الصراع الفلسطيني الفلسطيني من الشخصنة إلى لعبة المصالح
قد يرى البعض أنه لا مجال لمثل هذا الحديث الآن وسط ما يجري في غزة، ولكن أتصور أن هذا هو الوقت المناسب لمثل هذا الحديث. فلم يبق للفلسطينيين سوى أنفسهم ولن يحرر فلسطين سوى الفلسطينيون، فإن لم يتحدوا ويلقوا خلافاتهم جانبا فلن تقم لفلسطين قائمة وستضيع حتما القضية والدولة والشعب، وما ينطبق على الفصائل الفلسطينية قد ينطبق بالضرورة على فصائل عربية أخرى. لم يعد الصراع الفلسطيني - الفلسطيني صراع أفكار إذ أصابه ثلاثة أمراض قاتلة أولها شخصنة الصراع وثانيها صراع الهوية وثالثهما المصالح الشخصية.
تعني شخصنة الصراع ببساطة شديدة أن يأخذ المرء الأمر بصفة شخصية فينزع عنه أسبابه الفكرية ليصبح صراعا بين الشخص "أ" والشخص "ب" وليس صراعاً بين فكر وفكر آخر. فلو فرضنا مثلا أن مواطناً قام بمقاضاة رئيس الجمهورية أمام المحاكم هنا تكون القضية المنظورة ضد رئيس الجمهورية بصفته وليس بشخصه بمعنى أنه لو ترك رئيس الجمهورية منصبه ستظل القضية منظورة أمام المحكمة. لو اعتبر رئيس الجمهورية أن مقاضاة مواطن له إنما هي إهانة له ولشخصه، ومن ثم قام بالتنكيل بهذا المواطن؛ هنا يكون رئيس الجمهورية قد أخد الأمر على منحى شخصي. تنتبه الثقافة الأوربية لمأزق شخصنة الصراع لهذا نجدهم يقولون "لا تأخذ الأمر على نحو شخصي". فعرفات والشيخ ياسين رحمهما الله كلٌ كانت له وجهة نظر مغايرة ولكن لم يصبح الصراع بينهما صراع عرفات – الشيخ ياسين. الآن خرج صراع حماس وفتح عن كونه صراعاً أيديولوجيا وصار صراعاً بين أشخاص وليس أفكار.
هناك مفهوم نفسي يطلق عليه "تقدير الذات" والذي يعني ببساطة أن هناك مقومات يمتلكها الفرد والتي يقدر نفسه على أساسها، وهذه المقومات هي التي تضمن له وجوده وتحفظ هويته وتخلق انتماءاته، كأن يبنى تقدير الشخص لذاته على أساس العرق أو الجنس أو الدين أو الانتماءات السياسية أو الصفات الشخصية التي يمتلكها ويقدرها في نفسه. عندما تختل هذه المقومات فإن الشخص يعيش أزمة هوية قد تصل في شدتها إلى أزمة وجود. فعندما يهتز وجود الفلسطيني ويقتصر وجوده ومقوماته التي يقدر نفسه على أساسها أن يكون منتمياً لفصيل بعينه؛ هنا تظهر عصبية أقرب ما تكون إلى العصبية القبلية وقد ينتهي الأمر في سعي الفلسطيني للحفاظ على وجوده في مقابل الآخر أن يقتل أخيه الذي ينتمي لحماس أو العكس.
ولا يخفى على أحد أن إسرائيل تعاني على مستوى الدولة من أزمة الوجود هذه ولهذا تذهب الدولة الإسرائيلية إلى أكثر الأمور دموية وإبادة للشعب الفلسطيني. دائما ما يسقط في صراع الوجود على هذا النحو العوام والبسطاء، فلا يوجد في عقل الفلسطيني البسيط عندما يقتل أخيه من فصيل آخر سوى الحفاظ على وجوده. فعندما يتقاتل المسيحي والمسلم أو السني والشيعي أو الفتحاوي والحماسوي فلا يعكس ذلك سوى أزمة وجود، فهويته لا ترتكز سوى على الصفة كونه مسيحي أو مسلم أو سني أو شيعي أو فتحاوي أو حماسوي.
يسعى كل طرف في صراع المصالح الشخصية إلى تحقيق مصلحته التي قد تصل إلى مجرد الحفاظ على الكرسي أو حتى مصالح بزنس خالصة، وما أكثر هؤلاء من قادة. وهم يتلاعبون بعقول شعوبهم ومناضليهم ليزجوا بهم في قتال لا ناقة لهم فيه ولا جمل مع خصومهم. إنهم يتلاعبون بعقول البسطاء ليأخذ الصراع لديهم شكلا من أشكال الدفاع عن الوجود. لقد أضاع اللبنانيون سنوات طويلة في حرب أهلية لم يذهب ضحيتها سوى البسطاء؛ هم الذين تم قتلهم وتم تشريدهم وبقي القادة في حصونهم ولم يمسسهم سوء.
