بما أننا الآن في عصر الصورة فقد استطاع مصورو الصحف التقاط عدد من الصور ذات الدلالة، منها على سبيل المثال: صورة لمحمود عباس وهو يقبّل كونداليزا رايس تحت أذنها، وصورة للرئيس حسني مبارك وهو يقف بجوار أولمرت ويضع يده على كتفه وكلاهما يبتسم في سعادة حقيقية ومكتوب تحتها صديقي أولمرت، وصور مثلها وغيرها كثيرة لمسؤولين عرب يعانقون ويصافحون بحرارة وحميمية واضحة زعماء إسرائيليين، وقد يقول قائل: "إنها ضرورات دبلوماسية لا أكثر ولا أقل". لكن يبدو أن الصور تعكس عبور تلك الضرورات الدبلوماسية المهنية والانتقال بالمصافحة أو الأحضان أو المداعبات إلى مستويات أخرى قد تراها أعلى أو تراها أدنى حسب زاوية رؤيتك وحسب موضع الكاميرا.
ولكن الصورتين الأخطر قد نشرتهما جريدة البديل المصرية في العدد 521 يوم الأحد 28/12/2008 ، إحداهما للسيد الرئيس مبارك وهو يصافح ليفني وزيرة خارجية إسرائيل مصافحة مطولة ويداه الاثنتين ممتدة نحوها بينما تصافح هي بيد وتضع اليد الأخرى بعيداً عن سيادته (علامة تحفظ وإخفاء)، والثانية يظهر فيها السيد أحمد أبو الغيط ممسكاً بيد الوزيرة ليفني وكأنه يساعدها على نزول سلم أو يحميها من تعثر محتمل وتبدو يده قابضة على يدها في حرص واهتمام بينما هي تشعر بسعادة أنثوية واضحة لهذه الرعاية وهذا الاهتمام يظهر في ابتسامتها الممزوجة ببعض الخجل. وقد وضعت صحيفة البديل هاتين الصورتين على يمين الصفحة الرئيسية للجريدة ووضعت صور جثث وأشلاء الفلسطينيين في الجزء المتبقي من الصفحة، في إشارة إلى الربط بين هذا وذاك، ولم تترك للقارئ فرصة الربط العشوائي (خاصة وأن هذه الصور كانت قبل غزو غزة بيومين فقط)، بل كتبت عنواناً رئيسياً: إسرائيل تحترق.. ونواب: قرار الحرب صدر من القاهرة.
وقبل ذلك عايشنا أزمة مصافحة بيريز لفضيلة الإمام الأكبر، والتي استغلتها إسرائيل بشكل سياسي واسع النطاق، ولا يستبعد أن تكون هذه الصورة قد رتب لها بيريز وأعوانه ليوظفها كيفما يريد. ويبدو أن زيارة ليفني للقاهرة، وما حصلت عليه من لقطات موحية ومعبرة كان مقصوداً ليضرب أكثر من عصفور بحجر واحد؛ فهذه الصور قد شوهت الموقف المصري وجعلته في مربع الاتهام فيما حدث بعد هذه الصور بيومين من تدمير وحشي لغزة. فمن ناحية يلاحظ المتابع في هذه الصور مدى الاتفاق أو التوافق أو -قُل الانسجام- بين الحكومة المصرية والحكومة الإسرائيلية، حيث تعكس الصور حالة النشوة والارتياح بين أطراف المباحثات، كما أن تعمد الزيارة والتصوير قبل ضرب غزة مباشرة يحرج النظام المصري ويضعه في موقف سلبي أمام الفلسطينيين والعرب، وربما يجعله في موضع المتهم بالتواطؤ أو الموافقة أو -على الأقل- السكوت، وهذه لعبة لعبتها إسرائيل مع النظام المصري عدة مرات منذ أيام الرئيس السادات وحتى الآن، ولكننا لا نتعلم من التجارب والأخطاء مهما تكررت.
