النظرية المحمدية وعلم السلوك(1)
ومن المميزات التي تميز تفكير الطفل في هذه المرحلة؛ هي صفة الإحيائية أو الأرواحية وهي نسب الحياة لأشياء غير حية. أو يعتقد بأن لكل شيء في الطبيعة روحًا أو نفسًا، كأن يظن أن دميته تشعر بالألم والبرد كما يشعر هو بذلك. أي أن الأشياء تشعر وتجد ما يشعر به هو، فقد نسمع حديث طفلين:
-أحمد: لماذا أنت ممسك بساقك؟
-علي : لأنني عندي ألم في إصبعي!
-أحمد : هل تؤلمك كثيرًا؟
-علي : نعم إنها تؤلمني، ألا تشعر بها؟!
ونتيجة لأن الأطفال الصغار ليس لديهم مبدأ الثبات إن كانت الكمية أو العدد فإننا نجدهم يعتقدون أن الحياة والموت شيء واحد، فطفل الثالثة والرابعة لا يفهم الموت ولا يعني له هذا أن الحياة تنتهي، وذلك يعود إلى أن الطفل يظن أن الحياة هي صفة ثابتة ودائمة للأشياء مثل صلابتها أو ألوانها. ونورد هنا حديث يدور بين أحد الأخصائيين وطفل في الثالثة والنصف من عمره:
الطفل: لماذا يدفن الأموات تحت الأرض؟
الأخصائي: أين تعتقد بأنهم يجب أن يدفنوا؟
الطفل: من الممكن وضعهم في النفاية!
الأخصائي: لماذا يمكن وضعهم في النفاية؟
الطفل: حتى يكون من الأسهل عليهم أن يخرجوا.
وعندما يقترب الطفل من سن السادسة أو السابعة، يبدأ في تكوين مفهوم أن الموت هو نهاية الحياة بالمعنى المادي أو الفسيولوجي.
ما نريد أن نصل إليه هو أن جميع العمليات الفكرية والعقلية لدى الأطفال تنمو مع نموه الزمني.. أي أننا لا نستطيع أن نعلم طفلاً شيئًا ما وهو لم يصل بعد إلى النضج الذي يسمح له بتعلم هذا الشيء. لذا يقول محمد صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف: "مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبعًا". وهنا لم يشر محمد صلى الله عليه وسلم إلى المرحلة الزمنية عبثًا، بل كان متيقنًا أشد اليقين بأن للنضوج العمري وللمراحل الزمنية في عمر الطفل أهمية كبرى في فهم الأمور وتعلمها.
من هنا نرى أنه يوجد تطابق عجيب بين جميع الأبحاث في علم السلوك في هذا المجال وبين "النظرية المحمدية" إذ أن كل ما قام به العالم النفسي جان بياجيه من أبحاث وتجارب كي يصل إلى أن الطفل يمر بمراحل زمنية مختلفة ينمي فيها العقل والمعرفة والاستعداد للتعلم، وأن الطفل يخرج من صيغة التفكير المتمركز حول الذات في سن السابعة، والتي فيها يمكنه تقبل وجهة نظر الغير.
استطاع محمد صلى الله عليه وسلم أن يحدد هذا ويعلمه قبل أربعة عشر قرنًا ونيف، وقد حدد محمد صلى الله عليه وسلم العمر الزمني بالتمام والدقة المتناهية في خروج الطفل من تمركزه في تفكيره إلى فهم قصد الآخرين، لذا يمكنه فهم ما تعني الصلاة ويمكنه استيعابها. وصدق عز وجل حينما قال: "إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ".(النجم:4).
ويكمل محمد عليه الصلاة و السلام.. "..واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرًا" ويعود أيضًا ليحدد الفترة الزمنية التي يستطيع فيها الطفل تلقي العقاب وفهم معناه.
"..وفرقوا بينهم في المضاجع." هنا يدخل عليه الصلاة والسلام في الحياة العقلية والمعرفية والجنسية للطفل فيأمر بتفريق الذكر عن الأنثى في هذا الجيل. ولكي نعلم مدى صحة هذا التحديد علينا أن نربط ما قاله عليه الصلاة والسلام وما أثبته خبراء علم النفس في عصرنا الحديث عن السلوك البشري.