قد يصل الأمر بالمصالح الشخصية إلى امتهان الدعارة السياسية، فكما نجد في الدعارة أقطاب ثلاثة من تبيع جسدها ومن يستمتع بهذا الجسد ومن يقم بدور الوسيط. نجد أيضاً في الدعارة السياسية من يبيع شرفه الوطني نظير مقابل مادي يحصل عليه ممن استخدم هذا الشرف لمصلحته الخاصة وكثيرا ما نجد الوسيط بين الطرفين. وكما أن هناك تسعيرة لكل داعرة تتفق ومستوى الجمال والأداء والثقافة وغيرها من المقومات، أيضا هناك تسعيرة في عالم الدعارة السياسية تتفق ومستوى أداء الداعر السياسي الذي يبيع شرفه، فقد نجد داعرا بدرجة مدير أو من هو أقل ليصل لمستوى داعر يهتف في موكب الوزير أو داعر أعلى بكثير من درجة المدير. إننا نعيش الآن ظاهرة "الدعارة السياسية في زمن العولمة" التي صارت تلون الكثير من ممارساتنا السياسية في عالمنا العربي.
تجيد إسرائيل اللعب على وتر المصالح الشخصية لدى قادة التنظيمات العربية ودائما ما تكشف عن لعبة المصالح هذه؛ لتسقط هذه القيادات لدى الشعوب العربية ولتحولهم من ممارسين للدعارة السياسية في الخفاء إلى متبجحين في العلن. تعرف إسرائيل جيدا كيف تستغل الغباء العربي وانشغال تلك القيادات في تحقيق مصالحها الشخصية لتحقق هي مصالحها الأيديولوجية، فكما فعلت في حربها مع المقاومة في جنوب لبنان واستثمرت الخلاف بين القوى الوطنية ومحاولتهم تقويض حزب الله، حققت إسرائيل ما تريد فكان البند الثامن من القرار 1701 بجعل المنطقة الواقعة بين ما يسمى الخط الأزرق ونهر الليطاني منزوعة من سلاح المقاومة، كما أدخلت القوات الدولية فيها للتفتيش على هذا السلاح.
لا أظن أن المفاوض اللبناني كان مجبراً على الموافقة على هذا البند إلا أنه حقق له مصلحة خاصة في صراعه مع قوة حزب الله، فخرجت إسرائيل وقد حققت مكسباً كبيراً ما كان لها أن تحققه لولا الخلاف بين القوى اللبنانية الذي كشف عن نفسه بشكل سافر بعد انتهاء الحرب. والآن نعيش الموقف نفسه في غزة فالخوف من أن يتفق الجميع في صراعهم مع حماس على أن يبيعوا حماس وأهالي غزة لإسرائيل ظناً منهم أنهم بذلك سيقضون علي حماس، والواقع أنهم لن يقضوا سوى على القوة الضاربة لهم.
وقد بدأ يظهر بوادر ذلك في الأفق فيما صرح به بوش بأن حماس مسئولة عن محرقة غزة ولا سلام بدون آلية مراقبة تمنع الأسلحة عن القطاع. كما نشر في بعض وسائل الإعلام عن اتفاق مصر والولايات المتحدة على القيام بعمل مشترك تقوم فيها القوات المصرية باستخدام التقنية الأمريكية بمسح الحدود مع غزة لاكتشاف الأنفاق التي يتم تهريب السلاح عبرها. لو حدث وصدر قرار من الأمم المتحدة أشبه بالبند الثامن من القرار1701 فسيكون ذلك أكبر ضربة للقضية الفلسطينية لتحقيق أجندة خاصة للقوى المتصارعة للقضاء على حماس.
في النهاية هل يمكن لهؤلاء البسطاء أن يفيقوا من سباتهم ليدركوا حقيقة الأمر ويتوقفوا عن كونهم مجرد أداة لتحقيق مصالح الآخرين الشخصية؟ هل يمكن لهؤلاء البسطاء أن يجدوا في أنفسهم ما يرتكنوا عليه ويقدرون به ذواتهم وبالتأكيد أن لديهم الكثير والكثير بدلاً من الدخول في أزمة وجود سيخرج منها الجميع خاسراً؟ هل يمكن لهؤلاء البسطاء أن يلفظوا أمثال هؤلاء القادة الذين لا يسعون لمصلحة فلسطين وإنما يتطلعون دائما لمصالحهم الشخصية؟ هل يمكن لهؤلاء القادة أن يتقوا الله في أوطانهم وشعوبهم مرة واحدة ويكفوا عن ممارسة الفحش السياسي؟