نعم غزة: الزيتون والغذاء مع الوزير
كانت السهرة هي زيارة الحاجة "أم نضال".. خنساء فلسطين المرأة التي قدمت ثلاثا من أولادها شهداء أحدهم وضعت له الحزام الملغم بنفسها... كانت في حقيقة الأمر نموذجا رائعا للجهاد..... وبينما كان الجمع يلتطقون الصور الفوتوغرافية مع هذه السيدة الرمز.... سرحت أنا بأفكاري فتذكرت الحاجة زينب في بيروت والتي لم أحظ بلقائها وبدأت أتخيل أوجه الشبه كيف سيكون مجلس الحاجة زينب في بيروت مختلفا عن منزل أم نضال في غزة؟ ولأي شيء يرمز هذا.. هناك الحاجة في كل عاصمة مقاومة عربية....... وحكت لنا أم نضال بعضا من حكايات المجاهدين في غزة وما رأوه من كرامات..... ونبهونا بشكل مستتر إلى أن وفدا آخر من الضيوف ينتظرون خارج المنزل...
قمنا بعد ذلك لتأخذنا حافلتان صغيرتان إلى مكان للعشاء... من غير الممكن كل هذه الحفاوة والكرم.. يا لها الأنفاق من نعمة لا سدها الله أبدا بيننا وبين أهلنا المرابطين..... وأما الغريب فهو الطعم المختلف للأغذية والمشروبات رغم كون بعضها قادما من مصر ضمن الأنفاق ربما هي البركة المنزوعة من البضائع في مصر يردها الله هنا في غزة.... أصبحنا على اقتناع بأن فك الحصار مطلوب ليس لإنقاذ أهل غزة من الجوع فالأنفاق كافية...... وإنما فك الحصار مطلوب لإنقاذ الآخرين من عدم التواصل مع غزة... محتاجون نحن لدعم هؤلاء مثلما هم محتاجون لدعمنا لكننا فقط نحتاجهم أكثر.
في صباح اليوم الثالث لنا في غزة استيقظت أيضًا مبكرا اليوم سنزور أولا منطقة الزيتون لنجالس من وعدناه أو وعدنا أهله من الضحايا المحتاجين لمناظرة مختصين كما رأينا أو كما أبلغنا بعض أهل منطقة الزيتون الذين قابلناهم بالأمس وبالفعل قابلت سماح السمُّوني وهي طالبة بالثانوية العامة ملامحها ذكية... أثناء القصف والتوغل قتل أهلها أمامها... وأخبرني الزميل إحسان عفيفي أنه يريدني أن أقنعها بالذهاب إلى المدرسة لأنها ممتنعة عن الذهاب.... عرفتها بنفسي وسألتها وحكت لي وبدت في أواخر مرحلة عدم تصديق ما حدث واشتكت من أحلام تتكرر عليها في الليل فيها تكرار لما حدث وفيها.... وفيها... ورغم كل ذلك كانت تعطيك الإحساس بأنها تحكي عن شخص آخر... تعطيك الإحساس أنها تتكلم عن مشاعر آخرين.. لماذا تغيبين عن المدرسة سألتها؟
خلاص أمي ماتت دكتور وما معنا إلا زوجة أخي الشهيد من يدير شئون البيت؟ قلت لها أين هو البيت فأشارت إلى الركام المحيط بنا وقالت كان هنا... قلت لها المدرسة بفضل الله ما تزال قائمة رغم بعض الضرر الأكيد الذي تعرض له كل شبر في غزة... ضاع البيت والأهل والمدرسة جهاد يا سماح... قالت: أدرك يا دكتور ولكن مخاوفي تغلبني وأحزاني تعييني..