أما بالنسبة للقسم الذي حدد فيه محمد عليه الصلاة والسلام سن العاشرة للضرب والعقاب؛ فيقصد هنا بالضرب والعقاب: "الذي يهدف إلى الردع وتقويم السلوك" وذلك ما يطلق عليه كبار علماء النفس باسم "العقاب" ضمن نظرية واسعة في علم السلوك يطلق عليها نظرية "الثواب والعقاب". لفهم هذه المرحلة علينا التعرف على المرحلة الزمنية ما بين 9-12 سنة والتي يطلق عليها اسم: "الطفولة المتأخرة" ويطلق عليها أيضًا اسم مرحلة "قبيل المراهقة".
في هذه المرحلة يصبح سلوك الطفل أكثر جدية ويميز هذه المرحلة تعلم المهارات اللازمة لشؤون الحياة وتعلم المعايير الخلقية والقيم
والاستعداد لتحمل المسؤولية وضبط الانفعالات وهذا يكون إعدادا لمرحلة المراهقة. ويعتبر علماء النفس أن هذه المرحلة هي من أنسب المراحل لعملية التطبيع الاجتماعي، كما ويلاحظ أيضًا نمو الضمير والرقابة الذاتية على السلوك. وفي هذه المرحلة يستمر التفكير المجرد في النمو ويستطيع أن يقوم بالتفسيرات بدرجة أفضل من قبل، ويستطيع أن يلاحظ الفروق الفردية. كما ويزداد مدى الانتباه وتزداد القدرة على التركيز وتتطور الذاكرة ويصبح بمقدوره التذكر عن طريق الفهم. ويثبت الخبراء أن الطفل بحاجة إلى تقبل السلطة لأنه يحتاج إليها، فسلوكه وتصرفاته ما زالت غير ناضجة وخبراته فجة، ولا بد أن نراعي حزمنا مع أطفالنا وأن تكون معاملتنا حنونة وهي حازمة.
كما وعلينا أن نراعي أيضًا نقطة هامة جدًا؛ والتي شدد عليها الخبراء في الصحة النفسية: ألا وهي عدم استخدام العقاب بمفرده كوسيلة للتعليم وإنما يجب أن يكون هناك أيضًا الثواب، وكي نفهم هذا بصورة أوضح علينا أن نتطرق لقانون الثواب والعقاب في علم السلوك. لقد اهتم جمع كبير من علماء النفس بقضية الثواب والعقاب وكانت هناك عدة بحوث تجريبية في هذا الموضوع وكانت النتيجة كالأتي: أن الثواب أقوى وأبقى أثرًا من العقاب في عملية التعلم وأن المدح أقوى أثرًا من الذم بوجه عام. وذلك يعني أنه إذا ارتكب طفل ذنب ما، وعاقبناه (ليس جسديًا) يجب علينا أن نثيبه عندما يقوم بجهد أو عمل طيب. أي أن العملية تداولية وليست تقتصر على العقاب أو الثواب. وقد توصل العالم النفسي الشهير ثورندايك وغيره إلى أن أثر الجزاء -ثوابًا كان أم عقابًا- يبلغ أقصاه حين يعقب السلوك مباشرة، ولكن أثره يضعف كلما طالت الفترة بينه وبين السلوك.
ولكي يكون الجزاء مثمرًا وذو نتيجة يجب أن يكون عاجلاً ومباشرًا، أي حينما يقوم الطفل بعمل جيد نثيبه مباشرة لفظيًا كان أم عمليًا، وإن أذنب علينا أن نعاقبه (ليس جسديًا) مباشرة حتى يكون الجزاء مثمرًا.
إن العقاب المعتدل المعقول (غير الجسدي) مدعاة في كثير من الأحيان إلى أخذ الحيطة والحذر وتجنب الأخطاء. أما العقاب الجسدي القاسي والذي يجرح كبرياء الطفل أو الذي يأخذ شكل التوبيخ العلني فهو ذو نتائج سلبية ودون فائدة، بل ويزيد من الأضرار النفسية كالكراهية، والشعور بالنقص وفقدان الثقة بالنفس والخجل. كما وإن العقاب الشديد يعيق العملية التعليمة بدل من المساعدة عليها.
