ربما يكون السفر إلى غزة رحلة تبدأ من أمام دار الحكمة بالقاهرة في السادسة من صباح أي يوم يتم الاتفاق عليه لكنها بالنسبة لي بدأت من لحظة استلامي لجواز سفري في السفارة اللبنانية بالزمالك..... فاجأني صباح الجمعة 30 يناير 2009 بعدما أكملت الإعداد لسفر فريق رقم 1 لشعبة طب نفسي الطوارئ والكوارث باتحاد الأطباء النفسانيين العرب أن جواز سفري ليس موجودا معي وتذكرت أن أحدهم أخذه مني منذ مدة ووعد بإعادته بعد استخراج تأشيرة زيارة لبنان خلال عشرة أيام ... نسيت أنا الموضوع على مدى شهر لأكتشف وأنا أجهز حاجيات السفر إلى غزة أن الجواز ليس معي!
وهكذا بدأت جولة من الكرب الشديد والقلق... السفر صباح الأحد مبكرا واليوم هو الجمعة ولا أدري مكان الجواز الآن هل هو مع المندوب الذي أخذه مني في عيادتي أم هو في مكتب السياحة أم في السفارة؟؟؟..... وبعد بحث عن أرقام الهواتف واتصالات متكررة... شاء الله لي ألا أتسلم الجواز دون تأشيرة للبنان قبل التاسعة من صباح الأحد نفس يوم السفر وهذا في ذاته فضل من الله كبير فبينما لا يتواجد الموظفون قبل التاسعة والنصف صباحا... قيض الله لي الأستاذ علي –الذي لم أتبين موقعه في السفارة وإن بدا أكبر من فيها أو على الأقل هو الشخص الثاني ذلك أن المكان الوحيد داخل حرم السفارة الذي يسمح بإيقاف سيارة كان مخصصا لسيارته... هذا الأستاذ علي لسبب يعلمه الله دخل السفارة في الثامنة و35 دقيقة صباح الأحد وسلمني جوازي بعد أربعة دقائق....... وهكذا أخذت الجواز وطرت بأقصى ما يمكنني من سرعة وأتمنى ألا يكون الرادار يراقب الإنترنت.... لكنني لم يكن لدي بدٌ من اللحاق بالوفد الذي تحرك فعليا من أمام دار الحكمة في السابعة صباح الأحد.. وكان من المفزع لي وأنا رئيس الشعبة ورئيس الوفد أن يتصل بي رئيس الاتحاد أ.د.أحمد عكاشة ليطمئن علينا في الطريق فأقول له أنا في الطريق إليهم!... الحمد لله الذي استجاب دعائي ويسر لي اللحاق بهم بعد عبور القنال والدخول إلى سيناء بعدة كيلومترات! وقبل أن يتصل الرئيس.
في الصباح وأنا أرافق أعضاء الوفد وهم يستقلون السيارة التي ستأخذهم إلى المعبر وأوصيهم بأن يعملوا على تأخير السيارة قدر استطاعتهم حتى أتمكن من اللحاق بهم.... لكن كانت في انتظارنا مفاجأة غير سارة حيث نبهنا الزملاء في اتحاد الأطباء العرب إلى أن الزميل أستاذ عبد الرحيم الريفي لن يتمكن من السفر هذه المرة لأن جواز سفره ليس فيه الخاتم البيضاوي الذي يفيد بأنه غير مطلوب للتجنيد.... –وأنا بصراحة لا أعرف الآن سببا لتجنيد الشباب المصري أو على الأقل أرى أن سلطة هذا التجنيد على الناس ليس لها مبرر- إذن نقص من مجموعتنا أخصائي نفسي قدير لا أنسى أنه كان الوحيد المستعد للسفر يوم الاثنين 26 يناير وقد أبلغ به يوم السبت 24... ثم قررنا أن نتريث حتى يكتمل الوفد فكان أن تقرر السفر بعد ستة أيام، لكن استعداد عبد الرحيم وجاهزيته الفائقة كانت لافتة... وأسأل الله أن ييسر له الخاتم البيضاوي... وأن يمكننا من تعويض غيابه عن وفدنا.... كل هذا كان يدور في رأسي وأنا أسابق الهواء طائرا في اللحاق بالوفد.
بدأنا الرحلة إذن وكان مما المهم أن نعتاد المفاجآت وغياب أي معلومات عن من سيسمح له بالدخول ومن سيرفض منحه فرصة الدخول إلى غزة.. فقد يرفض وفد اتحاد الأطباء العرب كله وقد يسمح للبعض بينما يمنع البعض وليست هناك أي معايير ثابتة... ولا أحد يعرف حتى من يقرر السماح بالدخول من عدمه؟؟
أخيرا وصلنا رفح وأعطينا صور جوازات السفر للدكتور إبراهيم خالد مندوب اتحاد الأطباء العرب، ووقفنا ننتظر... كانت القافلة تضم 19 فردا بينهم خمسة من العاملين في مجال الصحة النفسية الاجتماعية.... والخامس هو الطبيب النفسي وليد وصفي والذي فاجأني وجوده في الوفد وكأنما يعوضنا الله عن غياب الأستاذ عبد الرحيم الريفي.... على المعبر شاهدنا كثيرا مما يخجلنا كمصريين ولا أود الاستفاضة فيه لكنني لم أر في حياتي حاجز تفتيش يفتش فيه كل شيء بهذه الطريقة ولكي تتصوروا فإن شاحنة مملوءة بكراتين الدواء على سبيل المثال لا يترك كرتون واحد فيها دون أن يفتح بالسكين للتأكد من محتوياته............ وحين سألت العسكري الواقف بالبوابة لماذا كل هذا قال لي بصوتٍ خفيض كمن يخبرني بسر خطير: إسرائيل تراقب كل شيء!
