من الحيل الأساسية في الخطاب التحليلي الغربي أنه ينزع الظاهرة من سياقها الحضاري والإنساني فتتحول الظاهرة إلى مجرد حادثة أو معلومة يفرض عليها العالم الغربي ما يشاء من معاني. فحين يتعامل مع ظاهرة مثل الفساد في حكومات العالم الثالث، خاصة في أفريقيا والعالم العربي، فإنه يفصلها عن عناصر أخرى مثل دعم حكومات العالم الغربي لمعظم هذه الحكومات، وعن الرشا التي يقدمها العالم الغربي وشركاته لأعضاء النخب الحاكمة في العالم الثالث. ومن ثم يتحول الفساد من كونه ظاهرة اجتماعية سياسية ساهم الغرب في صنعها إلى حد كبير، إلى أمر لصيق بالعالم الثالث الذي لم تصله بعد قيم الديموقراطية الغربية!.
ونفس الشيء ينطبق على ما يسمى "الإرهاب الإسلامي"، إذ يتم فصل هذه الظاهرة عن التدخل الغربي في المنطقة وعربدة الجيوش الأمريكية في العراق وأفغانستان ودعمها لبعض الحكومات العربية الفاسدة، وعن الاحتلال الصهيوني وبطشه اليومي المستمر بالشعب الفلسطيني. وبالتالي تظهر بعض العمليات التخريبية (مثل تلك التي حدثت في أسبانيا وانجلترا) وكأنها نتاج عقل بشرى شرير، وكأن الإرهاب أمر لصيق بالإسلام ذاته، ثم يسحب هذا التعميم على المقاومة الشرعية ككل سواء كانت في فلسطين أم العراق أم أفغانستان مما يسبغ شرعية على التدخل الاستعماري الأمريكي في الشؤون العربية وعلى تحالفها مع النظم العربية الفاسدة، بحجة التصدي للإرهاب!.
وهذا أيضاً ما فعله العالم الغربي مع ظاهرة الإبادة النازية ليهود أوروبا والتي يطلق عليها "الهولوكوست"، فقد نزعها تماماً من سياقها الحضاري الغربي وقام بأيقنتها، أي جعلها مثل الأيقونة، التي يظن العابد أن الإله قد حل فيها، وبالتالي لا يمكن للمؤمن بها أن يشكك فيها أو أن يتساءل عن معناها أو دلالتها، فالأيقونة لا تشير إلى شيء خارج عنها، فهي مرجعية ذاتها ولا تشير إلا إلى ذاتها، ولذا بدلاً من أن ينظر العالم الغربي إلى الإبادة النازية لليهود باعتبارها جزءاً من نمط أوسع، وهو قيام الحضارة الغربية بإبادة الملايين (إبادة السكان الأصليين في أمريكا الشمالية واستراليا ونيوزلنده– ملايين الأفارقة الذين تم إبادتهم إبان عملية استرقاق الملايين– إبادة سكان الكونغو الأصليين على يد الاستعمار البلجيكي– إبادة مليون في الجزائر على يد الاستعمار الفرنسي)، أصبحت الإبادة النازية فعلاً إجرامياً قامت به ألمانيا النازية ضد اليهود، واليهود وحدهم. وبالتالي تتحول المسألة إلى لونين: أبيض وأسود، النازيون الجزارون واليهود الضحيةن وتحاط الإبادة بالقداسة، وكأنها الحق المطلق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، والذي لا يمكن مقارنته بأي ظاهرة أخرى، وكأن الإبادة ليس كمثلها شيء.
ومن هنا ظهرت قوانين تجرم من يشكك في الإبادة (في الوقت الذي لا توجد قوانين مماثلة تجرم من يشكك في وجود الله أو حتى القيم الأخلاقية الثابتة المطلقة). وأعتقد أنه من الواجب تحدي هذه الرؤية الاختزالية عن طريق وضع الإبادة في إطارها الحضاري والسياسي الغربي فننزع القداسة عنها ونبين أنها ظاهرة إنسانية تاريخية لا تختلف عن ظواهر مماثلة، وأنه لا يمكن رؤية الإبادة من خلال لونين اثنين. ومن أهم الاستراتيجيات في هذا المجال هو توضيح مدى تعاون الصهاينة مع النازيين، وهو تعاون تم على جميع المستويات الشخصية والمؤسسية، والسرية والعلنية.