قلت لها رغم كل شيء علينا أن نفعل ما ينبغي فعله ما دمنا نستطيع... ثم أنني عرفت من الأستاذ إحسان أن مديرة المدرسة وكل الطالبات يطالبن بأن تعودي للمدرسة وأنت ترفضين.. قالت غدا أذهب.. قلت لها وكل يوم إن شاء الله ولكن عليك دائما إن تسارعي لطلب العون إذا شعرت بالحاجة إليه وأخذت منها رقم محمول إذا اتصلت عليه أعرف أين هي أو ترد علي بنفسها..... ذهبت لمعاينة حالة أخرى وكانت الأم بحاجة إلى طبيب عظام والابنة الصغيرة بحاجة إلى جراح مخ وأعصاب والأهل يحسبون أنه أي طبيب.... وأوصيت رفيقي أ. إحسان أن يتابع موضوعه... ومشينا فوق أشجار البرتقال المجرفة وقال أحدهم هنا كانت مزرعتي وكم كنت أعتني بها.... وفي تلك الأثناء كنت أتحرك مع الزميل إحسان العفيفي بينما كان د. أحمد عبد الله ود. وليد وصفي وأ. نانسي نبيل يزورون حضانة "مخيم التوحيد" أو مخيم حضانة التوحيد والتي دمرها جنود الاحتلال....
خرجنا بعد ذلك لنقابل الأستاذ عماد الحديدي مسئول الإرشاد والتوجيه بوزارة التربية والتعليم ورأينا مبنى وزارة العدل المهدم بالكامل.... لا نستطيع أبدًا أن تتخيل منظر ركام مبنى وزارة العدل "المدكوك دكا"... لم أجد جوا مناسبا لأسأل هل وزارة العدل هدف مشروع للقصف؟ ثم وجدت أن التفكير في شرعية الأهداف التي تقصفها إسرائيل في غزة السؤال أصلا غباء!..... وعندما دخلنا مبنى وزارة التعليم المجاور عايننا آثار تدمير وزارة العدل على مبنى وزارة التعليم نفسها... فحلوق الأبواب الخشبية مخلخلة أو مخلوعة وكثير من الزجاج تطاير.....
قال لنا عماد الحديدي أنهم قبل استئناف الدراسة في القطاع قرروا أن يكون الأسبوع الأول في كل المدارس في القطاع أسبوع التفريغ النفسي.... شعرت بالإعجاب والزهو والحمد لله الذي وفقهم لذلك..... سألته عن أعداد الأخصائيين والأخصائيات من النفسانيين والاجتماعيين وتوزعهم على المدارس فقال لي الحمد لله... إذا كنت تقصد المُسْتنكفين فحقيقة سببوا لنا مشكلات... ولكن تعاقدنا مع بعض الأخوة والأخوات المتخصصين في العمل النفسي الاجتماعي وتعاقدنا معهم.. وبعض المستنكفين رجعوا للعمل معنا... والله يوفقنا..... نقوم نطلع لمقابلة وكيل الوزارة.
قابلنا بعد ذلك وكيل وزارة التربية والتعليم وأطلعنا على حجم الضرر الذي لحق بمباني ومعدات الوزارة، ونبهنا إلى عدد من الحقائق التي قد لا يدركها الناظر في الدمار حين يرى مثلا مدرسة قصف فقط جزء منها أو تركت قائمة... فهناك من جنود الاحتلال من يستهدف مثلا دعامات مبنى المدرسة فيقوم بالضغط عليها واحدة واحدة بمعدته الثقيلة بحيث يصبح المبنى آيلا للسقوط... وهناك كذلك كم لا بأس به من الأجهزة التعليمية كأجهزة الكومبيوتر وماكينات التصوير والطابعات الإليكترونية وغيرها مما يبدو لك سليما لم يدمره القصف لكنك تكتشف أنه يعجز عن العمل بسبب الغبار الذي اخترق أجزاءه أثناء القصف... وهذا ما ينتبه له الفلسطينيون دائما أثناء تقدير خسائر القصف..... وفي وصفه للحال ذكرنا بأن كل هذا يأتي بعد حصار خانق طويل.
صلينا بعد ذلك الظهر والعصر جمعا تقديما قصرا.... وذهبنا لنزور مدرسة ابتدائية وكانت مدرسة القاهرة أ وهي إحدى المدارس التي بدت لنا نموذجية في غزة... وإن عرفنا بعد ذلك أن مستوى الانضباط في التعليم في غزة مختلف عنه في مصر المحروسة فرغم كل المعوقات تبدو الصورة أكثر احتراما ولا عزاء للمصريين... في هذه المدرسة قام د. وليد وأ. نانسي بتطبيق بعض المقاييس النفسية على فصلين من فصول المدرسة... وقمت أنا وابن عبد الله وزميلنا د. أحمد ضبيع بمعاينة عدد من الطالبات رشحتهن الأخصائية النفسية العاملة بالمدرسة وحكين لي أين كن أثناء أسابيع القصف وكيف كانت أفكارهن ومشاعرهن ولم أجد أكثر من ردود أفعال طبيعية حتى بدأت أتساءل بيني وبين نفسي عن عتبة اعتبار الأعراض مرضية من عدمه هل هي مختلفة في غزة؟ بمعنى آخر ما معنى أن ترشح الأخصائية النفسية عددا من البنات باعتبارهن يحتجن طبيبا نفسانيا... ثم يكون رأي الطبيب النفساني في أعراضهن أنها طبيعية؟ هل معنى ذلك أن أعراضا أراها أنا طبيعية مقارنة بما تعرضت له الطالبة يمكن أن تبدو نفس الأعراض مبالغا فيها ومرضية من وجهة نظر طبيب نفساني فلسطيني؟
خرجنا بعد ذلك لزيارة مركز غزة للصحة النفسية ومقابلة الدكتور إياد السراج ود. أبو طواحينة وبينما استعانت نانسي بالتجهيزات العاملة الموجودة والسكرتيرات الجاهزات فأكملت طباعة البطاقات الخاصة بالفريق النفسي والتي يفترض أن نعلقها وبالفعل قمنا بتعليقها بعد ذلك وربما استخدمت الإنترنت... وأما نحن فسمعنا حديثا طيبا وتحليلا شيقا لما يجري من أحداث بين فتح وحماس ومن كل طرف من الأطراف العربية... وطبعا لم يجرح أحد مصر احتراما لمشاعرنا ولكننا من مكتبه التقطنا خيطا مهما لتوحيد الجهود وتوحيد الصف بين القطاع النفسي في وزارة الصحة الفلسطينية وبين جمعية بحجم وإمكانات برنامج غزة للصحة النفسية والذي يرأسه إياد السراج.... كانت بالفعل زيارة فتحت أعيننا على تدخلات مهمة علينا القيام بها في اليوم المتبقي.
بعد ذلك أخذنا إحسان العفيفي أنا ودكتور وليد وأستاذة نانسي في جولة شمال غزة في منطقة العطاطرة حيث رأينا مزيدا من الدمار الوحشي وقنابل الفسفور ورأينا بيت الشهيدة شهد ذات العام ونصف العام ورأينا آثار القنبلة الفسفورية التي ألقيت على منزل عائلتها وقتل أبوها وبعض من أهلها وأصيبت أمها بحروق فسفورية.... ورأينا أكثر وأكثر من ذلك.... وأخذنا إحسان العفيفي إلى عشاء عمل تكلمنا فيه عن كثير مما كان ومما يجب أن يكون..... وخططنا لما سيكون في نهار اليوم الأخير هذه المرة لأعضاء وفدنا الأول في غزة.
وبقيت داخلنا مرارة لأننا مضطرون للرحيل غدا لنكون ملتزمين بما يقرره الاتحاد العام للأطباء العرب والذي يهدف بالذات إلى مراضاة سلطات المعبر كي لا تتأزم الأمور..... وليبق الثقب الذي فتحه اتحاد الأطباء العرب مفتوحا.... وكانت بداخلنا قناعة قوية بأن التزامنا بالرجوع إلى مصر قبل يوم الخامس من فبراير سيعني أن الوفد الثاني سيسمح له بدخول غزة وإكمال ما بدأنا.
ويتبع >>>>>: نعم غزة في عجلة كان الرحيل
اقرأ أيضاً:
غزة من الداخل والخارج/ التقرير العربي النفسي الأول عن غزة/ هل هكذا فقط يكون الرد؟/ غزة تدخل التاريخ من حيث يخرجون/ حماس الآن أولى بالدعم نعم حماس