماً مثل النازيين!". كانت هذه هي نفسها كلمات أهارون سيزلانج، أول وزير زراعة إسرائيلي، في مايو / أيار 1948 بعد وقوع مجزرة دير ياسين صرّحَ قائلاً: "لقد هُز كياني بأكمله".
إلى متى سيسمح العالم لإسرائيل بالاستيلاء على الأراضي وقتل الأطفال وفرض كل هذا الحصار ونقط التفتيش والعقوبات الجماعية والاغتيالات المنظمة وهدم المنازل والتطهير العرقي واختطاف أعضاء البرلمان المنتخبين ووزراء الحكومة، عندما أمر دان حالوتس القائد العسكري الإسرائيلي الجديد بقصف منزل في غزة للقضاء على أحد قادة حماس، قال أنه شعر بخبطة(ارتطام) في الطائرة لدى إلقاء القنبلة التي تزن طنًا على هذا المنزل. ولم يشعر للحظة بالندم على موت النساء والأطفال الذين تحولوا إلى أشلاء هم وقائد حماس المستهدف، وأضاف حالوتس قائلاً إنه نام نوماً هانئاً تلك الليلة.
لقد صدمنا جميعاً مثل أهارون سيزلانج، نحن نشعر بالأسى تجاه هؤلاء الذين لقوا حتفهم تحت الصواريخ الإسرائيلية، ولم نعد نلوم حزب الله أو المقاومة الفلسطينية كما نلوم قوات التحرير في جنوب إفريقيا على موت المدنيين. فنحن نلوم السياسة العنصرية التي تمارسها الحكومة الفاسدة التي عرضت مواطنيها للخطر، وحينما قام القادة الإسرائيليون بقصف بيروت كانوا يعلمون أنه سيكون هناك انتقام، تماماً مثلما يدبرون اغتيالات مدبرة لإثارة رد الفعل والإطاحة بمفاوضات لم يرغبوا فيها. فبالنسبة لهم، ذعر مواطنيهم وهروبهم إلى الجنوب أو اللجوء إلى مخابئ تحت الأرض هو جزء مقبول من حساباتهم. وقالت ناشطة السلام الإسرائيلية تانيا رينهارت: "إن اللبنانيين والفلسطينيين، بل والإسرائيليين، ما هم إلا قطع شطرنج بالنسبة للقوات العسكرية الإسرائيلية." وهذا لأنه عندما قُصفت حيفا كان من بين القتلى عرب إسرائيل والذين لا تبالي حكومتهم بتوفير المخابئ لهم!.
ونحن، مثلما قال جوستين جاردر، يجب أن نسمي قتلة الأطفال ’قتلة الأطفال‘ ونعلن لهؤلاء الذين يستخدمون وسائل النازيين أنهم يتصرفون كالنازيين. فربما يستيقظ الإسرائيليون يوماً ويعودون إلى صوابهم، مثلما حدث في جنوب إفريقيا، ويفاوضون لتحقيق السلام. وفي النهاية دعونا نتعلم من الذي أيقظ ضمائر البيض في جنوب إفريقيا: اتحاد النضال العادل مع التضامن الدولي وتوظيف سلاح المقاطعة وفرض العقوبات.
هذا هو نص المقال ويمكننا أن نلاحظ ما يلي:
1- أن تشبيه المتحدثين الإسرائيليين الدولة الصهيونية بحديقة كروجر ينم عن جانب أساسي في الوجدان الصهيوني وهو إنكار الصهاينة للتاريخ والزمان وتركيزهم على المكان، فكأن إسرائيل أسست في جزيرة نائية أو ربما على القمر، وهذه الصورة المجازية تجعل من يقوم بالمقاومة شخص غير عقلاني مصاب بالجنون. ومن الطريف أن حاييم وايزمان، أول رئيس للدولة الصهيونية، زار نفس الحديقة في الأربعينات، وشبه المستوطنين الصهاينة بحيوانات هذه الحديقة، مما ينم عن شيئين: عدم إدراك للتاريخ، وغياب أي حس جمالي.
2- يلاحظ أن كاتب المقال شبه الأفعال الصهيونية بسلوك النازيين، وأن كثيرين من قبله فعلوا ذلك، رغم أن الإعلام الغربي قد جعل من ذلك جريمة كبرى!
3- كاتب المقال وزير يهودي، وهو شأنه شأن الكثير من اليهود الثوريين الإنسانيين يرفض الظلم أينما كان ومهما كان مصدره. وهذا يدعونا إلى ضرورة التمييز بين اليهودية والصهيونية وبين اليهود الصهاينة، حتى لا تسقط في أي عنصرية، ولا نلقي بأصدقائنا في أحضان أعدائنا.
4- أخيراً، يجب أن ندرك أن هذا التأييد للحق العربي يجب ألا يكون مجرد معطى نتقبله بشكل سلبي، بل يجب أن نرعاه ونغذيه وننميه ونبني عليه بأن نقوي علاقتنا بجنوب أفريقيا الدولة، وبالقوى المعادية للصهيونية والمؤيدة للسلام العادل الشامل في المنطقة، فهذه العلاقة إن لم ننميها ونرعاها ذبلت، فتظهر عناصر من دعاة العولمة والتجارة الحرة وكل آليات الهيمنة الأمريكية وتقوم بتوجيه الرأي العام في جنوب أفريقيا ثم سياسة الدولة بما لا يخدم مصالحنا ومصالح قضية العدل والسلام في المنطقة.
والله أعلم.
نقلاً عن موقع الدكتور عبد الوهاب المسيري
اقرأ أيضاً:
التناقض بين السفارد والأشكناز / مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا / 11 سبتمبر الأخرى! / المحافظون الجدد والعربدة العسكرية الأمريكية / فلسطين المحتلة والعقل الأمريكي / ليبرمان والإجماع الصهيوني