وقد نشرت جريدة الديلي تليجراف البريطانية في عددها الصادر في ديسمبر 1996 مقالاً بعنوان "كشف السر الخاص بجنود هتلر اليهود!" وعبارة "جنود هتلر اليهود" تهدم الخطاب الغربي من أساسه، إذ تبين مدى التداخل بين النازيين من جهة، والصهاينة واليهود من جهة أخرى، وأن مسألة الأبيض والأسود هذه ليست لها أي أساس من الصحة، والمعلومات المذهلة الواردة في المقال ليست من قبيل الإثارة الصحفية، وإنما هي ثمرة بحث قام به طالب تاريخ في جامعة أكسفورد يسمى برايان ريجز.
يبين المقال أن القانون الألماني، إبان الحكم النازي، أي منذ عام 1935 كان يرفض منح الجنسية لذوي الأصول المختلطة واليهود، هذا هو الأبيض والأسود الذي يروجه الخطاب التحليلي الصهيوني والغربي. ولكن الواقع يتحدى هذه الصيغ الإختزالية، إذ يشير المقال إلى أن اليهود وأنصاف اليهود الذين انخرطوا في الجيش تم السماح لهم بالاستمرار في الخدمة على ألا يصلوا إلى رتبة ضابط، ولكن حتى هذا لم يتم الالتزام به، فمكتب شؤون العاملين في الجيش الألماني كان على دراية بوجود 77 ضابطاً من الرتب العالية من أصول يهودية مختلطة أو متزوجين من يهود ويخدمون في الجيش النازي (الفيرماخت). كما بيّن التقرير أن الآلاف من اليهود من ذوي الأصل المختلط (أي أنصاف يهود) خدموا في الجيش النازي.
وتوضح الدراسات التي قام بها ريجز حالات متنوعة، كان بعضها من اليهود المتدينين، والبعض الآخر ممن لا يعتبرون أنفسهم من اليهود بصرف النظر عن نظرة القوانين لهم، وكان البعض يخفي نسبه الأصلي، والبعض الآخر لم يستطع أن يفعل ذلك. ويوضح البحث مدى فظاعة الرفض النازي أثناء الحرب لمن ينتمون إلى أعراق مختلطة، وقد اكتشف ريجز أنه بينما كانت الجنود اليهود يؤدون الخدمة العسكرية، كان ذويهم من اليهود يقتلون في معسكرات الاعتقال، وكان ما يقرب من 2300 يهودي أقارب من الدرجة الأولى لمجموعة تقرب من 1000 جندي ممن التقى بهم ريجز من ضحايا الهولوكوست. وقد تمكن ريجز من توثيق 1200 حالة واستطاع أن يجمع ما يقرب من 30 ألف وثيقة عن أصول يهودية لـ 2 من المارشالات الميدانيين و10 جنرالات و14 كولونيل و30 ميجور.
وتكشف الوثائق عن حالات كثيرة بعضها في غاية الغرابة، مثل حالة أحد كبار الضباط النازيين اليهود الذي قام بزيارة والده في إحدى معسكرت الاعتقال وهو يرتدي زيه الرسمي وأوسمة المعارك التي خاضها، والصليب الحديدي الذي تسلمه تكريماً لأدائه في إحدى المعارك، وقد يبدو الأمر بالنسبة لنا غريباً، ولكن يبدو أن هذا الأمر كان مألوفاً في ألمانيا النازية، إذ تشير الوثائق إلى معرفة القيادة الألمانية معرفة كاملة بأصول الضباط النازيين اليهود، كما هو الحال مع المارشال الميداني إرهارد ميلش الذي ولد عام 1892 لأب يهودي وكان صديقاً شخصياً لهيرمان جورنج، قائد القوات الجوية الألمانية وأحد المرشحين لخلافة هتلر. كان ميلش رئيس شركة لوفتهانزا التي قام بتطويرها، ورئيس جهاز وزارة الطيران، وحسب التعريف النازي كان يعد نصف يهودي، ولكن هتلر وجورنج قررا أن يتجاوزا هذا العائق العرقي بأن "قررا" أن خال والدة المارشال المذكور هو في واقع الأمر والده الحقيقي (وكأن الجماع بالمحارم ليس جريمة، وأن انتماء المارشال اليهودي هو الجريمة الحقيقية) وبالتالي فهو من ذوي الدم الألماني الطاهر. وقد ظل المارشال النازي نصف اليهودي في منصبه، وظل على ولائه للنظام النازي إلى أن حوكم بعد انتهاء الحرب في محاكمات نورمبرج، باعتباره مجرم حرب، وسجن لمدة عشر سنوات، من عام 1945-1955، ومات عام 1972.
