يخطئ من يتصور أن الجهاد معناه الوحيد هو ساحة المعركة والقتال الدموي، فهناك جهادا من نوع آخر يمكن القيام به حين لا نملك أن نقاتل أوحين تكون فكرة الحرب بعيدة لسبب أو لآخر، ويكون تأثيره أعظم وأكبر بل وأتصوره جهادا "يبني" الإنسان ويحرك الدم الراكد الذي يسري في عروق البشر حين يستنجد به آخر يحتاج إليه فيستخدم طاقاته وقدراته وإبداعاته، وهذا الجهاد مارسه رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه منذ أن بدأ في تأسيس الدولة الإسلامية ولكننا كالعادة لا نتدبر أو قد نتدبر ولا نستطيع الإدراك بوعي أو حتى التوصيف، هذا الجهاد هو "الجهاد المدني" أبطاله أنا وأنت ومفردات المجتمع من هيئات ومؤسسات مدنية حولنا ووقته قد حان الآن الآن، فطبول الحرب توقفت، لكن جرح غزة ما زال ينزف ويحتاج إلينا وتلك المرة لا أخاف أن يبرد البشر وينسوا ما ألمّ بغزة من مصائب وكوارث لأن تلك المرة مختلفة عن المرات السابقة والاختلاف الجذري لم يكن في المواقف العربية ولا حتى الغربية ولكنه كان في ثورة "المدنين" الهائلة التي خرجت في كل مكان على الكرة الأرضية بتلك الأعداد من كل الأعمار وهذا ما أريد أن أركز عليه "عمل الأفراد".
فنستطيع بقدر مقبول من الوعي والحكمة والنظام والمتابعة المخططة أن نحدث الكثير وأن نقدم الكثير من أجل غزة المنكوبة ولا أجد مثالا للعمل المدني والجهاد المدني أفضل من تلك الرسالة الالكترونية التي أرسلت إلىّ من يومين قام بها شباب يبادرون فيه بتقديم المساعدة الحقيقية الفعلية لغزة تحت عنوان "حول دعمك لمشروع" ويقترحون فيه آلاف المقترحات الميدانية المدنية سواء بالعمل عن طريق الشبكة الإلكترونية أو بالمساعدة الفعلية وقد اقترحوا فيها –كمثال- إنشاء مواقع متعددة منها ما يبث أفكارا ايجابية ومصطلحات ايجابية مقابل الأفكار السلبية كفكرة أن غزة انتصرت وقاومت مهما كانت نتائج الحرب على الأرض وأن غزة تحتاج للعناية وليس للعواطف وهكذا، ومنها ما يعمل فقط على تقديم أفكار مبدعة لتحدي الحصار والتغلب عليه ومنها من يراسل الشباب الغربي ليعرفه بالإسلام ومنها من يتواصل مع الهيئات المدنية لاستمرار المطالبة والتوثيق لمحاكمة القادة العسكريين الإسرائيليين على جرائمهم وكذلك فكرة "التكافل" الحقيقي والتواصل مع رعاة يتبنون أسرا بعينها في غزة أو أطفالا في غزة أو تبني مشروعات على أرضهم هناك كبناء مستشفى أو مدرسة أو مكتبة أو حديقة عامة والرائع بحق في ذلك أنهم بالفعل وجدوا من يتبنى تلك المشاريع.
وفكرة أخرى أسموها "التوأمة" ويقصدون بها توأمة مدن لدينا بمدن في غزة أو جامعة هنا بجامعة غزة وهكذا، أليس هذا جهادا مدنيا يستحق بذل الوقت والجهد؟ أليس هذا هو الفعل الذي يتساءل كثيرون عن ما هو؟
بقي أن أوضح عدة نقاط تتعلق بالجهاد المدني:
* الجهاد المدني يحتاج لصبر وجهد ودأب ولا يمكن أن يؤتي ثماره بحق لو كان جهادا مرتبطا بلحظات تأثر ولتساعد نفسك على الاستمرار فيه اجعل نفسك دوما في فريق ليشد بعضكم بعضا وكلما كان عمل الفريق مخططا وله متابعة لتحقيق الأهداف وقياسها كلما كانت النتيجة أفضل والعمل أجدى.
* الجهاد المدني في حقيقته يساعدك أنت قبل الآخرين فحين يكون لك هدفا تسعى لتحقيقه وحين تكون فردا في مجموعة فريق ستتعلم الثقة بالنفس وحل المشكلات والقيادة والنظام وأهمية الوقت والكثير والكثير مما يبني شخصيتك ويجعل لك قيمة ودورا في الحياة فتشعر بوجودك.
* الجهاد المدني مفيد لصحتك النفسية فبالإضافة للفائدة السابقة فهو يمثل "التصريف" الذي تحتاجه بعد أن امتلأت نفسك بأحزان ومشاهدة مناظر وأحداث دامية حدثت في غزة دون أن تستطيع فعل شيء.
* الجهاد المدني أثبت نجاحه يقينيا منذ الأزل وحتى تاريخنا المعاصر لأن الجهاد المدني يعتمد على الكنز الأكبر وهو "البشر" فيضعه في خانة الموارد والاستثمار لا خانة الفاقد والخسارة وراجع معي كل حركات الإصلاح فستجده هو السلاح الحقيقي في الحرب أو ما بعد الحرب وتذكر مثلا هونج كونج لم يكن يوجد في كثافتها السكانية مع فقر شديد في الموارد الطبيعية مثلها، فلا فحم ولا حديد ولا بترول ولا شيء ولكن كنزها حين استخدمته جعلها دولة غنية وبها أعلى دخل للفرد في العالم.
* الجهاد المدني يتطلب بالتوازي أن نتعهد أنفسنا في علاقتنا بالله عز وجل فنتعلم فقه مسامحة النفس عما اقترفت من خطأ أو تقصير لنبدأ صفحة جديدة مع المولى عز وجل فيها يملؤنا الأمل واليقين فلقد وعدنا الله سبحانه بالنصر مادمنا مؤمنين والحمد لله أنه هو سبحانه من قال أنه لا يخلف وعدا فيبقى لنا أن نقوم بشرط تحقيق الوعد وهو إيماننا وأخلاقنا فالإيمان وحده لن ينفعنا والأخلاق وحدها لن تنفعنا فالذي لا يترك سجادة الصلاة ليلا ونهارا ولم يعي أنه مطلوب منه دورا اجتماعيا وعلما دنيويا وتربية واعية ونجدة بالفعل لمن يحتاج إليه لن ينفعنا بشيء والذي تميز بحسن الخلق دون ترجمة في عبادة لله سبحانه وعمل اجتماعي ولو بسيط يخدم به الأمة لم ينفعنا بشيء فكلاهما في "الغثاء" الذي ذكره رسولنا المربي المجتهد الناشط المخطط الحكيم صلوات الله وسلامه عليه.
فلنتكاتف معا ولنعمل كل في مجال تخصصه أو اهتمامه من أجل غزة ولا نغرق في بحث من انتصر ومن هزم في حرب غزة أو التصور السطحي بأن غزة بدأت تهنأ بوقف القصف وقد تظاهرنا والحمد لله، فغزة مازالت منكوبة محروقة الأرض خالية من الدور والمدارس والمستشفيات والحياة الآدمية والحصار، فهل من مجاهد؟
اقرأ أيضاً:
نشوف ولا ما نشوفش.../ الجهاد الاكبر/ نحن ضحايانا: الإعلام التعبوي، والعنف المزاح