مدرسة بيت لاهيا التابعة للأونروا حيث قتل الطفلان في هجوم المدفعية الإسرائيلية بالفوسفور الأبيض في 17 كانون الثاني/ يناير © منظمة العفو الدولية
1.2 إطلاق النار (على المدنيين) من مسافة قريبة
1.3.1 الفوسفور الأبيض
"كما لو أن النار مشتعلة في جسدي. إنه أكثر من قدرتي على التحمّل، وعلى الرغم من كل الدواء الذي يعطونه لي إلا أن الألم ما زال قوياً جداً".
سامية سلمان المنايعة (16 عاماً) تتحدث لمنظمة العفو الدولية على سرير في المستشفى بعد 10 أيام من سقوط قذيفة من الفوسفور الأبيض على منزلها في مخيم جباليا للاجئين، شمال قطاع غزة يوم 10 كانون الثاني/ يناير.
استخدمت القوات الإسرائيلية خلال عملية "الرصاص المسكوب" الفوسفور الأبيض بشكل واسع، وغالباً ما أطلق من قذائف مدفعية عيار 155 مم في المناطق السكنية مما تسبب في وفاة وإصابة المدنيين. بيوت، ومدارس، ومرافق طبية، ومبانٍ للأمم المتحدة- جميعها منشآت مدنية– استهدفت بضربات مباشرة.
الفوسفور الأبيض هو سلاح يهدف في المقام الأول للتمويه لتوفير غطاء لحركة الجيش في ساحة المعركة، وذلك باحتراقه مطلقاً دخان أبيض كثيف. أيضاً يمكن أن يستخدم لتحديد الأهداف، و"لتعقب" مسار الرصاص، وبوصفه سلاحاً حارقاً(41)، ويمكن نشره بفعل قذائف المدفعية، والقنابل اليدوية، والصواريخ.
لقد أطلقت القوات الإسرائيلية الفسفور الأبيض بتفجير قذائف مدفعية في سماء المناطق السكنية في قطاع غزة. تستخدم القذائف المدفعية -من هذا الطراز- عادة في ميادين القتال التقليدية، وهي ليست من النوع الدقيق في إصابة أهدافها. أطلقت قذائف المدفعية تلك في الهواء لتغطي مساحة أكبر عند انفجارها، فعندما تنفجر القذيفة في الجو تحرر 116 كتلة اسفنجة القوام مشبعة بالفوسفور الأبيض، وتشتعل متى ما تعرضت للأكسجين، ثم تهبط أرضاً لتغطي منطقة في حجم ملعب كرة القدم أو أوسع، وذلك اعتماداً على الارتفاع الذي تنفجر عليه وعلى حركة الرياح وسرعتها.
بالإضافة إلى الأثر العشوائي لتفجير سلاح من هذا النوع في الجو، فإن إطلاقه باستخدام القذائف المدفعية يفاقم من احتمال تعرض المدنيين للخطر. كانت قيادة الجيش الإسرائيلي قد أوقفت إطلاق قذائف المدفعية على قطاع غزة قبل عملية "الرصاص المسكوب" وبعد ذلك الحادث المروع الذي وقع في 8 تشرين الثاني 2006؛
28
حيث قتل 18 فرداً من عائلة واحدة في منازلهم عندما قصفت عدة منازل في بيت حانون بوابل من القذائف المدفعية، فيما بدا قصفاً بالخطأ(42).
(إسرائيل/غزة: عملية 'الرصاص المسكوب':22 يوماً من الموت والدمار، الوثيقة:MDE 15/015/2009 منظمة العفو الدولية يوليو 2009)
إن الفوسفور الأبيض مادة في غاية الخطورة بالنسبة للبشر، فهو يؤدي إلى حروق عميقة في العضل تصل العظام، ويستمر في الحرق حتى ينقطع إمداده بالأكسجين، كما يمكنه أن يلوث أجزاء الجسم الأخرى، أو حتى من يقوم بعلاج الإصابات، ويسبب تسمماً ويلحق أضراراً لا يمكن إصلاحها في الأعضاء الداخلية. من الجدير بالذكر أن ضحايا أنواع أخرى من الحروق ممن يغطي الحرق أجسامهم بنسبة صغيرة تتراوح ما بين 10% إلى 20% عادة ما ينجون ويتعافون، بيد أن ضحايا حروق الفسفور الأبيض يموتون عند هذه النسب.
صباح أبو حليمة في المستشفى تظهر الحروق العميقة على يدها © منظمة العفو الدولية
صباح أبو حليمة، أم لعشرة، أصيبت بجروح خطيرة وفقدت زوجها وأربعة من أولادها وزوجة ابنها نتيجة هجوم مدمر بقذائف مدفعية من الفوسفور الأبيض على منزل عائلتها.