والبحث مليء بحالات أخرى:
* إدجار جاكوبسن الذي طلب إخفاء اسمه الحقيقي لأنه حسب التعريف النازي يعد يهودياً خالصاً رغم أنه لا يمارس العبادة اليهودية، ورغم أنه تزوج من فتاة غير يهودية ولا تزال حية حتى اليوم. عمل إدجار مخرج أفلام ثم في المكتب الإعلامي (النازي) في باريس في 1941 وحصل على الصليب الحديدي من الطبقة الأولى. وفي عام 1941 حاولت أخته التي كانت ترتدي نجمة يهودية حضور مؤتمر نازي، إلا أنها منعت من الدخول، وقد احتجت بالقول أن أخاها ميجور في الجيش النازي. وقبض على إدجار وحوكم أمام محكمة عسكرية لتزييف هويته ثم أرسل إلى إحدى معسكرات الاعتقال.
* هلموت ويلبرج مهندس مفهوم "البليتزكريج" (Blitzkrieg) العدواني النازي، والذي استخدم الطائرات في الحرب العالمية الأولى لتدعيم المدفعية الألمانية. والدته كانت يهودية، إلا أن وثيقة في ملفه بتاريخ 30 أبريل 1940 تقول أن ويلبرج قام ببحث مضنى، ثم اكتشف أنه ليس يهودياً، و قد توفي عام 1941 حين تحطمت طائرته.
* كول والتر هولاندير التحق بجيش جمهورية فيمر Weimar Republic عام 1922. وكانت أمه يهودية، وكان ملفه في مكتب شؤون أفراد الجيش يشير إلى أن مركز قيادة الضباط في برلين قد بعث برسالة عام 1934 تقول أنه "ليس آريّاً"، ولكنه من حسن حظه، كان قد حارب ضد الشيوعيين في عامي 1923 و 1924، ولذا أوصى مكتب شؤون الأفراد أنه ينبغي أن يبقى في الجيش، لكن أصله اليهودي سبب متاعب لزملاءه في الكلية العسكرية التي عين فيها، ولذا نقل إلى الصين. وقد منحه هتلر ميدالية الخدمة الشرفية عام 1936 ثم في عام 1939. ثم منحه تصريحاً بأنه آريّ بعد أن اطلع على صور فوتوغرافية له وعلى ملفه وأوراقه وشهاداته. وكان أداء هولاندير في الخدمة العسكرية أداءً متميزاً، حيث منح الصليب الحديدي بعد أن قاد فرقة grenadethrower فرقة إلقاء القنابل في بولندا. كما منح صليب الفارس فى مايو 1943 تكريماً لقيامه بتدمير 21 دبابة روسية في معركة كيرسك. بيد أنه في نهاية ذلك العام حالت أصوله اليهودية دون ترقيته إلى رتبة جنرال، ووقع هولاندير أسيراً في قبضة القوات الروسية في أكتوبر عام 1944 وأمضى 12 سنة في السجون الروسية.
* هيلموت فيلبرج، استخدم الطائرات في الحرب العالمية الأولى لدعم كتائب المشاة الألمانية، وكان يتولى سرب الطائرات الألمانية التي ذهبت إلى أسبانيا عام 1936 لدعم فرانكو، ومنح صليب الفارس. كما تولى إدارة كلية طيران وترقى في المناصب حتى وصل إلى رتبة جنرال. وقد كانت أمه يهودية، لكن تم العثور على وثيقة داخل ملفه العسكري يقول فيها "بعد بحث طويل عن أصولي وأجدادي، اكتشفت أنني لست يهودياً".
