باختصار: القضية الفلسطينية... هي القضية المحورية للعرب والمسلمين، وهي قائمة على مجموعة من الحقائق الصلبة التي تتمحور حول شرعية ووجوب تحرير فلسطين من المغتصب الصهيوني، وكل ما يتطلبه ذلك من الجهود التحررية، بأبعادها السياسية والنضالية... وأنا أحسب أن كل من يعاند تلك الحقائق –أياً كان- فإنه سيخسر آجلاً أم عاجلاً... ولعل من أكبر تلك الحقائق غلبة "عالم المعاني" (العقائد – القيم – الأخلاق – الاتجاهات)... ولعلنا نستشرف بعض أبعاد مستقبل القضية الفلسطينية؛ وخاصة ما يتعلق بإعادة إعمار "غزة".
سيطرة "عالم المعاني"!
المقاومة الباسلة لغزة ضد العدوان الصهيوني القذر تثبت بأن "عالم المعاني" هو العالم المسيطر على خارطتنا الإنسانية وليس "عالم الأشياء"، كما قد يظن البعض في زمن يرون فيه غلبة "الماديات" التي تنتمي إلى "عالم الأشياء"... فلم يندفع الصهاينة إلى التوافد من "المنفى" إلى "أرض الميعاد" ونفي أهلها الأصليين إلاّ "عالم المعاني" لديهم(1)... وهو الذي يسوّغ للصهاينة كل ما يقترفونه من جرائم ومجازر...
إذن لا يمكننا تجاوز "عالم المعاني" أو تهميشه في قضيتنا المحورية، فالعقائد والقيم والأخلاق والاتجاهات هي المحرك الأساسي في تلك القضية لدى طرفي القضية... فطرف مُغتصِب لكل شيء، وهو واجد في عقائده وقيمه ما يسوغ له ذلك، وطرف مُغتصَب يناضل من أجل استرداد حقه وكرامته والحفاظ على معتقداته وقيمه وماء وجهه، كل ذلك يؤكد على ضرورة تذكير العرب الذين يتمسكون بـ "عملية السلام" بأن "السلام" وسيلة أو تكتيك مؤقت وليس هدفاً أو غاية بحد ذاته، مما يدفع باتجاه إحداث تغييرات جوهرية في بنية التعامل العربي الرسمي مع القضية الفلسطينية، ومن تلك التغييرات الهامة إعادة تشكيل الإطار السياسي الفلسطيني الحالي، ليكون قادراً على القيام بأعباء "عالم المعاني" إزاء فلسطين، ولقد تورط الإطار السياسي الفلسطيني الرسمي الحالي – منظمة التحرير الفلسطينية - في الدوران في عالم الأشياء، مما جعله يهمش أو يتجاهل الشق النضالي في عملية التحرر من خلال عمليات تراكمية ممنهجة لإضعاف إرادة المقاومة أو تغييبها أو التضييق عليها... ولقد تغوّلت منظمة التحرير الفلسطينية -وما نتج عنها من السلطة الفلسطينية- وتحوّلت إلى هدف نهائي أو شبه نهائي، في إعلاء واضح لعالم الأشياء، وهنا معاندة واضحة للحقائق... فأهل غزة ضحوا بكل شيء مقابل المعاني التي صانوها وحافظوا عليها بشرف وكبرياء...
قراءة استشرافية!
العالم لا تحركه الأشياء بل تحركه المعاني... وهذا ما يجب أن يفطن له الجميع، فذاك له دلالاته واستحقاقاته، وأنا هنا أذكّر بمجموعة من الخطوات الخطيرة التي يُراد منها نزع الشرعية الدستورية والنضالية لحركة المقاومة من خلال اللعب على ورقة "الأشياء"... في خطوات تندرج فيما يمكن أن نسميه بـ"مسلسل عالم الأشياء"... وقد أعد سيناريو ذلك المسلسل من قبل عدد من "السيناريست الخائبين"!