وعلى الرغم من تورط زعماء عرب كثر في العلاقات المباشرة وغير المباشرة مع إسرائيل إلا أنهم أكثر حرصاً في عملية التصوير هذه، فلا يظهرون في هذه الأوضاع الحميمية على صفحات الجرائد أو شاشات التلفيزيون مع زعماء إسرائيل، وقد بلغ الأمر أن أحدهم كان يمرح على شواطئ إسرائيل في الوقت الذي تحاصر فيه إسرائيل غزة وتدك بيوتها وشوارعها وتكسر عظام أهلها، ولم يتورع هذا المستلقي على شواطئ إسرائيل أن يلف جسده العاري ب "بشكير" ويصرف جليسته الإسرائيلية وينادي لعقد قمة عربية!.
وعلى الرغم من الوحشية الفظيعة التي تغتال بها إسرائيل قطاع غزة أمام أعيننا، إلا أنه لم يصدر أي رد فعل رسمي من أي دولة عربية أو إسلامية أو أي منظمة محلية أو دولية، وكأن هناك تواطؤاً مشتركاً بين الجميع، وحجتهم أو أمنيتهم الساذجة هي إسقاط حماس وتسليم مفاتيح القضية لعباس ودحلان ورفاقهما يعبثون بها على موائد المفاوضات في فنادق إسرائيل الفاخرة، ولكي يعود دحلان مرة أخرى بتسريحة شعره الشهيرة حيث تنسدل خصلاته على جبينه في مشهد نضالي واضح ويجلس بين بيريز وباراك في وضع حميمي دافئ.
ولست أدري إن كان قادتنا وزعماؤنا يعرفون دلالات الصور، ودلالات اللغة غير اللفظية التي تنطق بها بوضوح شديد أم لا؟... فالمعروف أن اللغة غير اللفظية (نظرة العينين، وتعبيرات الوجه، وحركة اليدين، وطريقة المصافحة، وحركة الجسم، والمسافات بين الأشخاص) تنقل أكثر من 70% من محتوى التواصل، بينما تنقل التعبيرات اللفظية أقل من 30% من محتوى التواصل، وبناءً عليه فإن الناس لن يهتموا بما نوقش في الغرف المغلقة بين السيد أحمد أبو الغيط وبين ليفني وزيرة خارجية إسرائيل وبما قيل في المؤتمر الصحفي المشترك، ولكنهم سيعرفون عمق العلاقة وحلاوتها وانسجامها وتوافقها واتفاقها من طريقته في الإمساك بيدها وكأنه يقول لها باللهجة المصرية "اسم الله عليكي يا حلوة" وهي تستقبل هذه القبضة الحانية منه بسعادة بالغة، وتنظر إلى أسفل في حياء مصطنع أو ربما خجل حقيقي (فهي أولاً وأخيراً أنثى وتتأثر بهذه المشاعر الفياضة)، كما تأثرت كونداليزا بقبلة محمود عباس على رقبتها وظهرت (وهي السياسية الداهية) في حالة نشوى أنثوية واضحة، والناس بطبيعتها تنسى الكلام والتصريحات بالذات لو كانت من سياسيين خاصة لو كانوا عرباً ويتذكرون جيداً الصور واللقطات الموحية والمعبرة.
فهذه الصور وغيرها تعكس مدى حميمية العلاقة بين زعمائنا وقادتنا ونظرائهم في إسرائيل، وهذا يقطع الأمل تماماً أمام أي موقف عربي حازم تجاه ما تفعله إسرائيل في غزة الآن وما يمكن أن تفعله غداً، والواقع يؤكد هذا تماماً. وإسرائيل تفهم ذلك جيداً بل لا نبالغ إذا قلنا بأن لديها خبراء في علم النفس يتابعون هذه الصور ودلالاتها ومراميها، بل ويحللون اتجاهات الزعماء من طريقة سلامهم، فالزعيم الذي يحتضن يد بيريز أو باراك أو نتنياهو، أو يحتضن أولمرت وعلى وجهه ابتسامة عريضة يقول باللغة غير اللفظية أنا معكم على طول الخط يا أصدقائي الأعزاء في إسرائيل. وإذا وصل أي قائد أو زعيم عربي إلى مربع الصداقة مع إسرائيل فلا يمكنه إلا أن يقف في مربع العداوة مع أي فصيل مقاوم لإسرائيل، إذ لا يمكن منطقياً الجمع بين صداقة إسرائيل وصداقة من يطلبون التحرر من احتلالها!.