كما التقى ريجز أيضاً برجل آخر عمره 76 عاماً ويعيش في ألمانيا، وكان الرجل يهودياً لكنه سافر إلى فرنسا التي احتلتها ألمانيا آنذاك وانضم إلى فرق الإس إس تحت اسم جديد.
وكان كثير من "أنصاف اليهود" half-jews الذين اشتركوا في الحرب يعملون لحساب منظمة تودت Organization Todot وهي المؤسسة المسؤولة عن برنامج التعمير النازي في معسكرات الاعتقال السخرة التي كان يرسل لها اليهود المنتجين القادرين على العمل.
ولقد منحت السلطة النازية أرفع وسام عسكري (صليب الفارس Ritterreuz or Knight's Cross the) لجنود من أب وأم يهوديين وهي تعلم ذلك. فعلى سبيل المثال طرد الرائد بورخاردت من منصبه العسكري عام 1934 لأنه كان "نصف يهودي"، لكنه عاد في نفس العام بعد أن تسلم صك الدم الألماني من هتلر، وأرسل إلى الصين كي يساعد جيش شيانج كاي شيك Chiang Kai –shek . وفي عام 1941 أصبح يقود فرقة الدبابات، وفي أغسطس من نفس العام منح صليب الفارس تكريماً لأدائه في روسيا. وبعدها تم نقله إلى وحدة روميل ووقع أسيراً في معركة العلمين. وفي نهاية عام 1944 عندما أصبح من أسرى الحرب، ارتمى في أحضان أبيه اليهودي الذي فر من ألمانيا قبل الحرب. وفي عام 1946، عاد إلى ألمانيا لأنه كان لا بد، كما تقول زوجته، أن يعود شخص ما لإعادة بناء البلاد. وفي عام 1983، قبيل وفاته، قال لبعض الطلاب في مسقط رأسه "لقد كان يؤمن الكثير من اليهود الألمان وأنصاف اليهود الذين اشتركوا في الحرب العالمية الأولى، وحتى الحرب العالمية الثانية أيضاً، بأن عليهم أن يكرموا ويشرفوا موطن آبائهم من خلال المشاركة في الحرب"، أي أنه ظل مؤمناً تماماً بالتزامه الوطني لألمانيا.
إن الأمثلة السابقة التي أوردناها تبين مدى التداخل بين كثير من العناصر التي تصر التواريخ الصهيونية والغربية على فصلها. وقد بلور هذه القضية أحد اليهود الذين خدموا في الجيش النازي إذ قال: "لو كنت ضمن القوات الألمانية وفقدت أمي في المحرقة النازية، هل أكون بذلك أحد الضحايا أم أحد الجناة". ويتساءل ريجز لماذا لم يكتب عن هؤلاء؟ ولماذا لم يسردوا حكاياتهم؟ ولماذا لم يهتم أحد بالأمر؟ ويفسر ريجز تجاهل كل من الألمان واليهود، على حد سواء لهذه المجموعة من اليهود، بقوله "إن الألمان الذين شعروا بالذنب يرغبون عن الحديث عنهم، أما المجتمع اليهودي فيرغب عن الاعتراف بهم، لأن ذلك يتعارض مع كل ما تعلموه عن الهولوكوست".
إن تقرير ريجز يجعل واقع الدولة النازية أكثر تركيباً، ولذا سيوسع من حدود النقاش الدائر حول الدوافع النازية في عملية الإبادة ودور هتلر في تنفيذ المحرقة النازية، وأعداد الذين تم حرقهم في مقابل هؤلاء الذين تخفذوا أو تم التغاضي عن هويتهم!.
والله أعلم.
نقلاً عن موقع الدكتور عبد الوهاب المسيري
اقرأ أيضاً:
مركزية إسرائيل في حياة الدياسبورا / 11 سبتمبر الأخرى! / المحافظون الجدد والعربدة العسكرية الأمريكية / فلسطين المحتلة والعقل الأمريكي / ليبرمان والإجماع الصهيوني / غضب الفيل: إسرائيل في لبنان