والفكرة الجوهرية في ذلك المسلسل تقوم على ما كشفته صحيفة (هآرتس) قبل عدة أيام، بأنه لا يمكن للسلطة الفلسطينية الحالية (سلطة السيد محمود عباس) أن تعود إلى غزة "فوق الدبابات"، بل من خلال "رافعات البناء". وهنا يمكننا تسجيل العديد من الملاحظات الهامة، التي ينبغي علينا جميعاً مراعاتها:
1. عمدت الصهيونية في عدوانها على قطاع غزة إلى إحداث أكبر قدر ممكن من التدمير في "عالم الأشياء"، فدمرت بشكل همجي البنية التحتية والطرق والمباني والمزارع، وكل شيء تقع عليها قنابلهم الدنيئة؛ فالصهاينة – بغبائهم الاسقاطي – يظنون بأن ذلك سيدفع الناس إلى التخلي عن المقاومة والتضحية بـ"عالم المعاني" مقابل استرداد ممتلكاتهم ومقدراتهم المادية... وما نعرفه في تاريخ الشعوب كلها بأن المقاومة تتكرّس شعبيتها حين تتصف ببعض السمات: وضوح الهدف وتناغمه مع الإطار العقدي والقيمي للناس، الصدق والشفافية، والدفاع عن حقوق الناس (أي عدم التورط في الحسابات الحزبية الضيقة)، وثمة مؤشرات كثيرة تؤكد على أن حركة المقاومة في غزة قد نجحت في الاتصاف بتلك السمات بشكل مقنع، وهذا يعني أن النتائج جاءت عكسية، أي بخلاف ما كان يرومه الكيان الصهيوني.
2. الخطوة الثانية في "مسلسل عالم الأشياء" أنه سيتم تزويد السلطة الفلسطينية الحالية (فريق محمود عباس) بالأموال والمساعدات الدولية، ليظهر عباس كـ"مخلّص" أو "منقذ" لعالم الأشياء، فضلاً عن دعم عملية إعادة انتخابه كرئيس للسلطة الفلسطينية، بعد تردٍّ كبير في شعبيته، بل في "قابليته" للاستمرار كرئيس "كاريزمي" يتوفر على الحد الأدنى للإجماع الفلسطيني الوطني... وفي مقابل ذلك سيتم تضييق الخناق على حركة المقاومة في هذا المجال، مع تحرك آلة الإعلام المناصر لجبهة ما يسمى بـ"الاعتدال العربي"؛ لكي تبدو المقاومة أمام الناس – وبعد هدوء عاصفة الحرب – على أنها حركة عبثية، دمرت كل شيء مقابل لا شيء. وهنا لابد من أن نفطن إلى أن ذلك السيناريو يضغط باتجاه القيام بوضع تصورات متكاملة، أكثر دقة وأكثر تفصيلاً، مع تحديد المهام التي يجب القيام بها من قبل كافة الفعاليات في عالمنا العربي والإسلامي، وفي الإطار الدولي أيضاً، لمحاولة التصدي لذلك السيناريو الخطر، والذي قد يجر إلى معركة لا تقل ضراوة عن المعركة السابقة، مما سيؤثر على الجميع بدون استثناء، لاسيما إن نجح الكيان الصهيوني في استمرار الحصار الظالم على غزة، خاصة بعد تطبيق "المذكرة الأمنية" ما بين أمريكا والكيان الصهيوني، لمنع تهريب الأسلحة في دائرة صوّرت فيها "غزة" كما لو أنها "قوة عظمى" وهرعت الدول الأوربية إلى تقديم النجدة!... والحقيقة أن غزة ارتقت في سلم القوة في عالم المعاني بشكل مدهش!
3. محاولة تثبيت الفرز الصهيوني للعالم العربي في معسكرين: "دول الاعتدال" و"دول التشدّد" أو الممانعة، مع ملاحظة أن البعد الطائفي حاضر في ذلك المشهد، وكأنه ُيراد للعدوان الصهيوني على غزة أن يلعب دوراً هاماً في مخطط إعادة تقسيم الشرق الأوسط بناءً على "الطائفية"، وهي النظرة التي يتبناها اليمين الأمريكي المتطرف، وهنا لابد من التأكيد على خطورة استمرار حركة المقاومة في تجاهل البعد الطائفي أو الأيديولوجي، فثمة حقيقة – فيما أحسب – تقول : إن "طهورية" القضيةِ الفلسطينيةِ لن تبدّد غيومَ الارتياب والشك بين عموم الدول العربية وإيران – وحلفائها ووكلائها -، ليس فقط على مستوى الأنظمة العربية، بل على مستوى قطاعات شعبية عريضة... وينطبق قريباً من هذا على البعد الأيديولوجي، ونحن نقول هذا، يجب أن ندرك بأن لذلك الأمر تكاليف باهظة يجب أن تُدفع، سواء من قبل المقاومة ذاتها أو من قبل تلك الأنظمة العربية؛ فالكلام الذي يكون معزولاً عن "الفواتير" في مثل تلك المسائل العويصة سيطير به الهواء!
