إن ولادة الطفل هي اللحظة المرتقبة والمنتظرة من قبل الزوجين اللذين يحاولان التأقلم مع تغيرات جسدية ونفسية تسبقها وتليها، ويحاولان النضج للوصول إلى دورهما الوالدي الجديد. وتلعب درجة الدعم والثقة التي قدمها كل طرف للطرف الآخر خلال الحمل دوراً رئيساً في الطريقة التي سيستجيبان بها لأزمات الولادة. ومن العوامل الأساسية في تجربة ولادة الطفل الدرجة التي تستطيع بها الحامل أن تسلم نفسها لحاجات جسمها أثناء المخاض والوضع، فإذا كانت الحامل مرتبكة أو تشعر بدرجة من الإهانة والتصغير أثناء الولادة فإنها وكنتيجة حذف طبيعية ستحارب تجربة الولادة، وستصاب بالتوتر الذي بدوره يزيد الألم ويطيل فترة المخاض.
وفي المشفى تشعر الحامل أنها أمام عرض عام حيث الكثير من الوجوه غير المألوفة تأتي وتفحص أكثر أجزاء جسمها انتماءً وخصوصية بالنسبة لها، وأي موقف غير ودّي من الكادر الطبي ينقص من قدرة المرأة على الاسترخاء ويزيد من إصابتها بالتوتر. من هنا تبرز ضرورة وجود أشخاص تعرفهم المرأة وتثق بهم (مثل الزوج والوالدة) خلال المخاض وأثناء الولادة مما يزيل التوتر السابق ويجعل تجربة الولادة تأخذ سيرها الطبيعي دون عوائق إضافية.
خيارات الزوجين
يجب أن يكون الطبيب واعياً للتأثير اللاإنساني للمشفى على المرأة المقبلة على الولادة "الحامل" خاصة في المشافي المخصصة لذوي المستوى الاجتماعي والاقتصادي المنخفض، ففي هذه المشافي تفصل الحامل عن عائلتها وتستبدل حاجاتها الشخصية وثيابها بأخرى وتمنحها قليلاً من العناية الشخصية، وفي جوّ كهذا لا يمكن للمرأة أن تندمج بسهولة وتحقق الاسترخاء المطلوب.
وبغض النظر عن أي عامل مؤثر فإن الغالبية العظمى من الناس في مجتمعاتنا باتت تفضل أن تلد المرأة في المشفى عوضاً عن المنزل، فما الذي يدفعهم لذلك؟
الحقيقة أن تطور الطب المعاصر وقدرته على تدبير علاج المرأة الحامل ومشاكل الولادة التي قد تصادفها فإن ولادة الطفل في المشفى أصبحت أقل خطراً من السابق. فتطور الطب أصبح يشمل: بزل السائل الأمنيوسي، وفحص الجنين بالأمواج فوق الصوتية، ومراقبة الجنين الكترونياً، وارتفاع مستوى الأمان في العمليات القيصرية بسبب استعمال الصادات، وتحسّن التخدير، ووجود بنوك نقل الدم، وتوفر وقاية من اختلاف فصائل الدم من النوع RH ، ووجود غرف العناية المشددة بالخدّج... الخ، نتيجة لكل ذلك وأكثر انخفضت نسبة الوفيات الوِلادية، فوفق أحدث الدراسات في U.S.A انخفضت نسبة الوفيات عند الأطفال من20 بالألف عام 1970 إلى 11.2 بالألف عام 1982وإلى أقل من 9.3 بالألف عام 2006 ونتيجة لانتشار استعمال هذه التطورات زادت نسبة العمليات القيصرية، إذ ارتفعت من 5 %عام1968 إلى % 15 عام 1978 ثم 26.5 % عام 1998 وإلى أكثر من 31.8 % عام 2006.
ولكن يجب الانتباه إلى أنّ مسكنات الألم والمخدرات المعطاة للحامل خلال المخاض والوضع أو الجراحة القيصرية تدخل بسرعة إلى دم الجنين الذي لا يطرحها بالسرعة التي يطرحها البالغ، فبعد ولادته تبقى في جسمه مغيرة من إدراكه للمنبهات البصرية والسمعية، فالأطفال غير المعرضين لتلك العقاقير تكون درجة صحوهم وصحتهم أفضل ممن تعرّضوا لها.
