نعم غزة: الوقوف على معبر رفح
بعد أذان المغرب بدقائق كنا نعبر البوابة السوداء على الجهة الأخرى من الحدود.... هذا هو هواء فلسطين إذن ولم نلمس أرضها بعد فهذه أرض الحافلة التي تنقلنا من مصر.... وبعد دقيقتين وقفت الحافلة ونزلنا لمبنى الاستقبال في غزة... كان الجو العام مختلفا رائحة طيبة تفوح ونشمها جميعا... وجوه باسمة وجباه مرفوعة.... يجمعون وثائق السفر وكلهم مبتسمون ويقولون تفضلوا انتظروا هنا وتقبلوا التحية، وجلسنا في صالة كصالات انتظار المطار معدة لهذا الغرض وكانوا كأنهم يقولون لك نعتذر عن طول وقوفكم أمام المعبر في مصر ثم يقدمون لك مشروبا... وبعدها يمرون عليك بالتمر والقهوة العربية.... قمت لأبحث عن دورة المياه لأتوضأ فوجدت الباب مغلقا... سألت أحد الموظفين فاعتذر لي وقال: مصدر المياه الوحيد الذي لم يتسبب القصف في تعطيله موجود بالطابق الأعلى تفضل معي... وخرجنا إلى الحديقة الصغيرة أمام المبنى لنصعد إلى الطابق العلوي وهناك توضأت... ثم نزلت إلى حيث المجموعة تنتظر ووجدت في أقصى الصالة مكانا للصلاة فجمعت المغرب والعشاء تقديما قصرا... وحمدت الله كثيرا وسألته الصلاة في بيت المقدس.
واضح أننا في غزة سنتعامل مع صنف استثنائي من البشر صنف يصر على الحياة في ظروف لم يعتدها الصنف الشائع من البشر في كل الكرة الأرضية... استقبال للوفود رغم كل ما حدث! والوجوه هادئة مبتسمة مطمئنة مستبشرة إنها لا توصف بحق... حتى نبرة الصوت مختلفة!.....، جاشت مشاعري وكدت أبكي مصر لكنني هدأت نفسي بفكرة ألا أتعجل الاستنتاجات فلعل للأوضاع وجها آخر.
سلمونا جوازات السفر وصعدنا إلى الحافلة التي ستنقلنا إلى غزة كان من الواضح أنها حافلة قديمة ولست متأكد من سلامة زجاج نوافذها كله خاصة وأن الظلام كان قد حل.... لم يكن الطقس باردا مثلما كنا نتوقع وقد صحبنا في الحافلة أحد مسئولي استقبال الوفود وكان فتى يافعا ظاهر الصلاح بشوش الوجه أخذ يروي لنا بعضا من جوانب المأساة، وبعض حكايات المجاهدين، وكان أحيانا يشير إلى بعض المواقع التي لم يمكننا الظلام من رؤيتها جيدا... كان من أهم ما وقر في نفسي انطباعٌ بأن فرط الأدب والإخلاص سمة مميزة لكل من قابلت من أهل غزة حتى تلك اللحظة........ وأخيرا وصلنا إلى مستشفى دار الشفاء في غزة وهو المستشفى المركزي الكبير في القطاع.... تركنا أغراضنا وحقائبنا في الحافلة ونزلنا ليستقبلنا مدير المستشفى د. محمد الكاشف ود. عايش سمور مدير عام الصحة النفسية..... واتفقنا على اللقاء في نفس المكان في الصباح.
إقامتنا كانت في مستشفى دار الشفاء اشتركنا في غرفة فيها أربعة أسرة وكنا أربعة أطباء نفسانيين كانت الغرف هي سكن الأطباء الملحق بالمستشفى وسكن بقية أعضاء الوفد في قسم جراحة القلب والصدر... ولم نكن نعرف حين اخترنا كأعضاء القسم النفسي غرفة منفصلة في مكان آخر أن في قسم القلب والصدر الذي سكنه باقي أعضاء الوفد الطبي يوجد خط إنترنت.... حظوظ لكن ما علينا... لم يكن عندنا وقت أصلا للإنترنت... تعشينا وتأكد لدي الانطباع الأول الأشياء طعمها مختلف رغم أن بعض المواد الغذائية قادم من مصر لا سيما العصائر والبسكويت إلا أنك تشعر بالبركة التي نفتقدها في كل ما نأكل في مصر المحروسة بصراحة شديدة لم نأكل طول النهار اللهم إلا بعض تمرات على المعبر... ورغم ذلك كان ساندويتش دجاج واحد كافيا لإشعاري بالشبع سبحان الله هذه بركة من الله يمنحها إذن للمحاصرين!