4. أثبتت الأحداث بأن الكيان الصهيوني غير قادر وغير مستعد حالياً على الدخول مجدداً في حرب استنزاف طويلة، مما سيدفعه إلى إعادة تقييم الكثير من المواقف، بما في ذلك التعاطي مع المقاومة وتقديم تنازلات عبر وسائط غير مباشرة، تحفظ له ماء وجهه، تماماً كما حصل في السيناريو الذي "طبخ" بعناية غير فائقة، وهنا سنجد أن "دول الاعتدال" التي باشرت عملية "ضغوط" غير مسوّغة على المقاومة ستكون الخاسر الأكبر، مما يجعلها تخسر المصداقية أمام شعوبها وتفوّت على نفسها صناعة لحظات تاريخية.
5. الاستمرار في عملية الفرز الصهيوني للعالم العربي إزاء القضية الفلسطينية، والتأخر في عملية "الفرز العقلاني" داخل الفضاء الفلسطيني المصحوب بحالات الاستقطاب والخلاف العربي-العربي، كل ذلك قد يؤدي إلى دخول بعض حركات التغيير التي تتبنى العنف، لتلعب على وتر تلك القضية، كنوع من الاستجابة لما يرونه واجباً شرعياً، مع محاولة فرض أجندتهم السياسية وتحقيق بعض أهدافهم، وهنا سيجد العالم العربي نفسه أمام حالات استنبات فكر العنف من جديد، وربما بصور أشنع. وكل ذلك يوجب اصطحاب العقلانية من قبل الأنظمة العربية والفعاليات الفكرية والسياسية.
6. في حالة الإصرار الصهيوني والأمريكي – وربما بعض الأطراف العربية – على مسألة دعم السيد محمود عباس وفق السيناريو السابق، فليس بعيداً أن تعمل الشعوب على ابتكار آليات جديدة للدعم المباشر أو غير المباشر، ولسنا ندرك على وجه الدقة في أي اتجاه يمكن أن تتطور الأمور في هذه المسألة، لاسيما أن كثيراً من الشعوب ترى أن المقاومة قد "أبلت بلاءً حسناً"، وقامت بواجبها النضالي بشكل بطولي أمام العدوان الصهيوني، مع وجود شعور بالتقصير إبان العدوان؛ مما قد يدفع الشعوب إلى اقتناص تلك الفرصة للتعويض!
وقبل الختام، لابد من التأكيد على أهمية النظر إلى القضية على أنها أكبر بكثير من غزة، وانعكاساتها أخطر مما يتوقع الكثير، مما يجعلنا نشدّد على ضرورة التعاطي العقلاني الممنهج مع تلك القضية والابتعاد عن النظرات الضيفة التي تتكئ على البعد الانفعالي أو التفكير "الرغبوي" وكأن عصا موسى بأيدينا... فالمستقبل مليء بالصعاب والتحديات والتهديدات والفرص؛ مما يوجب أن نستعد له بشكل ذكيّ وجاد... وأحسب أن العرب سيضيعون فرصاً مواتية حين يفوّتون على أنفسهم الظهور بشكل قوي ومستقل أمام الكيان الصهيوني!!
اقرأ أيضاً:
نداء للمثقفين العرب ولعمرو موسى وللأنظمة العربية!
____________________________
[1] هنا نكون بإزاء فكرتي: "الترانسفير"، و"البنية الاستيطانية الإحلالية" كما عند العلامة الدكتور عبدالوهاب المسيري – انظر موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية.