إذن.. هذه هي غزة..
هذه هي شوارعها.. وحاراتها.. وأحياؤها.. ومبانيها..
هذه هي سماؤها..
هذا هو شجرها.. وحجرها.. وترابها..
شبابها.. وشيوخها.. وأطفالها.. ونساؤها..
هذه هي غزة..
صداع الصهاينة.. واختلاف الحكام.. وعجز الشعوب..
هذه هي غزة..
التي استعصت على التدجين..
منذ أن حَلُم (رابين) بإغراقها في البحر ذات كآبة..
إلى أن خرج (شارون) منها مهزوماً ذات انكسار..
لم يتغير شيء..
ما زالت غزة أكبر مسرح واقعي لعرض مآسي المظلومين والبؤساء والراقدين تحت التراب... والصامدين أيضاً.. لأكثر من ملياري إنسان من سكان المعمورة الذين لا يملك أكثرهم غير الشجب والإدانة والمظاهرات.. بينما دماء أبطال المسرحية تسيل من خشبة المسرح صباح مساء لتصل إلى أقدام المتفرجين الذين يمسك بعضهم (المناديل) لمسح دموع العجز والذل.. بينما البعض الآخر يمسك (المناديل) أيضاً لإخفاء نظرات الشماتة والبهجة والفرح حتى لا يراها أصحاب الدموع العاجزة الذليلة..
وكأنهم في مسرح روماني قديم أطلق فيه امبراطور الديمقراطية وحوشاً كاسرة لتمزق أجساد أسرى حرب بائسين لا يملكون في أيديهم غير حجر سرعان ما يتفتت بين أنياب الوحوش ..
يا الله..
هنا منذ أسبوع كانت الدبابات والطائرات والزوارق الإسرائيلية تدك البيوت والمساجد والمباني والشوارع والشجر والحجر والرجال والنساء والأطفال..
هنا منذ أسبوع أُلقي مليون ونصف طن من المتفجرات (بمعدل طن لكل مواطن) أي أكثر مما ألقى هتلر النازي على لندن في أربع سنوات..
هنا منذ أسبوع مُحيت من الوجود عائلات بأكملها..
هنا منذ أسبوع صُفَّ المدنيون على الحوائط وأطلقت عليهم النيران..
هنا منذ أسبوع ركض أبٌ إلى داخل بيته المهدم ليتفقد أسرته فعثر برأس طفلته ليقع على أشلاء طفله..
هنا منذ أسبوع هرول طبيب في المستشفى لينقذ جريحاً جاءت به سيارة الإسعاف وعندما كشف الغطاء عن الجريح وجد جثة بلا رأس فبحث في الأشلاء عن الرأس لتطالعه رأس ابنته..
هنا منذ أسبوع..
هنا منذ أسبوع..
هنا منذ أسبوع..
هنا منذ أسبوع.. رأى الغزاويون الملك عارياً..
سقطت أوراق التوت الممزقة أصلاً عن عورات أصحاب الدعاوى العريضة..
أدرك الغزاويون كما لم يدركوا من قبل أنهم بمفردهم.. بين السيف والجدار.. ولا مفر..
أحرق كل واحد منهم سفن الأمل في أمة لا تملك إلا الشجب والاستنكار.. والدعاء العاجز..
ليتجسد فيهم جميعاً (طارق بن زياد) الذي قال لجيشه: البحر وراءكم والعدو أمامكم..
إذن هذه هي غزة..
دخلنا من المعبر إليها..
كانت زيارة خاطفة.. خطفت قلوبنا قبل عقولنا..
أصرت السلطات المصرية على أن نوقع إقراراً بمسؤوليتنا الكاملة عن سلامتنا الشخصية.. مع وجوب العودة قبل يوم 5 فبراير 2009..
كانت الزيارة تحت مظلة (اتحاد الأطباء النفسيين العرب) الذي يترأسه الأستاذ الدكتور (أحمد عكاشة) والذي بادر بإنشاء شعبة طب نفسي للطوارئ والكوارث وأسندت رئاستها للدكتور (وائل أبو هندي) أستاذ الطب النفسي في جامعة الزقازيق.
هذه الزيارة كانت استطلاعية في مجملها.. أو هي هكذا في الأساس.. فما الذي يمكن أن يملكه الطبيب النفسي الزائر لغزة غير الاستطلاع وتقييم الأوضاع النفسية لأهل غزة على أرض الواقع، وتحديد الاحتياجات النفسية لهم بعد العدوان..
لقد كنا نعلم أننا في طريقنا إلى مدينة منكوبة أُلقي على كل كيلو مترمربع فيها ثلاثة آلاف كيلو من المتفجرات من الجو فقط.. وتعرض أكثر من أربعة عشر ألف منزل، وثمانية وستون مبنى حكوميا، وواحد وثلاثون مبنى لمؤسسات أهلية للقصف المباشر.. وأن الأنقاض فيها أكثر من 600 ألف طن من الركام.. والشهداء 1440 شهيد.. والجرحى 5380 جريح..
عندما تخطينا معبر (رفح) إلى الأراضي الفلسطينية قوبلنا بحفاوة بالغة من الإخوة المسؤولين عن استقبال الوفود وكأن شيئاً لم يحدث..
كان غريباً أن يصر الغزاويون على أن يوضع كل شيء في مكانه، وأن تسير الأمور على منوالها.. فهم قد تعودوا على الكوارث.. أو على الأصح.. تعايشوا مع كوارثهم..
الحياة لا ينبغي أن تتوقف أبداً.. والأمن لابد له من رجال لحفظه.. والوفود لا بد من استقبالهم.. بل.. وإحسان استقبالهم أيضاً..
الجميع في أعمالهم من أول يوم.. ولم تمنعهم مشاعرهم.. أو الخوف.. أو القصف المتكرر من الخروج للعمل والتعامل مع الواقع اليومي.
لم نسمع عن حادث سرقة واحد، أو اعتداء من أحد المواطنين على أحد المواطنين، ولم يقع هرج أو مرج مدني بين صفوف الشعب كما يقع مثله في مدن الدول العظمى أوقات الكوارث.. كل شيء يسير على طبيعته، بل ربما زاد التضامن والتكافل الاجتماعي في غزة أضعافاً مضاعفة لإحساس الناس أن المصيبة عامة..
وكان من حسن حظي أنني وجدت بين المستقبلين أحد رجال المقاومة ـ رغم أن جميعهم مقاومة ـ بادرت إليه فسلمت عليه وقبلت رأسه.. ولو لم يكن من بركات هذه الزيارة عليّ إلا تقبيل رأس أحد الرجال الرجال لكفاني ذلك..
ويتبع >>>>>: هنا غزة... من يحتاج من؟
اقرأ أيضاً:
غزة من الداخل والخارج / التقرير العربي النفسي الأول عن غزة / حكايات من غزة