ولسنا ندري بعد أن حدث ما حدث هل سيستمر زعماؤنا في هذا الطريق؟ وهل يصلح أن نكون أصدقاء لمن أصدر الأوامر بحرق غزة وأهلها الذين هم أهلنا؟ وهل يصلح أن نلعب دور الوسيط المحايد بين إسرائيل عدوتنا الأولى وبين الفلسطينيين إخوتنا وأهلنا؟ أم أن الحياد في هذه الحالة خيانة لحق الأخوة؟ هل سنستمر كما نحن في مسلسل الخيار الاستراتيجي الأوحد وهو الاستسلام لإسرائيل تحت زعم السلام؟ وهل سيبقى السفير الإسرائيلي في مصر؟ وإذا بقي فما هي فائدته إذا كان وجوده لم يوقف أكبر اعتداء على الفلسطينيين منذ عقود طويلة؟ أليست هذه هي الحجة من استبقائه لكي يكون همزة وصل في مصلحة الفلسطينيين، فأي مصلحة تحققت من وجوده؟ وهل يليق بنا أن تصفعنا إسرائيل على قفانا حين تزورنا قبل الغزو بيومين لكي تضع على أكتاف مصر أوزار هذا الغزو الوحشي بشكل خبيث؟ وهل يليق بعد كل ما حدث أن نبعث لإسرائيل بالغاز الطبيعي تشغل به مصانع سلاحها لكي تضربنا وتضرب إخوتنا وأهلينا به؟ وهل سنبرر ما حدث بأنها أخطاء حماس وأن عليها أن تتحمل نتيجة أخطائها وذلك لإراحة ضميرنا؟ وهل سنقول لحماس "خلي إيران تنفعك" ونحن ننظر إلى شهدائهم بشماتة وقد تقطعت أوصالهم في الشوارع وحملوهم قطع لحم بشرية؟ وهل سنستمر في إغلاق المعابر في وجه الفلسطينيين ليصبحوا بين المطرقة الإسرائيلية والسندان المصري (كما يقولون)؟ وهل سنضع أبناءنا ضباط حرس الحدود في مواجهة مع الفلسطينيين الهاربين من الجحيم الإسرائيلي عبر معبر رفح ليقتلوا بعضهم بعضاً وتشتعل الفتنة في الصدور العربية؟.
وقد يقول قائل: ولم تحملون مصر كل هذه المسؤولية ولا تنظرون إلى ما يفعله قادة العرب من تعاملات هائلة مع إسرائيل بشكل مباشر وغير مباشر؟ والجواب هو أن مصر هي التي بدأت رحلة التطبيع، تلك الرحلة التي أفسدت توجهات الكثيرين من القادة العرب ودفعتهم للهرولة إلى إسرائيل يطلبون رضاها ويطلبون رضا أمريكا من خلالها وعن طريقها.
لقد فجرت أحداث غزة شريط ذكريات مؤلم نرى فيه مدينة بورسعيد بعد حرب الاستنزاف وهي مدمرة تماماً ومبانيها المهدمة عبارة عن ثقوب بسبب النيران والصواريخ والدانات الإسرائيلية، وهكذا الحال في الإسماعيلية والسويس والقنطرة شرق وغرب، ويمر الشريط فنرى فيه الأسرى المصريين وهم يدوسونهم بالدبابات بأوامر شارون، ويمر الشريط فنرى مذابح إسرائيل في صبرا وشاتيلا وجنين. ونتعجب من الذين رأوا كل هذا معنا وعايشوه كيف تطاوعهم ضمائرهم على هذه المصافحات الدافئة وتلك القبلات الحارة، والتعبيرات السائدة عن صداقتنا لإسرائيل، وكل الرسائل غير اللفظية العاكسة لعمق وحميمية وحرارة العلاقة مع إسرائيل، مع أن إسرائيل لا تترك فرصة للذاكرة العربية لتنسى مآسيها، فهي تلاحقنا بالعدوان مرات ومرات، وهو ليس عدواناً عادياً وإنما عدواناً مشبعاً بالإهانات والغدر والاحتقار لكل ما هو عربي أو فلسطيني أو إنساني.