حقيقة كان كل واحد منا يحمل معه بعض المأكولات المعلبة وبعض مشروباته كالشاي والقهوة وأدوات إعدادها الكهربية وبعضنا قال أنه كان ينوي إحضار سرير محمول معه وفاجأه أن الأمر ليس بكل السوء الذي تصوره.. النتيجة أننا لم نأكل شيئا مما حملناه معنا لكننا تركناه في المستشفى قبل سفرنا... وأما أكثر ما كان مدهشا لنا فهو تركيبة الإنسان في غزة فقد لاحظنا ملاحظة سبقت لنا ملاحظتها في لبنان وهي ارتفاع المستوى الثقافي والآدمي حتى لأبسط الناس كعامل المستشفى مثلا أو سائق السيارة الميكروباص أو حتى الطفل الذي يتجول في طرقات المستشفى حاملا مرة براد شاي بالمرمرية ومرة قهوة عربية لتشرب مقابل جنيه مصري أو شيكل أو ما لديك من عملة... كل هذه النماذج يصدمك أن تعرف أنهم بحديثهم وسلوكهم أرقى مرات عديدة من خريجي جامعاتنا... طبعا دون تعميم لكن لابد إحقاقا للحق من أن نبين ارتفاع المستوى الإنساني والثقافي عند كل من تعاملنا معهم في القطاع مقارنة بمن نعرفهم في مصر وتمنيت كثيرا أن تصيبنا العدوى فننقلها للمصريين خاصة.
في الصباح وجدت نفسي مستيقظا في السادسة والنصف صباحا وقد منحني الله نشاطا لم أكن أتوقعه خاصة وأنا في الأسبوع الثاني من الإقلاع عن التدخين... الحمد لله الذي أسأله أن يمكنني من مواصلة الامتناع... وأن تزيدني صلابة غزة تماسكا وصلابة... لكنني لا أستطيع ادعاء أن وظائفي المعرفية تعمل بكل طاقتها وأظن أنني سأحتاج وقتا للوصول إلى ذلك.... بالتالي كنت أستشعر تلك الغمامة الفكرية التي يعرفها الممتنعون عن التدخين ربما لشهور.... فيشعرون بأن طاقاتهم الذهنية ليست بكامل عافيتها وأسأل الله أن يقصر من بقاء هذه الغمامة التي كثيرا ما تجعلني صامتا.
حين حملت ملابسي وخرجت لأغيرها وكانت دورة المياه على بعد غرفتين لفت انتباهي وجود أعداد كبيرة -معظم الغرف في سكن الأطباء- من الإندونيسيين... وحين سألت عرفت أن بعضهم مسعفون دخلوا غزة منذ أيام القصف وبقوا فيها.. وشعرت عندئذ بعظمة الإسلام الذي جمع كل هؤلاء من أقصى بقاع الرقعة الإسلامية على الأرض فعلا غزة تستحق أكثر من هذا...
أشغل ما كان يشغلني وأنا أعيش أجواء النصر المؤلم في غزة كان هو السؤال هذا النصر كيف نستثمره؟ هذا النصر الإنساني النفسي المعنوي الذي لا تجد له مثيلا في غير غزة ولبنان... وإن كنت أرى الحالة الفلسطينية أشد بسبب الحصار الخانق والانقسام بين فتح وحماس... رغم كل ذلك فإن كل شيء في غزة كان يقول أن ما يجمعنا أكبر بكثير مما يفرقنا... وفيما عدا الحكايات عن المستنكفين (موظفو السلطة التابعين لفتح) فبعضهم ما يزال يرفض العمل... فيما عدا هذا لا تجد ما يشير إلى انقسام الناس في غزة...... ويبقى السؤال المهم كيف نستثمر هذا النصر؟؟
ويتبع >>>>>: نعم غزة: الزيتون والغذاء مع الوزير
اقرأ أيضاً:
غزة من الداخل والخارج/ التقرير العربي النفسي الأول عن غزة/ هل هكذا فقط يكون الرد؟/ غزة تدخل التاريخ من حيث يخرجون/ حماس الآن أولى بالدعم نعم حماس