لم ينقشع دخان القاذفات حتى تصاعد دخان الخلافات، مع من ولأجل من وفيم يختلفون؟! هذه معركة مصير ليس فيها غالب أو مغلوب في الوطن المسلوب، إما أن يكون أو لا يكون.. وبعد أن خرجت غزة الصامدة بفضل كل فصائل المقاومة المتحدة في وجه العدوان منتصرة بكل المعايير وبشهادة الجميع -والفضل ما شهدت به الأعداء- وجدت بريق النصر يتراجع إلى ضباب هزيمة نفسية في قلوب الجماهير، والتي لم تعد قادرة على أن تفرح بميلاد الطفل وكأنها تبحث له عن أب يتبناه وهو الوليد الشرعي لكل نساء ورجال الشعب الفلسطيني، والذين يحق لهم أن يرفعوا له أقواس النصر في احتفال بطولي موحد يجمع كل فصائل المقاومة، لا يخشون غضب أحد أطراف المعادلة الصعبة من جنود (المقاومه) أوسادة (الاعتدال)، وكأنهما خطان متوازيان لا يلتقيان في خريطة النضال من أجل الوجود الفلسطيني ذاته على رقعة الأرض المحتلة!.
كنا نتطلع إلى مهرجان النصر الذي احتفلت به جماهير العالم كله في طرقاتها المزدحمة بالمتظاهرين والمناصرين لغزة الصامدة، فماذا يريد الزعماء؟ كنا نتوقع أن ينتصر القادة في مرحلة الانتصارات على كل الاختلافات وعلى أزمة الضمير في قضية التحرير ووحدة المصير، ويتحلّون بأعلى درجات الشعور بالمسؤولية تجاه هذه الجماهير الصابرة على عذاب الجدار وذل الحصار وظلم المعابر وخطب المنابر، وفيما هم فيه مختلفون؟.
هل هي أموال الإعمار والتي جاءت مناصرة من "الأخيار"؟ هل هي أشلاء السلطة المتنازع عليها في الرمق الأخير، والتي يحتاج قادتها إلى إذن الدخول والخروج؟ كنا نتوقع أن تكون (السلطة) من أول الحاضرين في كل المؤتمرات، وأقوى المتحدثين في كل اللقاءات، وأكبر الحاضنين للمبادرات التي تفك الحصار وتفتح سجن فلسطين الكبير، لا من أجل (حماس) ولا ضد (السلطة)، ولكن من أجل كل فصائل المقاومة والتي كان لها فضل الجهاد وشرف الاستشهاد في سبيل هذا النصر العظيم.
إن هذا الخلاف أحد عناصر المؤامرة لتحويل النصرإلى هزيمة يشمت فيها الأعداء، واستحقاقات المعركة إلى وليمة يتداعى لها عشاق الصيد في الماء العكرـ وهو خلاف يسير في اتجاهين من الداخل والخارج وبالعكس، ويدور في حلقة مفرغة كالباب الدوار بين الدفع والجذب، فالداخل مفقود والخارج مولود، وهذه استراتيجية كسب عامل الوقت وقتل لحظة الانتصار وكسر إرادة الصمود وتكريس واقع الخلاف على كل الأصعدة.
وأمام هذا الوضع المحزن ليس هناك غير حل واحد وخيار أخير، وهو المصالحة الوطنية دون قيد أو شرط من كل الأطراف سوى مصير الوطن كله والذي يقف في مهب الرياح، فالشعب لن يحتمل صراع قادة يضعون معاركهم الذاتية فوق معركة الوطن، المعركة المصيرية، معركة البقاء!؟.
والأمة لن ترحم من يحول نصرها إلى هزيمة، ومكاسبها إلى غنيمة، ودماء شهدائها إلى جريمة في حق الأجيال القادمة والتي دفعت ثمناً غالياً من الأرواح والدماء لتغسل أرضها من دنس الاحتلال. وعلينا أن نتذكر أن الذين رفعوا غصن الزيتون وحمامة السلام وأسقطوا خيار المقاومة وقعوا في فخ الاستسلام دون إرادتهم، ولم يسلموا من سوء الخاتمة من أعدائهم ولم يجنوا ثمار نضالهم مع شعوبهم.. كالمنبت لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى!.
وبنظرة متأنية في قائمة الزعماء السياسيين في التاريخ الحديث على امتداد خريطة العالم السياسية هنالك أمثلة تذكر بهم في الخيار بين الإرادة الدولية والإرادة الشعبية حين كان الخيار الأمثل للذين اختاروا الموت في أحضان الوطن شعارهم "بيدي لا بيد عمرو".
والعاقل من اتعظ بغيره؟!.