كنا نعرفه في أواخر الأربعينيات باعتباره ممثلا كوميديا، اسمه "داني كاي"،(مزيج من أشرف عبد الباقي وأحمد بدير وشريف منير). في هذا الفيلم: كان أبا جميلا وأما حانية وطفلا صديقا معا. الأطفال يتقافزون حوله وهم يرقصون ويرددون ما يغني: "أنا هانز! أنا هانز!، أنا هانز، كريستيان أندرسون، إنه أنا!!!" فيرد الأطفال: "إنه هانز، إنه هانز، إنه هانز، كريستان أندرسون، هذه هي الحقيقة!".
جاءتني هذه الصورة وأنا أتابع الاحتفال بمرور مائتي عام على مولده، أغنية أخرى من نفس الفيلم حضرتني الأسبوع الماضي حين صحنا معا "لقد فعلناها"، كنا طوال أعوام كثيرة نبحث من خلال العلاج الجمعي والممارسة الخبراتية عن منهج يثبت ما يذهب إليه العلم المعرفي الحديث من أن الجسد ليس قفازا نلبسه، هو أداة للمعرفة يقوم بدوره المتكامل في التفكير والخيال. أتاحت لنا التكنولوجيا الحديثة والمثابرة في تحقيق فروض متداخلة استلهمناها ممن سبقنا: أن "نفعلها"(ليس فقط نجدها). تذكرت داني كاي (هانز) وقد تعلقت أطرافه بالخيوط كدمية خشبية، وهو يغني: بوبو البوبيت يمكن أن يفعل أي شيء، إذا ما أمسك أحدهم بالخيوط. تنتهي الأغنية بأن الدمية تحررت من الخيوط، لكنها لم تتوقف عن الرقص لحسابها، يصيح أندرسون : لقد فعلها (بوبو، الدمية)، فيرد الأطفال: "فعلها، فعلها، فعلها". طاعة في التدريب تؤدي إلى إبداع وتلقائية. هكذا تصورنا أننا التربية!! هكذا فعلناها لتتحقق فروضنا.
أغلب الجاري عندنا في التربية والنصح والإرشاد والبحث العلمي والسياسة ليس كذلك، لقد توقف أغلبنا "اشترى دماغه". فأعفى نفسه من شرف ورعب التفكير والخيال في صفقة واحدة. قرر أن يوفر وقته مكتفيا بالتقليد مشدودا بخيوط الماضي أو بهر المستورد طول الوقت، طول العمر، لا فرق بين أن يقلد نظما مستوردة أو نظما محنطة. ويا ليت الأمر توقف عند هذا الحد. إننا نخاف أن نفكر أو أن نرى أحدا حولنا يفكر، ناهيك عن الخيال المبدع. ينتج عن خوفنا هذا ذلك التعليم الباهت، والتربية الجبانة، نحن نجهض محاولات أطفالنا في الإبداع والتخيل لتنمية فطرتهم، نفعل ذلك خشية أن يغرونا أن نحذو حذوهم، فنعود للتفكير والتخيل، فنرعب من جديد بعد ما تنازلنا عن حقنا فيهما.
لم تكن حكايات أندرسون للتسلية فحسب، كانت تدريبا على التفكير النقدي بما في ذلك النقد السياسي، قصته "السلطان العاري" تروي كيف نافق الجميع السلطان وراحوا يمدحون ثوبه المزعوم أنه منسوج من خيوط القمر، وهو ليس إلا عريا كاملا. أثناء مرور موكب السلطان وهو يتوهم ارتداء الثوب المزيف صاح طفل لم يتشوه مهللا متعجبا: "إن السلطان عار" فساد الهرج في دهشة زائطة. هذه القصة بها من النقد السياسي ما يعجز مجلد أن يفعله، تماما مثل بعض ما يعلمنا أحمد شوقي في قصائده للأطفال: "الليث ووزيره الحمار" أو "ملك الغربان وندور الخادم" أو" نديم الباذنجان" وغيرها (يمكن أن يرجع إليها في "المختار من ديوان شوقي للأطفال". شكرا لمكتبة الأسرة).
لا يمكن أن تستمر الحال هكذا.
إن لم نتعلم كيف نتقن استيعاب من سبقنا ونحن نتجاوزه، وإن لم نراجع ما وصلنا من أجدادنا الكرام لنطوره أو نضيف إليه ونحن نخترقه دون أن ننكره، وإن لم نحترم الاختلاف الحقيقي وليس مجرد التفويت والتسويات الخائبة، وإن لم نكف عن وأد ما خلقه الله فينا في أطفالنا أولا بأول، وإن لم نمارس حقنا في التفكير الناقد والخيال الخلاق، فلنستعد لدفع الثمن: تخلفا وتبعية.
القطار لم يفت، مع أن العد التنازلي يتسارع. فليحمل كل منا كرامة عقله وجسده، وناسه، ويفعلها. لعل وعسى.
نشرت في الأهرام بتاريخ 21-2-2005
واقرأ أيضاً:
المناهج التربوية من منظور إسلامي (2)/ المقترحات العشرة في تنمية مواهب الأطفال/ وللعب فوائد أخرى