إن مراكز الولادة اليوم أصبحت مريحة وجوها يشبه جو المنزل؛ فالمخاض والوضع يتمّان في غرفة واحدة ويستطيع الزوج أو أي أحد من المقربين للعائلة مرافقة الزوجة أثناء عملية الوضع والولادة، فغرف الولادة اليوم تحوي أثاثاً مريحاً وأحياناً تلفازاً وسريراً خاصاً يصلح للاستعمال في المخاض والولادة على الحد سواء، ولم يعد هناك حاجة للإسراع بنقل الأم من غرفة المخاض إلى غرفة الولادة لأنها تلد في تلد في ذات الغرفة وبشكل طبيعي جداً ومريح وتعلم أنها محاطة بكادر مؤهل لإسعافها إذا ما جدّ طارئ ما.
أخيراً، من واجب الطبيب أن يختار المناسب من بين هذه الوسائل الحديثة آخذاً بعين الاعتبار أن عائلة الحامل تلعب حالياً دوراً متزايداً وفعالاً في اختيار الجو الذي تتم به الولادة.
التحضير للولادة
إنّ عدداً من المشافي تغيّر حالياً من إجراءاتها لإعطاء اهتمام متزايد لحاجات الحامل الشخصية وحاجات عائلتها، وهذه التغيرات تشمل التحضير للولادة وتشجيع الزوج على حضور المخاض والوضع، ومعظم مدارس التحضير للولادة في U.S.A تتبع نهجاً هجيناً من تعاضد مدرستين:
1. مدرسة الولادة الطبيعية لـNaturai Childbirth dick Reader
2. مدرسة الوقاية النفسية لـPsychoprophylactis Lamaze
إنّ التحضير للولادة هو التخفيف من الألم خلال الولادة، وهذا الهدف يمكن تحقيقه عن طريق تزويد الحامل وزوجها بالوسائل الكفيلة بإحداث ولادة غير دوائية، وذلك بتعليم الحامل كيفية التفاعل مع حاجات جسمها لتسهيل الولادة وتقليل زمنها. فعرض أفلام عن الولادات أو أخذ الزوجين إلى غرف المخاض والولادة ووصف مراحل الولادة (الإنمحاء، فالاتساع، فالمرور عبر القناة التناسلية، ثم الانقذاف) لهما، وتعليم الزوجة طرق التنفس في كل مرحلة من هذه المراحل، وتعليم الزوج كيف يساعد زوجته على الاسترخاء العضلي للتخفيف من توترها حيث يجب على المرأة أن تسترخي عضلياً في المرحلة الأولى للمخاض وأن تنظم تنفسها مع التقلصات الرحمية، كل ذلك يزيد من ثقتها بقدرتها على السيطرة على عملية الولادة، وبقدرتها على تحرير نفسها من الألم وإزعاجه.
يجب تحذير الزوجين من فترة مرور الجنين في القناة التناسلية، فهذه المرحلة هي الأصعب في الولادة ومن الشائع أن تصاب الحامل فيها بالارتجاف والقيء والضعف وقد يصل الألم لحد البكاء وأن تطلب إعطاءها عقاقير مضادة للألم، عندها فإن المساعدة العاطفية من الكادر الطبي والزوج أمر هام لإبقاء المرأة بحالتها الطبيعية والحيلولة دون استخدام المهدئات أو المورفين.
أثبتت الدراسات أن استعمال طرق خاصة بالتنفس يسمح للحامل أن تتجنب الضغط السابق لأوانه فتوفّر جهدها للوقت الملائم، وبذلك تقلل من زمن المرور في القناة التناسلية، كما أظهرت الدراسات أن المرأة المحضّرة للولادة تجري ولادة أسهل وتكون علاقتها مع طفلها أفضل من الحامل التي لم يسبق لها أن حُضّرت لذلك، فزمن الولادة عند المرأة المحضرة أقل وفترة اختلاطات الولادة واستعمال الأدوية عندها أقصر، كما وتشعر أنها لعبت دوراً فعالاً في عملية الولادة.