بعد ظهر يوم 4 كانون الثاني/ يناير 2009، كانت صباح وعائلتها في منزلهم في منطقة السيافة شمالي غرب قطاع غزة، عندما سقطت ثلاث قذائف مدفعية من الفوسفور الأبيض مخترقة سقف منزلها. قالت صباح لمنظمة العفو الدولية: "اشتعلت النار في كل شيء؛ زوجي وأربعة من أولادي أحرقوا أحياء أمام عينيّ، طفلتي "شهد" ابنتي الوحيدة، ذابت بين ذراعي. كيف يمكن للأم أن ترى أطفالها يحترقون أحياء؟ لم أتمكن من إنقاذهم، لم أتمكن من مساعدتهم. كنت أحترق بالنار أنا أيضاً، وما تزال مشتعلة في كل جسدي، أقاسي الألم ليل نهار، أنا أعاني بشكل فظيع".
(إسرائيل/غزة: عملية 'الرصاص المسكوب':22 يوماً من الموت والدمار، الوثيقة: MDE 15/015/2009 منظمة العفو الدولية يوليو 2009)
29
عندما زار مندوبو منظمة العفو الدولية "صباح" في المستشفى آخر مرة بعد أربعة أسابيع من الهجوم، كانت ما تزال في حالة حرجة تعاني حروقاً عميقة. سعد الله مطر أبو حليمة، زوج صباح، وأربعة من أطفالهما- عبد الرّحيم (14 عاماً)، وزيد (11 عاماً)، وحمزة (10 أعوام)، وشهد (15 شهراً) - قتلوا جميعاً.
في 22 يناير 2009 ، عرض محمود، نجل صباح، في منزل العائلة لمندوبي منظمة العفو الدولية بقايا قذائف مدفعية من الفوسفور الأبيض عيار 155 مم، والتي انفجرت في الطابق الثاني (العلوي) من المنزل مخترقة السقف وملحقة به الدمار ومشعلة الحريق. أشار محمود إلى فتحة في سقف الردهة حيث لقي والده وأخوته مصرعهم قائلاً: "جاءت القذيفة من هناك عبر الفتحة، وانفجرت فقطعت رأس والدي وأشعلت النار في كل شيء". أكدّ محمود وشقيقه أحمد أن ثلاث قذائف سقطت خلال السقف إلى داخل المنزل.
في المنطقة المحيطة بالمنزل، وجدت منظمة العفو الدولية شظايا أخرى لقذائف مدفعية من الفوسفور الأبيض من عيار 155 مم، وأثاراً لحركة دبابات الجيش وأخاديد.(43) قالت أخوات صباح، دَيلات ونبيلة اللتان تقيمان في البيت المجاور، لمنظمة العفو الدولية أنهن بعد أن قصف منزل صباح هرعن إليه للمساعدة، لكنهن لم يستطعن إخماد النيران التي التهمت صباح والطفلة شهد: "لقد صببنا الماء عليهم لكن الحريق ظلَّ مشتعلاً". ثلاثة آخرون من أبناء صباح أبو حليمة، يوسف وعلي وعمر، أصيبوا أيضاً، كما أصيبت غادة، زوجة ابن صباح، وطفلتها فرح (عامين). غادة، التي عانت حروقاً في معظم أنحاء جسدها، توفيت متأثرة بجراحها في 29 آذار / مارس في مستشفى في مصر.
إن خطر الفوسفور الأبيض على السكان المدنيين لا يأتي فقط من خصائصه الحارقة، ولكن أيضاً من القذائف المدفعية التي تحمله، والتي تزداد خطورتها عندما تطلق بالأسلوب الذي اتبع خلال الهجوم على قطاع غزة؛ إطلاقها نحو السماء وانفجارها على ارتفاع كبير يبلغ آلاف الأقدام، وبعد تحرير الفوسفور الأبيض من القذيفة يواصل مساره مع شظاياها نحو الأرض، وغالباً ما يصطدم بالمنازل أو غيرها من المباني ليحلق الضرر بكل ما هو في الجوار.
في بلدة خزاعة، شرقي خان يونس جنوب قطاع غزة، وجد مندوبو منظمة العفو الدولية قذائف مدفعية من الفوسفور الأبيض -بعضها كان كاملاً بينما كان بعضها الآخر مفتتاً إلى شظايا- في عدة منازل تقع ضمن منطقة ذات كثافة سكانية عالية. في أحد تلك المنازل قتلت حنان النجار (47 عاماً)، وهي أم لأربعة أطفال، بقذيفة واحدة من هذا القبيل. كانت حنان قد فرّت مع عائلتها من منزلهم في الطرف الشرقي من البلدة ليقيموا مع أقاربهم في المنطقة السكنية الأكثر ازدحاماً، معتقدين أنهم سيكونون في أمان هناك، مساء يوم 10 كانون الثاني/ يناير 2009 قصفت المنطقة بالفوسفور الأبيض. قال زوج حنان وأطفالها لمنظمة العفو الدولية أن واحدة من قذائف المدفعية سقطت على سقف المنزل بعد أن أفرغت حمولتها من الفوسفور الأبيض، مخترقة غرفتين لتنفجر في الردهة، حيث أصابت شظية كبيرة منها صدر حنان حتى كادت تفصل الجزء العلوي من جسمها، فلقيت مصرعها على الفور على مرأى من أطفالها وأقاربها، والذين أصيب معظمهم بجروح. أطفال حنان الأربعة أصيبوا بحروق، بالإضافة إلى ذلك كسرت ذراع ابنتها آية (7 أعوام)، كما فقد ابن عمها إحسان (26 عاماً) عينه اليمنى.
وجد مندوبو منظمة العفو الدولية في المنطقة المحيطة بالمنزل شظايا لقذائف مدفعية من الفوسفور الأبيض ولقنابل إنارة، كان العديد منها قد أصاب المنازل السكنية في الفترة ما بين 10 و 13 كانون الثاني/ يناير مما تسبب في دمار وحرائق. مثلاً، سقطت قذيفة على منزل مدمرة جدار غرفة نوم زوجين شابين واستقرت في السرير حيث كان ينام طفل رضيع قبل دقائق فقط من اختراقها للغرفة.
(إسرائيل/غزة: عملية 'الرصاص المسكوب':22 يوماً من الموت والدمار، الوثيقة:MDE 15/015/2009 منظمة العفو الدولية يوليو 2009)
30
لقد استمر استخدام الفوسفور الأبيض حتى اليوم الأخير من عملية "الرصاص المسكوب" 17 كانون الثاني/ يناير 2009. في ذلك اليوم بالذات انفجرت قذيفة مدفعية من الفوسفور الأبيض في حوالي الساعة 6:00 صباحاً في مدرسة ابتدائية تابعة للأونروا في بلدة بيت لاهيا، كان قد لجأ إليها أكثر من 1،500 شخص، مما أدى إلى مقتل طفلين هما محمد الأشقر (7أعوام) وشقيقه بلال (5 أعوام)، اللذين كانا ينامان في أحد الفصول الدراسية مع والديهما وأشقائهما ونحو 30 شخصاً من أقاربهما، وقد أصيب العديد منهم بجراح. أصيبت والدة الطفلين نجود (28 عاماً) بإصابات خطيرة في الرأس وأجزاء أخرى من الجسم، فكان لا بد من بتر يدها اليمنى، بينما فقدت ابنة عمهما منى (18 عاماً) ساقها اليسرى في الهجوم.
عندما زار مندوبون من منظمة العفو الدولية المدرسة بعد يومين من الهجوم وجدوا كتلاً من الفوسفور الأبيض كانت ما تزال مشتعلة تحت الرماد في باحة المدرسة، وشظايا قذائف مدفعية من الفسفور الأبيض من عيار 155 مم. لقد احترق الفصل الدراسي حيث قتل الطفلان، وروى الأطفال الذين كانوا يحتمون في المدرسة لمنظمة العفو الدولية أنهم كانوا نياماً وعندما استيقظوا "كانت السماء تمطر كرات من نار على المدرسة، وكان الجميع خائفين ويصرخون". عثر على شظايا خلفتها قذائف مدفعية من الفوسفور الأبيض في مناطق مجاورة، ورغم أنه ليس من الواضح كم عدد القذائف التي أطلقت على المدرسة والمناطق المحيطة بها، إلا أن الصور الفوتوغرافية وصوراً التقطت بالهاتف المحمول أظهرت السماء تمطر بكرات نارية بكثافة فوق الدرسة ومحيطها(44).
(إسرائيل/غزة: عملية 'الرصاص المسكوب':22 يوماً من الموت والدمار، الوثيقة:MDE 15/015/2009 منظمة العفو الدولية يوليو 2009)
31
كما هو الحال مع جميع المرافق التابعة للأونروا، حرصت الأمم المتحدة على تزويد الجيش الإسرائيلي بإحداثيات المدرسة لتقليل احتمالية تعرضها للهجوم عن طريق الخطأ. مجلس التحقيق التابع للأمم المتحدة الذي تولى التحقيق في الهجوم وجد أن "لا نقاش في تعرض المدرسة للقصف بقذائف مدفعية أطلقها جيش الدفاع الإسرائيلي. فقد تسبب القصف في سقوط أغلفة اثنتين من القذائف على المدرسة، ما أودى بحياة طفلين، فضلا عنً إصابات تباينت في شدتها وخطورتها لحقت بأفراد العائلات التي اتخذت لها ملاذاً في مجمع المدراس. تبين أيضاً أن القصف تسبب في إمطار المكان بكتل من الفوسفور الأبيض المحترق والتي أضرمت النار في أحد الفصول وألحقت المزيد من الأضرار بالمباني المدرسية"(45).
رغم أن القانون الإنساني الدولي لا يحظر استخدام الفوسفور الأبيض كمادة للتمويه، إلا أن إطلاقه في الهواء بتفجير قذائف المدفعية التي تحمله فوق مناطق مزدحمة بالسكان في قطاع غزة يعدّ انتهاكاً لشرط اتخاذ الاحتياطات اللازمة لحماية المدنيين، والحالات التي حققت فيها منظمة العفو الدولية من الوفيات والإصابات في صفوف المدنيين الناجمة عن الفوسفور الأبيض تشير إلى أن القوات الإسرائيلية قد انتهكت الحظر المفروض على الهجمات العشوائية. القانون الإنساني الدولي يحظر استخدام الأسلحة الحارقة ضد المدنيين. بطبيعة الحال، ليس من المفترض استخدام أي سلاح ضدهم، ولكن هذا الحظر هو تعريف بمخاطر معينة وعواقب استخدام الأسلحة ذات الخصائص الحارقة على مقربة منهم. بل إن استخدام الفوسفور الأبيض، كسلاح حارق، مقيّد بموجب القانون الدولي العرفي حتى ضد المقاتلين، فلا ينبغي استخدامه إلا في حال كانت الأسلحة الأقل خطورة -لا تتسبب في معاناة لا داعي لها- غير متاحة.
الهوامش
(41) لشرح الاستعمالات والآثار المترتبة على أسلحة الفوسفور الأبيض، انظر في موقع "اتحاد علماء أمريكا"، "حقائق عن الفوسفور الأبيض"، متوفرة على:
http://www.fas.org/biosecurity/resource/factsheets/whitephosphorus.htm
(42) انظر منظمة العفو الدولية، إسرائيل/ الأراضي المحتلة: مندوب منظمة العفو الدولية يزور مسرح عمليات القتل في قطاع غزة، الوثيقة:MDE 15/087/2006 ، 8 نوفمبر 2006:
http://www.amnesty.org/en/library/asset/MDE15/087/2006/en/dom-MDE150872006en.html
(43) عندما زار مندوبون من منظمة العفو الدولية المنطقة في 22 كانون الثاني/ يناير 2009 ، وجدوا أيضاً مخلفات أطعمة ومواد تغليفها تخص الجيش الإسرائيلي، بطانيات عسكرية لتدفئة الجسم غير مستخدمة، مطويات ومنشورات لصلوات بالعبرية، أكياس للجيش الإسرائيلي ممتلئة بالفضلات البشرية (البراز)، وعبارات إهانة وتهديدات كتبت على الجدران بالعبرية حول وفي عدة منازل في المنطقة التي سيطر عليها الجنود الإسرائيليون بعد هرب السكان في يوم 4 كانون الثاني/ يناير. على أحد جدران منزل أبو حليمة المحترق وجد مندوبو منظمة العفو الدولية الكتابة التالية (باللغة العربية، مع أخطاء إملائية): "من قوات الدفاع الإسرائيلية، نحن متأسفون".
(44) الصورة على غلاف هذا التقرير.
(45) موجز مقدم من الأمين العام للأمم المتحدة لتقرير مجلس التحقيق التابع لها في حوادث معينة وقعت في قطاع غزة في الفترة بين 27 كانون الأول/ ديسمبر 2008 و 19 كانون الثاني/ يناير 2009.
ويتبع >>>>>: تابع الهجمات العشوائية 1.3
ترجمة الأستاذة لميس طه
اقرأ أيضاً:
التقرير العربي النفسي الأول عن غزة/ غزة من الداخل والخارج/ الإعلام والحرب على غزة/ هنا غزة... من يحتاج من؟/ شبهات حول قضية غزة والرد عليها/ طريق يشوع: من غزة إلى بيروت / إعادة إعمار غزة.. سيناريوهات متوقعة!