على المعبر قابلنا وفد الأطباء الأردنيين العائدين وقابلنا أحمد منصور مذيع قناة الجزيرة المشهور وهو ممنوع مثلنا من دخول غزة، وقابلنا كذلك المطرب تامر حسني وقد صحب معه سيارة معبأة بالأدوية والحقيقة أنه سبقنا بالدخول –فنان مشهور طبعا ليس أستاذ جامعة أو طبيب أو عضو برلمان منتخب!! فهؤلاء يتركون ساعات وكثيرا يمنعون من العبور- ولم يزعجنا مرور تامر حسني لأننا نراه مهما لدعم إخواننا في غزة، ولأن تامر حسني كان أول الفنانين الذين كان لهم دور في دعم غزة..... توضأنا بماء قليل وتيمم بعضنا وصلينا الظهر والعصر جمعا وقصرا.... وبعد الصلاة بقليل اكتشفت أ.نانسي نبيل أن نظارتها التي كانت تلبسها لأول مرة قد اختفت... هي كانت متأكدة أنها نسيتها وهي تتوضأ على الحوض وكنا كلنا نقول لها ابحثي جيدا في حقيبتك.. ولكن أكدت د. نغم رفيقتها أنها فعلا رأتها تضعها على الحوض...
وقف ابن عبد الله يحادث اثنين من أعضاء منظمة أجنبية غير حكومية تهتم بحقوق الإنسان.. وسمعت أنا جزءًا من حوار عسكري الأمن المصري وهو يحكي عن معاناته هو وزملاؤه على هذا المعبر ويصف ما يتعرضون له من خوف بسبب القصف القريب منهم... كاد الخجل يقتلني من حديثه وطريقته في الوصف فقلت له إذن فأهل غزة شجعان وليست لديهم أسلحة وليس موطأ قدم في غزة آمن من القصف بينما أنتم في مأمن... فهل ما نالك من الأذى هو ما كنت تشاهده من قصف على الناحية الفلسطينية؟ فأجابني وقد بدا عليه التأثر: ليس فقط ما نرى ولكن أيضا تهتز المباني هنا من شدة القصف!.... أجبته كان الله في عون أهل غزة فأجاب: كله من حماس ! قلت له حماس منتصرة في الحرب ومنتخبة في الانتخابات فقال لي: بعد قليل ستدخل يا دكتور وترى حماس هذه وكيف يفعلون بالناس، سألته ماذا يفعلون يا ترى؟ فقال لي الناس كلهم في غزة يكرهونهم وهم يحكمون بالحديد والنار! قلت له كيف عرفت هذا؟ فقال من زملائي فقلت له إن شاء الله أجدك في مكانك عند عودتي وأخبرك بما رأيت!
بعد حوالي 5 ساعات ونصف من وصولنا المعبر خرج الدكتور إبراهيم خالد ليزف البشرى بالموافقة على عبور الجميع إلى غزة ولم ينقص منا أحد طبعا باستثناء أ. عبد الرحيم الريفي الذي لم يرافقنا إلى رفح أصلا.... فدعوت له أن ييسر له الخاتم البيضاوي.... سحب أو حمل كل من أعضاء الوفد حقائبه وانطلقنا عبر البوابة السوداء من جهة مصر وكلنا يحمد الله وبعضنا غير مصدق أنه على وشك أن يطأ التراب الفلسطيني العزيز... كنا قبل السماح لنا بدخول هذه البوابة قد طلب من كل واحد منا صورة فوتوغرافية من أول أربع صفحات من جواز السفر وقد كتب عليها أنه يريد دخول قطاع غزة على مسئوليته الشخصية.... أي أن الحكومة تبلغنا أننا نعبر إلى مكان خطر علينا أن نتواجد فيه وأن الحكومة المصرية غير مسئولة عنا –وكأنها تستطيع لو أرادت!- وكنا نظن هذا يكفي... لكننا فوجئنا بأنهم أعادوا لنا صور الجوازات وطلبوا أن يضيف كل منا عبارة: أتعهد بأن أغادر القطاع عائدا إلى مصر قبل يوم 5 فبراير 2009 .... أسقط في يدي وأعضاء وفد الصحة النفسية كلهم كنا ننوي البقاء أسبوعا ليلحق بنا وفد آخر.. ونعرف أن بقاءنا أسبوعا لا يكفي لتنفيذ المهمة فما بالكم بثلاثة أيام! بالتالي يكون موعد الدخول الأحد مساء بعدما ضيعت إجراءات العبور أكثر من نصف اليوم... ثم ماذا؟ متى سنخرج يا دكتور إبراهيم؟ سألته فأجاب إن شاء الله يوم الخميس 5 فبراير!.... قلنا اللهم بارك لنا في وقتنا.
ويتبع >>>>>: نعم غزة: رائحة وطعم مختلف
اقرأ أيضاً:
غزة من الداخل والخارج/ التقرير العربي النفسي الأول عن غزة/ هل هكذا فقط يكون الرد؟/ غزة تدخل التاريخ من حيث يخرجون/ حماس الآن أولى بالدعم نعم حماس