وجود مساندة فعالة للمرأة أثناء الحمل تقلل من زمن الولادة ومن مشاكل واختلاطات الولادة (القيصرية بالذات)، وتعليم الأب كيف يلعب دوراً فعالاً في عملية الولادة، "حيث يحضر الدروس مع زوجته" فيذكّرها أثناء الولادة بتمارين الاسترخاء والتنفس التي تعلّمها معها، وهو يحمي زوجته الضعيفة أثناء الولادة من إزعاجات أي شخص يحاول إعاقتها عن إتمام مهمتها، إذ لا تزال بعض المشافي تشكل جواً غريباً بالنسبة للحامل، ووجود الزوج في مرحلة المرور هام بشكل خاص لتجنب إعطاء أدوية غير مرغوب فيها. الكثير من الأزواج (الزوج والزوجة) يجدون تجربة الولادة مؤثرة بدرجة تقربهما من بعضهما وتغذي حبّ كل منهما للآخر، وكذلك حب كل منهما للقادم الجديد.
بقي أن أذكر أن معظم الأزواج يميلون للتعاون والمساعدة في عملية الولادة، لكن بعضهم وبدافع الخوف يتجنب ذلك، ومن المهم هنا أن نجعل الرجل يختار لا أن نحكم سلفاً بعدم جدوى الطلب إليه إن كان غير متعاون المشاركة في عملية الولادة، فلا يجوز أن يقرر الطبيب عوضاً عنهما ذلك.
خيبة أمل الوالدية المبكرة
إن الخوف الأكبر عند معظم الأزواج هو ولادة طفل غير سليم، وبما أن هذا الخوف يزول عند ولادة طفل سليم معافىً فإن شعوراً عظيماً بالسعادة ينشأ مع الولادة، وهذا أحد الآباء يصف شعوره: "لقد كان الأمر عظيماً، لقد شعرت أن الدنيا لا تتسع لي وأني سأنفجر من الفرح، وشعرت أني أشارك بعمق وفعالية في سر غامض وعميق". وعلى العكس عند بعض الأزواج إذ يمكن أن يشعروا بخيبة أمل لأنهم يرسمون في أذهانهم طفلاً خياليا-ً كما يرونه في المجلات- مكتنزاً بالشحم في شهره الرابع، هذه الصورة تختلف عما سيشاهدونه في طفلهم حين الولادة، حيث سيجدونه متسخ الرأس مجعد الشعر!. كما أن جنس الطفل له دور في حال كان غير مرغوب فيه، وهذا وصف أم خاب أملها بسبب جنس وليدها: "أتذكر محمود يوقظني ويخبرني أني حصلت على طفلة صغيرة، لقد خاب أملي وقلت أني آسفة لأن محموداً خاب أمله".
فالأهل الذين يعتقدون أن هناك مواقف معينة يجب إنجازها وأخرى يجب تجنبها ليكونوا أهلاً صالحين، مثل هؤلاء يخفون شعورهم بخيبة الأمل عن أنفسهم وعن المحيطين بهم، وكبت هذا الشعور لا يعني زواله بل يعقد الأمور ويجعل تعديله أمراً صعباً. فعند ولادة طفل يعاني مشكلة ما فإن الأهل يصابون بالحزن لفقدانهم الطفل الكامل، وإذا استمرت فترة الحزن أكثر من اللازم فإن الاكتئاب الحاصل يؤدي إلى غياب رعاية الأهل لطفلهم ويكون لهذا الإهمال تأثير سيء على تطوره. ويستطيع الطبيب هنا أن يلعب دوراً هاماً في التخفيف من ألم الأهل، وعندما يعاني الطفل من تشوهات غير ظاهرة أو واضحة تماماً (كتشوه التشكل عظمي)، فمن واجب الطبيب أن يبلغ الأهل بذلك لأنهم عندها سيحاولون النظر إلى النواحي الإيجابية الأخرى في طفلهم.
ومثال ذلك دراسة Fraiberg على الأطفال الذين يولدون فاقدي البصر؛ هذه الدراسة تظهر قدرة الأهل على النظر والإعجاب بالنواحي الإيجابية عند طفلهم المصاب بعاهة ما، فالطفل الذي يولد ضريراً يكون جهاز الاتصال العيني- العيني عنده معطل، ولاحظ Fraiberg أن عدداً كبيراً من هؤلاء الأطفال ينعزلون عن المجتمع ويصبح سلوكهم نمطي جامد، ويظهرون تأخراً في النطق، وتتطور لديهم متلازمة الانعزال الذاتي (التوحد) Autism Syndrom ، وسببها اضطراب الاتصال بين الأهل والطفل والذي يبدأ مباشرة بعد الولادة، وإضافة لكل ذلك هناك نقصاً في الاتصال الانفعالي Affectiv بين الطفل وأمه، وهنا وضع Fraiverg نظاماً ساعد الاهل على تفهم التطور الاستعرافي عند طفلهم الضرير وشرح لهم تعطل جهاز المشاركة العيني، وركّز على قدرة هؤلاء الأطفال على جلب الفرح والسعادة لأهلهم بعدة طرق، ونتيجة لذلك ولعودة التشارك الانفعالي بين الطفل وأمه فإن متلازمة الإنعزال الذاتي تختفي لديهم.
