رغم أن الموت موجود في كل مكانٍ بالعالم، ورغم أن الطفل لابد يواجه الموت أو بمعنى أدق لابد أن يتعرض لموت أحدٍ من الأحياء من حوله سواء كانوا بشرا أو قططا أو عصافير، ولابد يكونُ له ردُ فعلٍ يعتمد أساسا على ما يقال له من الآخرين لتفسير ما حدث وعلى قدرته على فهم ما يقال وتكوينه المعرفي النامي وخلفيته الثقافية، وكذلك يعتمد رد الفعل القريب والبعيد على المستوى النفسي على السماح له بالتعبير عن تساؤلاته ومشاعره في وقت مواجهة الموت، إلا أننا في علم نفس التفكير وفي طب نفس الأطفال لدينا ما يمكننا من القول بأن الطفل الصغير في مرحلة ما قبل المدرسة ورغم تعرضه لمفهوم الموت في من حوله في أي كائن كان حيا ثم مات، رغم ذلك فإن مفهوم الطفل للموت لا يكون واضحا ولا مكتملا ويتباين أشد التباين بين طفلٍ وآخر.
فحسب معطيات الدراسات الغربية يتميز أو يتسم تفكير الطفل في سن ما قبل المدرسة بالتمركز حول الذات Egocentrism وبالتفكير الخرافي أو السحري Magical Thinking وبالاعتقاد في حيوية المادة Animism ، وبعدم دقة الإحساس بالوقت وكذلك عدم دقة فهم أو توقع السببية في حدوث الأشياء، ولذلك فإن قدرة الطفل على فهم الموت أو تصور الطفل للموت في مثل هذه المرحلة قد يكون بأنه أمر يحدث تدريجيا أو أنه غير مكتمل الحدوث أو أنه نوع من أنواع العقاب أو ربما يرى الطفلُ الموتَ حدثا قابلا للعكس أي عودة الميت للحياة، أو ربما فكر بعض الأطفال في هذه المرحلة العمرية أن موت قريب أو حبيب هو بسبب أفكار الطفل أو أفعاله الشخصية!
وبينما يكون ذلك قبل المدرسة نجد في أطفال سنوات المدرسة الأولى أن التمركز حول الذات والتفكير السحري والاعتقاد بحيوية المادة كطرق تفكير جبرية في السنوات السابقة تصبح أقل قيادةً للتفكير، وتتحسن دقة الإحساس بالوقت كما تتحسن القدرة على فهم السببية في حدوث الأشياء، ورغم وجود فروق معرفية كبيرة واختلافاتٍ واسعة في النمو النفسي والاجتماعي بين مختلف الأطفال في تلك المرحلة وما يليها وصولا إلى المراهقة، رغم ذلك كله فإن طفل العاشرة غالبا ما يستطيع فهم الموت كظاهرة تغيرٍ دائم نهائي وعالمي شامل، ويستطيع استيعاب مفهوم توقف الوظائف ومفهوم السببية.
وقد أجريت دراسة أردنية لتطور مفهوم الموت لدى عينة من الأطفال من خلال الإجابة على السؤالين التاليين: "ما هي الأسباب التي يقترحها الطفل للموت؟" و"كيف يتطور كل من مفهوم العالمية ومفهوم النهائية ومفهوم توقف الوظائف ومفهوم السببية؟ ".
وأشارت نتائج الدراسة إلى أن الأسباب التي اقترحها الأطفال للموت اختلفت باختلاف أعمارهم، فالأطفال بين سن الرابعة والسابعة قد ذكروا أسبابا متعددة للموت، كان أهمها القتل والسم، وبعد سن السابعة بدأ الأطفال يعينون أسبابا أخرى للموت، وأصبحوا يعتبرون المرض أهم الأسباب المؤدية للموت (وخصوصا أمراض القلب والسرطان)، وبالإضافة إلى ذلك ذكروا أسبابا أخرى للموت من أهمها حوادث السيارات، القتل والله.
أما بالنسبة لتطور مفهوم العالمية Universality فقد كان إدراك الأطفال لهذا المفهوم ضعيفا في سن الرابعة وبدأ يرتفع تدريجيا حتى استطاع غالبية الأطفال إدراك عالمية الموت في سن السادسة وفي سن التاسعة استطاع جميع الأطفال إدراك هذا المفهوم، كما وجدت الباحثة أن إدراك الأطفال لمفهوم توقف الوظائف قد شهد تذبذبا ملحوظا فبعد أن استطاع الأطفال في سن السابعة إدراك التوقف، لوحظ أنهم وبالذات في سن العاشرة قد أصبحوا يرون أن وظائف السمع والنوم والحلم لا تتوقّف مع الموت.
كذلك فقد أظهرت النتائج أن الأطفال استطاعوا إدراك نهائية الموت بشكل مبكر وسابق لإدراكهم لمفهوم عالمية الموت، حيث استطاع أكثر من (80%) من أطفال سن السادسة إدراك أن الموت حدث نهائي واستطاع جميع الأطفال في سن السابعة إدراك هذا المفهوم تماما…، وفي تلك الدراسة نقاطُ نقاش عديدةٍ تطرح أسئلة ونقاطَ بحث جديدة.
لكن المهم هو أن أطفال الأردن يفهمون الموت جيدا كما نفهمه نحن الكبار في سن بين السادسة والتاسعة، وأحسب أن الأطفال في فلسطين وفي العراق سيكونون أكبر إدراكا للموت في سنٍّ أصغر، لأسبابٍ يعرفها الجميع! فالموت حدث يومي متكرر في كل شارع وحارةٍ وبيت، الموت مختلف في فلسطين خاصة في أيامنا هذه، ولكنني ليست لدي معلومات عن دراساتٍ أجريت على أطفال فلسطينيين لقياس تطور ونمو قدرتهم على فهم الموت، وأحسب هذا تقصيرا مني أو من شبكة المعلومات العربية.
وأما كيف نساعد الطفل قبل سن التاسعة في فهم حدث الموت، فإننا في ضوء ما سبق نستطيع أن نختزل الزوايا التي ينظر منها الطفل إلى الموت إلى اثنتين:
إحداهما هي الزاوية المعرفية العقلية إذ يتساءل الطفل داخله أو يسأل المحيطين به أسئلة مثل: ما هو الموت؟ وما العلاقة بين الحياة والموت؟ وهل يفقد الميت جميع حواسه وقدراته وصفاته التي كانت وهو حي؟ هل يوما ما سيعود الميت؟ لماذا يدفن الميت؟ لماذا يموت الأحباء؟
ومن زاوية معرفية شعورية يتساءل الأطفال في مواجهة حدث الموت: ما هي المشاعر التي تصاحب الموت؟ وما هي مشاعر الميت عند حمله إلى المقبرة؟ وبماذا يشعرون بعد الموت داخل القبر؟ ومن هو المذنب في الموت؟
وعلينا مساعدة الطفل على فهم الموت بصورة صحيحة أي أن نجيب على أسئلته عن الموت بما نستطيع من صدق، وأن نساعده في التعبير عن إحساسه وعواطفه في حالة الموت بصورة طبيعية، وأن نشبع حب الاستطلاع لديه عن حالات الموت ونشرح ماهية الموت بصورة يستطيع فهمها.
ليس صحيحا إذن أن نجنب الطفل رؤية الميت، أو أن نتجنب الحديث عن الموضوع أمامه –خاصة في بلداننا العربية- فأطفالنا يحتاجون إلى مناقشةٍ بهدف الفهم والاستطلاع، وإلى تفريغ لما لديهم من مشاعر وإشباع لما لديهم من أسئلة، ونستطيع الاستعانة بآياتٍ قرآنية في ذلك:
فلبيان عالمية الموت وإلى أين يذهب من يموت نذكر قوله تعالى (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ )(العنكبوت:57 )، ولبيان أننا لا نستطيع معرفة متى ولا كيف ولا أين سنموت نذكر قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير(ٌ (لقمان: 34)، ولبيان أننا لا نستطيع الهروب من الموت أو الملاذ إلى شيء يحمينا منه نذكرُ قوله تعالى (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ)(النساء: من الآية 78).
أحسب أنني وضعت بعض النقاط ولم أجب إجابة وافية على سؤال المقال الأساسي كيف نشرح الموت للطفل؟ لكنني أترك الباب مفتوحا للمشاركات، وأحسب أننا ما نزال في حاجة لمزيد من الدراسات عن مفهوم الموت لدى أطفالنا في المنطقة العربية، وفي نفس الوقت أتوقع مشاركة من المستشارة داليا الشيمي تمطرني فيها بنتائج دراساتٍ أجراها الباحثون في علم النفس في المنطقة العربية عن فهم الطفل للموت وأنا معترف بالتقصير في الإلمام بدراسات إخواننا في فلسطين، ولا أدري إن كانت دراساتٌ أجريت في مصر المحروسة أم لا؟ وسبب ذلك هو أنني غالبا ما أستقي المنشور بالعربية على الإنترنت وهو بالتأكيد أقل كثيرا مما تزخر به رفوف مكتبات جامعاتنا العربية من أبحاث وأطروحات ماجستير ودكتوراه وربما تكونُ داليا أكثر اطلاعا على المنشور ورقيا في علم النفس.
واقرأ أيضاً:
مفهوم الأسرة وفلسفتها / أبناؤنا والأسر المعتلة / شخصية الطفل