لذلك حينما قال محمد عليه الصلاة والسلام: "واضربوهم عليها إذا بلغوا عشرًا"، كان يقصد الضرب الخفيف أي العقاب المعتدل، وقد أمر بذلك فقط حينما يصل الطفل إلى سن العاشرة وليس قبل ذلك، أي لا يجوز لك ضرب طفلك (الشيء الخفيف) قبل بلوغه العاشرة، وذلك لأن جميع العمليات العقلية والمعرفية تكون قد تطورت أكثر والمبنى الجسدي أصبح أكثر تحملاً.
وبما أن هذه المرحلة العمرية والتي تسمى "قبيل المراهقة" هي مرحلة مهمة، إذ أن الفترة التي تأتي بعدها هي المراهقة، والمراهقة فترة حرجة في حياة الإنسان إذ يقول عالم السلوك الشهير أريكسون: إن التغيير الجوهري في مرحلة المراهقة هو الإحساس بالهوية فإن تكتلت عليه المشاكل يحدث عنده ما يسمى بتشتت الدور، أي لا يعرف ماذا يريد وإلى أين يسعى. لكن إذا تمكن المراهق من التوفيق بين الأدوار المختلفة والمتنوعة، والقدرات والقيم، وإمكانه إدراك استمراريتها في الماضي والمستقبل فإن إحساس الهوية لن يفسح المجال لظهور تشتت الدور. لذا فإن محاولة إعداد الطفل وتعليمه بشيء من السلطة يعطي الطفل الإحساس بالمسئولية وأن الحياة ليست فوضى وإنما هناك ما يجب فعله وهناك ما يجب الابتعاد عنه. هذا الأمر يؤدي إلى إعداد الطفل لمرحلة المراهقة وهي المرحلة التي يبدأ فيها بالتقرب إلى عالم الراشدين والشعور بالمسؤولية وتوسع أبواب الحياة عليه ودخول عالم اكبر وأوسع، لذلك كان يجب عليه أن يعلم أن الحياة ليست كلها ثواب وإنما هناك شيء من العقاب، إن نحن تمادينا في اللامبالاة وعدم الاكتراث.
أما الجزء الأخير من الحديث وهو "فرقوا بينهم في المضاجع" فنابع من تطور النمو الجنسي في هذه الفترة من العمر والتي يطلق عليها اسم مرحلة ما قبل البلوغ الجنسي 9-12 سنة، وتعد تحولاً من حالة الكمون الجنسي إلى حالة النشاط الجنسي والذي يبدأ مع مرحلة البلوغ. وبما أن هذه المرحلة هي مرحلة انتقالية وتحولية، فعلى الآباء أن يعدوا أطفالهم لاستقبال البلوغ وذلك ببعض المعلومات والتوجيهات. فعندما يصل الأطفال إلى سن العاشرة والحادية عشر نجد أن لديهم حب استطلاع شديد عن النواحي التشريحية الجنسية والفسيولوجية والحمل والولادة والأمراض التناسلية. ومن الملاحظ أن ميلهم إلى الأمور الجنسية في هذه المرحلة يزداد، إذ أن ما يميز هذه الفترة هو الميل إلى الأمور الجنسية والتعرف عليها والعبث بها وهذا جعله الله تعالى ليكون تمهيدًا لمرحلة البلوغ والتي يمكن أن تحدث فيها عملية الزواج. كما وأن الانتباه في هذه المرحلة يزداد وتزداد دقته، الأمر الذي يساعده على إدراك الاختلاف بين الأشياء وإدراك الشبه أيضًا بينها. نتيجة لهذا فإنه يستطيع أن يقدم تفسيرًا بسيطًا للأمور، وهذه صورة راقية من التفكير لم نكن نلحظها في المراحل السابقة من النمو . لذا قال محمدا عليه الصلاة والسلام : "..وفرقوا بينهم في المضاجع"
وصدق الله العظيم حينما قال: "لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرا" (الأحزاب:21).
*اقرأ أيضا:
كراهية الأبناء للآباء / التربيةالجنسية والطفولة / كيف نُعد دستورًا أسريًا؟(2) / قواعد الصحة النفسية للطفل(4)