الاتصال الوالدي الرضعي الباكر
إن الوالدين بحاجة إلى الوقت كي يستطيعا التعرف على طفلهما وفهمه، ويكون نمط الاتصال بعد الولادة بين الأم والطفل كالتالي:
تبدأ الأم بلمس أطراف الوليد برؤوس أصابعها، ثم تتحسس جذعه وتحضنه وتحاول أن توقظه لكي تحقق الاتصال العيني معه، وبالطبع فإن الطفل الذي لم يدخل جسمه أي عقاقير من مخلفات الولادة يستطيع أن يفتح عينيه وينظر إلى أمه بعد ساعتين من ولادته، وأظهرت الدراسات أن الاتصال الطفلي- الوالدي المبكر يزيد ويعزز تعلّق الأم بطفلها، وأن هذا الاتصال المبكر بينهما عند بعض الحيوانات ضروري لتعلّق الأم بطفلها، أما عند الإنسان فالعلاقة أكثر مرونة، لكن هذا الاتصال يزيدها ويغذيها.
إن عملية التعلّق عند الإنسان لا تتطلب أموراً ثابتة مثل الاتصال الباكر بعد الولادة بل تمثل علاقة تستمر في التطور، وبالرغم من ذلك فإن انفصال ألأم طويلاً عن وليدها، كما يحدث في حالات الخداج مثلاً حيث يفصل الوليد عن أمه عدة أسابيع، هذا الانفصال قد يؤثر على تعلّق الأم بوليدها، وهذا ما أكدته الدراسات أن الأطفال الخدّج يعانون من الإهمال أكثر من غيرهم. ولهذا يجب أن نتريث ونتردد عند اتخاذ القرار بإبعاد الوليد عن أمه بعد الولادة، ولهذا صممت المشافي حديثاً بحيث يقع بصر الأم على وليدها وبحيث يمكن الوصول إليه بسهولة.
أما الأب فإننا نشجع هذه العلاقة بوضع الأب في نظام "ساعات الأب"؛ حيث يحمل الأب وليده ويلمسه ويطعمه، وهذا أحد الآباء يصف شعوره في إحدى ساعات الأب: "عندما ألمسه وأداعب شعره وأشم رائحته أشعر بفرح شديد لا أحصل عليه إلا عندما نكون معا"ً.
إن الحالة الجسدية للأم هامة لتحقيق الاتصال المبكر:
1- فالأم المريضة لا تستطيع إعطاء الاهتمام الكافي لوليدها.
2- الأم المخدرة أثناء الولادة يجب أن تعتمد على كلام الجهاز الطبي ليبلغوها بأن هذا هو طفلها فهي لم تره عند ولادته.
فترة ما بعد الولادة والعلاقة الزوجية
إن الزوجين اللذان يتوقعان أن تعود حياتهما إلى ما كانت عليه تماماً قبل الحمل سيصابان بالإحباط حتماً مما تفرضه مرحلة ما بعد الولادة من شدة. ويعتقد أن الأزواج المهيئين والمدربين لمواجهة هذه المرحلة هم قلّة، أما الغالبية فيعتقدون بأن اهتمامهم بالطفل وبنقاهة المرأة هو أمر بديهي لا يحتاج للتعلّم، وأن عدم تعلّمهم هذا سوف يعرّضهم للشدة والاضطرابات والمشاكل الزوجية في هذه المرحلة، فالمرأة في فترة النقاهة تصاب بتقلصات رحمية مؤلمة، وإن كان هناك خزع للفرج أثناء الولادة فإن شعوراً مزعجاً بالألم والتهيج وبالرغبة في الحكّة بشدة يلازمها في الفترة اللاحقة، وهي تشعر بالتعب دائما وبثديين محتقنين وشديدي الحساسية. وقد تكون الإفرازات المهبلية المدماة مزعجة، وقد يزعجها وزنها الزائد. وأحياناً بعد ستة أسابيع من الولادة (وهي الفترة التي يعتقد الزوجان أن كل شيء سيعود كما كان عليه قبل الولادة) يفاجأن أن المرأة قد فقدت اهتمامها الجنسي!.
في دراسة أجراها ماسترز وجنسون فإن 50 % من النساء المستجوبات بعد 3 أشهر من الولادة كان مستوى الرغبة الجنسية عندهن منخفض أو معدوم، وأن نفورهن من الجماع كان سببه الشعور بالضعف والتعب والألم عند الجماع والخوف من أذىً دائم يلق بالجهاز التناسلي إذا كان الجماع مبكراً (في رأي الزوجة). إن مهبل المرأة بعد شهرين من الولادة يكون أقل حساسية للإثارة الجنسية ولا تفيد المواد المزلقة إلا قليلاً في تحسينها، ويكون إحساس المرأة بالرعشة خفيف الشدة، وإذا كان الزوجان- والزوجة بوجه خاص- لا يتوقعان مثل هذه التغيرات الطبيعية بعد الولادة فقد يظنان أن المرأة مصابة بالبرود الجنسي وربما تعتقد المرأة بأنها استبدلت متعة الجنس بمتعة أخرى!.
التفاعـل بيـن الأهـل والرضيــع
إن الاتجاه القائل بأن حب الأم يقدم بشكل تلقائي إلى الوليد مع الأسف اتجاه لا يعطي صورة واقعية عن علاقة الأم بوليدها. وهناك عدد من الأساطير والمفاهيم الخاطئة التي تقول بأن دماغ الوليد فارغ كصفحة بيضاء وأنّه يملأ من المحيط الذي حوله؛ أي الأم والأب وخاصة من قبل الأم. لكن الحقيقة غير ذلك والولدان غير متشابهين ويختلف سلوك كل واحد منهما عن الآخر وهذا الاختلاف في السلوك له تأثير مباشر على الوالدين (الأم – الأب).
فالاستجابة للمنبهات البصرية والسمعية والشمّية مختلفة بين طفل وآخر، أيضاً كل طفل له طريقة خاصة في مص ثدي أمه فنموذج المص الانعكاسي يختلف من طفل لآخر اختلافاً كبيراً. ومن الاختلافات السلوكية الأخرى: درجة الاستجابة للأمور الحية وغير الحية، ودرجة الاستثارة، واختلاف المزاج... وهكذا نرى أن كل وليد يدخل الحياة وله شخصيته الفريدة الخاصة به، وهذا بدوره سيؤثر بعمق على والديه. وقد لاحظ Osofsky أن هناك توافقاً بين التحريض عند الأم والاستجابة عند وليدها، مثلاً: نوع التنبيه السمعي عند الأم إذا أحبه وليدها واستجاب له فهي ستكرره وكذلك التنبيه العيني والحسي.
ونتيجة لذلك كان الاستنتاج أن استجابة الوليد تؤثر على سلوك الأم وتعدّله وبذلك يساهم الوليد في التفاعل الأهلي- الطفلي. وهنا يمكن للقارئ أن يتساءل كيف يمكن لطفل لا حول له ولا قوة أن يؤثر في والديه؟، والجواب: أن تقديرنا اليوم لمقدرة الطفل السلوكية ولمواهبه البيولوجية الفطرية أفضل من السابق، فالوليد يمكن أن يسمع ويرى ويشم ويحس ويمكنه تثبيت نظره على الأشياء ويمكنه إجراء تمييز بصري بين الأشياء، كما يمكنه الحفاظ على الاتصال العيني مع أمه أو لعبته. ولهذا الاتصال العيني تأثير كبير على الأم، فعندما ينزعج الطفل يقطع اتصاله العيني مع أمه وهذا يزعجها (رؤية مدى سلوك الطفل على الأم)، فالطفل الآن ينظر إليه كفرد متميز منذ الولادة له القدرة (ولو كانت محددة) بالتأثير على الذين يرعونه.
ولفهم أوضح لتأثير الطفل على والديه يجب علينا أن نتفهم الحالة العاطفية عند الأهل. لقد أنجب الأهل الطفل وذلك لأسبابهم الخاصة بهم وهم بحاجة لتحقيق علاقة اكتفاء وإشباع Gratifying Relationship بينهم وبين الطفل، وبالتالي فإنّ أي استجابة من الطفل سيكون لها تأثير عميق على الأهل وستشجعهم على تكرار السلوك السابق الذي أدّى لهذا الجواب الودي من قبل الطفل، سواء كانت الاستجابة بالابتسامة أو بالتوقف عن البكاء.