لقد ضيّع الدكتور عبد الوهاب المسيري من عمره عشرين سنة ليكتب لنا موسوعة عن اليهود واليهودية والصهيونية، وكان يأمل أن يستيقظ وعينا ويصفو إدراكنا ونعرف طبيعة أعداءنا، ولكننا للأسف لم نفعل، فحاول الرجل أن يختصر الموسوعة في أجزاء صغيرة لعله يغرينا بقراءتها، ولكننا تجاهلناه وتجاهلناها كما فعلت إسرائيل تماماً، وكأن بيننا وبين إسرائيل اتفاقاً مكتوباً وغير مكتوب.
وكتب الدكتور حسن ظاظا كتاباً قيّماً عن الشخصية الإسرائيلية، وقبله وبعده كتب الدكتور قدري حفني، وبعدهم وضع كاتب هذه السطور كتاباً عن سيكولوجية الصهيونية، ولكن لا أحد يقرأ أو يتذكر، ولهذا نتعامل مع إسرائيل بطريقة خاطئة دائماً، فإسرائيل كيان ينتمي إلى النمط البارانوي في السلوك، وهو نمط يتصف بالشك والعدوان والاستعلاء والاحتقار للغير، ولا يحترم أي ضعيف مهما توسل إليه أو تسول منه، بل يدوس أي ضعيف يصادفه في طريقه، ونحن طوال الوقت نتوسل إلى إسرائيل أن تعفو عنا وترضى عنا وعن الفلسطينيين، وإسرائيل ككيان عدواني لا يصلح معها هذا السلوك بل يزيدها شكاً فينا واحتقاراً لنا وعدواناً علينا، وكأننا بسلوكنا هذا أفسدنا إسرائيل وأشعلنا رغبتها في العدوان أكثر وأكثر، وكذلك فعلنا مع أمريكا. وقد خرج علينا بعض المسؤولين في وزارة الخارجية من تلامذة السيد أبو الغيط يقولون بأن مصر والدول العربية سيتحركون لدفع الدول الأوروبية للضغط على إسرائيل كي توقف العدوان على الفلسطينيين؟! (أرأيت هذه الحكمة وتلك الشجاعة؟!)...
أما نحن فلا نملك إلا ضبط النفس ولعب دور الوسيط المحايد، ولا نستغل أي أوراق ضغط بأيدينا، ولا نكلف أنفسنا حتى بإظهار الغضب، ولا ندرك بأن الأمور الآن لا تسير في صالح إسرائيل، فأمريكا الحامي الأكبر لإسرائيل تمر بأزمة مادية قد تؤذن بنهاية إمبراطوريتها، وهذا سيضعف كثيراً من موقف إسرائيل، ويمكننا الاستفادة من هذه المتغيرات لقلب الأمور في صالحنا، ولكننا لا نفعل.
إن هذه الأحضان والمداعبات والمصافحات والقبلات تدخل في نطاق الحدث الأكبر الذي لا يكفيه وضوء، ولا يكفيه الغسيل سبع مرات أحدها بالتراب، إنما يحتاج لغسل كامل الأركان يزيل النجاسة المغلظة التي لحقت بأيدينا وشفاهنا وقبلها قلوبنا، فهل آن الأوان لنستعيد وعينا ونستعيد قدرتنا على الغضب التي فقدناها؟ هل آن الأوان أن نتخلى عن هذا السكون البليد وهذه الاستكانة الماسوشية المحشوة بكل معاني العار والخزي؟ هل سنترك الأمر يمر هذه المرة كما مرت أشياء كثيرة قبل ذلك ونراهن على أن الناس ينسون بعد قليل؟.
واقرأ أيضًا:
التحليل النفسي لشخصية صدام حسين/ شخصية الطاغية/ ماذا....لو سلمت حماس؟؟/ قراءة في تسريحة محمد دحلان/ عباس من الاغتراب الوطني إلى التلاشي/ إعادة القراءة على كعب الحذاء