وفي الواقع، إذا نظرنا إلى التفاعل بين الأهل والطفل نجد أنّه أصبح موزّعاً بالتساوي بينهما، وبذلك نستطيع الآن أن نعرّف الرعاية الوالدية parenting على أنها القدرة والرغبة عند الأهل على التأقلم مع حاجات وشخصية وليدهم الفريدة.
إن الاختلافات الفردية في فترة الرضيع المبكرة Early infancy يمكن أن نتعرف عليها عن طريق نماذج الأمزجة Temperamental patterms، حيث أن لكل طفل نموذجه الخاص به والذي يستمر حتى فترة الرضيع المتأخرة Late أو حتى الطفولة المبكرة.
إن هذا النموذج من المزاج ومدى تأثيره على الطفل سيختلف حسب استجابة وتفاعل الأهل معه. لقد درس Thomas وغيره استقبال وتفاعل الأهل مع أمزجة 133 طفلاً في 85 عائلة لمدة 6 سنوات، ولاحظوا أن الأطفال تحت سن السنتين والذين وصف مزاجهم بأنه "صعب Difficult" يتميز سلوكهم بعدم انتظام وظائفهم البيولوجية (النوم، الأكل)، وكانت قدرتهم على التكيف مع تغيرات المحيط بطيئة، وكانت استجابتهم شديدة مع بكاء عال وغضب شديد، وحتى السعادة لديهم كانت تتم بطريقة صاخبة، لكن هؤلاء الأطفال أقرب لكونه غير سعداء من كونهم سعداء. إنّ حوالي 70% من هؤلاء الأطفال تشكل لديهم اضطرابات في السلوك فيما بعد في أثناء الطفولة، أما 30% الباقية فاستطاعوا التأقلم مع حاجات المحيط المطلوبة منهم.
وهكذا نرى أن الطفل "الصعب" ليس من السهل تربيته وتنشئته، كما أن معظم الأهل لم يستطيعوا مساعدة طفلهم على التكيف، وبعضهم صار يشعر بالشك والقلق وعدم الفائدة من الجهد المبذول في رعاية الطفل. من المهم هنا أن نشير إلى أنّه ليس كل الأطفال "الصعبين" يصبحون أطفالاً ذوي مشاكل، إذ أن قدرة الأهل( أو عدم قدرتهم) على مساعدة طفلهم على التكيف تلعب دوراً هاماً في حدوث الأمراض عند هؤلاء الأطفال. وعلى عكس الطفل "الصعب" فإن الطفل "السهل Easy" هو طفل مزاجه إيجابي، منظم في وظائفه البيولوجية، وذو قدرة سريعة على التكيف مع استجابة إيجابية في المواقف الجديدة، ومعظم هؤلاء الأطفال لا يصابون بمشاكل سلوكية لاحقاً، كما أن تقييم الأهل لأنفسهم كان إيجابياً مليئاً بالثقة، وهكذا نرى أن المفهوم الخاطئ على وحدة الشخصية عند جميع المواليد يدفع الأهل لإهمال الخصائص المميزة لكل وليد مما قد يخلق لديهم شعوراً بالذنب وعدم القدرة على مساعدة طفلهم على التأقلم مع المحيط.
بعد 25 سنة من المتابعة لهؤلاء الأطفال الـ 133 استنتج Thomas أن مفهوم حسن التلاؤم Goodness of fit هو مفهوم ذو فائدة كبيرة، فعندما تكون القدرة على التأقلم جيدة فإنّ خصائص المحيط ومتطلباته تكون متوافقة مع سلوك الطفل ودوافعه وقدراته الخاصة، وعندما يحصل هذا الوئام Consonance بين المحيط وشخصية الطفل فإنّ التطور المثالي سيحصل بلا شك، وعلى عكس المفهوم السابق فإن سوء التلاؤم Poorness يعني التنافر أو عدم الوئام Dissonanse مما يؤدي لتطور مشوه وعدم القدرة على التكيف. وهكذا فإن من واجب الأهل تحديد الأسباب المؤدية لعدم القدرة على التأقلم والمؤدية لحدوث اضطرابات في السلوك وتحويلها إلى قدرة جيدة على التأقلم.
أما المفهوم الثاني الخاطئ فهو نتيجة حتمية للمفهوم الأول المشروح سابقاً، وهو أن كل ما يحدث من تطور عند الطفل سيعتمد بشكل مطلق على شخص الأم مما يؤدي لظهور مفاهيم مثل الأم الجيدة Good والأم السيئة Bad أو المفرطة في الحماية Overprotective والأم الرافضة Rejecting لطفلها. إن هذا الأمر يجعل الأهل دوماً في حالة توتر وقلق وخوف إزاء تصرفاتهم، ويؤدي بالتالي لحدوث سلوك نمطي مثل الأم الجيدة أو السيئة، وهذا المفهوم الخاطئ يشمل أيضاً أن شخصاً واحداً فقط يجب أن يرعى الطفل وأن ذلك ضرورياً لتطور الطفل طبيعياً، فتعدد مصادر الرعاية يترك أثراً سيئاً على تطوره ونموه.
لقد أظهرت الدراسات عكس ذلك تماماً فوجود عدة أشخاص يعتنون بالطفل له أثرٌ إيجابي على الطفل طالما أن علاقتهم به هي علاقة محبة Loving Relationship. إن العامل الهام ليس عدد الأشخاص الذين يعتنون بالطفل بل نوع العلاقة التي تربطهم به، وبما أن كل طفل هو طفل فريد ومتميز Unique فذلك يحتم أن كل علاقة بين الوالدين والطفل هي علاقة متميزة لها صفاتها الخاصة، وبدلاً من التفكير بالمصطلحات المطلقة مثل الأم الجيدة والأم السيئة فإنّه من الأفضل أن نفكر بوجود الانسجام المتبادل (أو عدم وجوده) بين حاجات الوالدين وحاجات الطفل، ولنأخذ مثالاً على ذلك "منعكس المص" عند الطفل.
قد تكون قدرة بعض الأطفال على المص شديدة وفعّالة، فإذا كانت الأم من النوع الفعّال Active الذي يحب أن يعطي كثيراً وبالمقابل يأخذ كثيراً فستكون مسرورة بهذا الطفل وستشعر أنها أماً جيدة وسيكون الانسجام قائماً بينها وبين طفلها، في حين أن طفلاً كسولاً غير فعال في المص ولا ينتظم بمواعيد ثابتة في الرضاعة لا تعرف معها الأم متى يجوع فترضعه سيشعرها بأنها ليست بالأم الجيدة، لكن إذا ما شرحنا لها الأمور السابقة من أن لكل طفل حاجاته الخاصة به وأنّ كل علاقة مع الطفل علاقة خاصة متميزة وليست كل العلاقات بين الأهل والطفل واحدة فإننا بالتأكيد سنبعد عن ذهنها فكرة الأم السيئة لتبدأ بالاهتمام بالتوفيق بين حاجاتها وحاجات طفلها. ولنضرب مثلاً آخر؛ كثير من الآباء يشعرون بالراحة حين يكون طفلهم معتمداً عليهم أو تحت إشرافهم المباشر طيلة الوقت، لكن تبدأ حاجات الطفل الخاصة بالظهور شخصيته بالتبلور مما يخلّ بالانسجام وينزع الراحة من العلاقة بينهم وأبنائهم، وهذا ما يحدث تماماً في فترة المراهقة، الأمر الذي يتطلب إيجاد طريقة يتفهم بها الآباء التغيرات والخصائص المميزة لأبنائهم في جميع مراحل الحياة بحيث يحافظون على الانسجام الكامل في علاقتهم معهم.
إن بعض مظاهر الرعاية التي يقدمها الأهل ليس لها أهمية جوهرية على تطور الطفل، وأن عدم معرفة هذه الحقيقة يشكل المفهوم الثالث الخاطئ الذي ننافشه هنا، ومثلاً" الاعتقاد المغلوط بأن تنشئة الطفل في وسط صحي ونظيف يلبي حاجاته الجسدية يشكل كل ما هو مطلوب من الأهل لتحقيق تطور سليم لطفلهم، لكن هذا ليس صحيحاً! إنّ الذين يرعون الطفل سواء الأم أو الأب أو الأجداد يجب عليهم إعطاء الطفل الحب والاهتمام الذي يستحق بالضرورة لتكوين علاقة ثقة بين الطفل ومحيطه الاجتماعي، إن هذه الثقة لن تأتي من تنشئته في وسط نظيف وعقيم بل من استجابة أهله لحاجاته بتنبهات سمعية وبصرية وحسية وحركية Kinesthetic وبناء علاقة عاطفية معه. فالأطفال الذين ينشئون في وسط يوفر القليل من الرعاية والاهتمام- مثل مؤسسات الرعاية الكبيرة- فلا يحملون أو يداعبون إلا لماماً ويعطون قليلاً من الألعاب يعانون من نوع من عدم الاستجابة Unresponsiv وبالتالي قد يتأخرون في الكلام والتطور الحركي والاستعرافي Cognitive.
إن مقارنة ثلاث مجموعات من الأطفال؛ الأولى تربى الأطفال فيها مع الأم، والثانية مع الأم لكن في دار حضانة تابعة للسجن، والثالثة في منازل نظيفة لكنها تفتقر لعلاقة حب بينهم والمربين، فكانت النتائج أن المجموعة الثالثة أظهرت منذ الشهر الثالث استعداداً شديداً للانتانات والأمراض والوفيات، وفي عمر السنتين ونصف فقط اثنان من أصل ست وعشرين طفلاً في هذه المجموعة استطاع أن يتكلم بضع كلمات فقط وأن يمشي بينما المجموعة الأولى والثانية كان تطورهم طبيعي ونموهم سليم.
وهناك مجموعة من التنبيهات التي لها تأثير إيجابي على نمو وتطور الطفل، إذ أنّ حمل الطفل Handing له تأثير داعم لنمو احتياجات الطفل البصرية، كما أن التنبيهات الحسية والحركية Kinesthetie تحسّن نموذج الأكل Fating pattern عنده مع زيادة وزنه، أما في مرحلة الرضيع المتأخر Late Infancy فإن الصوت الإنساني له التأثير الأكبر على التصويت عند الطفل.
والاتصال الإنساني human contact مع الطفل له أهمية في تطوره العاطفي والاجتماعي، فكما أن الأهل يصبحون متعلقين عاطفياً بطفلهم عندما يمضون الوقت بالاتصال معه، كذلك يصير الطفل متعلقاً عاطفياً مع الأشخاص الثابتين الذين يرعونه Itable caretaker.
ويجب معرفة أن الاتصال الإنساني مع الطفل له أهمية عاطفية كبيرة منذ الأيام الأولى للولادة، فاستجابة الأطفال للتنبيهات الجامدة تختلف عن الاستجابة للتنبيهات الحيوية animate، ومثال على ذلك: عندما طلب من الأم أن تبدي استجابة تجاه طفلها أي تنظر إليه بوجه ثابت لمدة ثلاث دقائق فإن استجابة الطفل كانت في البدء محاولات جاهدة لإعادة الاتصال مع أمه ولكنه ما لبث إن انسحب وأبدى سلوكاً ذاتياً هادئاً Left Quieting behavior لغيرها من الأشخاص. وبالمثل فإن الوليد يتآلف مع بعض النظميات الحيوية التابعة للأشخاص الذين يعتنون به، فالأطفال في المنزل يحققون دورة نوم ليلي نهاري day – night – sleep – cycle.. (نوم في الليل واستيقاظ في النهار) أبكر من الأطفال الموجودين في المشفى، وأن تبديل الأشخاص الذين يعتنون بالطفل بعد عشرة أيام من الولادة يمكن أن يؤدي لاضطرابات وتشويش في النظميات التي اكتسبها الطفل. وبعض الدراسات تؤكد انه خلال الأسبوع الأول من الحياة يبدأ الوليد بتميز أمه عن طريق رائحة حليبها.
إن الأطفال الذين ينشؤون في مراكز يتغير الأشخاص الذين يعتنون بهم فيها لا يحققون تعلقاً عاطفياً مع هؤلاء الأشخاص، ونتيجة لذلك فإنهم ينسحبون إلى داخلهم (أي ينعزلون) ويكون اتصالهم مع المحيط الاجتماعي مضطرباً. إننا نعلم أن الحرمان العاطفي يؤذي الطفل لكننا لا نعلم إلا القليل عن تأثير اختلاف أنظمة العناية به عليه، إلا أنه في النهاية كل شيء يعتمد على قدرة هذه الأنظمة على تلبية حاجاته.
ويتبع >>>>>>>>: الزوجان والواقع الجديد كأبوين
المصدر: المجلة الإلكترونية للشبكة العربية للعلوم النفسية