الولادة وما بعدها والتفاعل بين الأهل والرضيع
إن الأيام والأسابيع التالية للولادة هي فترة يدرك فيها الزوجان واقعهما الجديد، وغالباً ما تكون هذه الفترة صعبة على الزوجين لحاجتهما للتأقلم مع وجود الفيزيائي للطفل وتعلم القدرة على تلبية حاجاته. إن الانفصال الفيزيائي الجسدي بين الأم ووليدها لحظة الولادة يؤدي إلى وقوعها تحت وطأة شدة عاطفية، فهي التي اعتادت خلال أشهر الحمل أن تكون متحدة مع طفلها تجده منفصلاً ومستقلاً عنها بعد الولادة. إنّ عدداً من الأمهات تشعر بالقلق حين ابتعاد أطفالهن عنهن لأي فترة من الزمن، وعندما تتغلب الأم على شعورها بفراغ رحمها من الطفل فهذا يعني أنها بدأت تدرك أنه بات منفصلاً عنها وله حاجاته الخاصة به، وبينما كان الأب يرى الأم والجنين في الحمل كوحدة واحدة فإن عليه أن يتقبل حقيقة كون طفله منفصلاً عن زوجته.
إن العناية بالطفل وهو خارج جسم الأم هو وضع يتطلب التأقلم من جديد، فلم يعد باستطاعة الزوجان الاعتماد على جسم الأم للعناية بالطفل بل أصبحت حاجاته الآن بحاجة لعمل والجهد لإشباعها؛ فتهدئته حين انزعاجه تتطلب مهارة بالعناية بالطفل، ويكون الزوجان- في حالة الطفل الأول بالذات لا يملكانها. خلال فترة تعلم الأب والأم لم يكن هناك إلا القليل القليل لتأهيلهما للعناية بطفلهما بعد مغادرة المشفى، مما يستدعي تعلمهما المبادئ الأساسية للعناية بالأطفال مع ملاحظة حاجات طفلهم الخاصة وشخصيته المستقلة. في العادة يصدم الأهل حين يرزقون بطفلهم الأول بالدرجة التي يجب أن تتغير بها حياتهم للتأقلم مع حاجات طفلهم العاطفية والجسمية، وبما أن كثير من الأزواج حالياً يعيشون بعيداًً عن عائلاتهم الممتدة فإن عبء العناية بالطفل يقع على الأب والأم فقط وكثيراً ما يكون العبء على الأم وحدها.
وحتى بالنسبة للذين يملكون خبرة ويعرفون المبادئ الأساسية للرعاية بالطفل فإن الإطعام المتكرر للطفل يمكن أن يكون مرهقاً، وبكاءه المستمر قد يكون مزعجاً. والأهل الجدد الذين ليس لهم علاقات اجتماعية مع أهل آخرين تأخذ بهم المفاجأة في الأشهر الأولى من العناية بالطفل أن حياتهم قد تغيّرت بشكل ملحوظ، وتكون هذه الفترة صعبة بالنسبة لهم فالكثير منهم يخفون شعورهم بخيبة الأمل والانزعاج لأنهم يخلطون بشكل خاطئ بين شعورهم نحو الطفل وبين شعورهم بالانزعاج من وضع صعب عاطفياً وجسمياً، لكن عندما نعلّمهم أن الشعور بالامتعاض من الحالة الداخلية وعدم الارتياح الناجم عن المولود الجديد لا تعني رفض الطفل أو كراهيته، فالأهل يستطيعون تقبّل الشعور بالحب تجاه الطفل والإحساس بالامتعاض في الوقت ذاته، ويمكنهم بعد ذلك الاستمتاع بالتعرف على طفلهم ككائن حي يتفاعل معهم ويستجيب لهم.
خلاصة
لقد حاولت في هذا الفصل أن أوضح العلاقة بين الأهل والطفل كعلاقة ديناميكية متبادلة بين الطرفين، حيث كل طرف يؤثر ويتأثر بالطرف الآخر.
إن أفراد معظم العائلات متعلقون ببعضهم بدرجة ما، فكل منهم يتأثر بحاجات وأفعال الآخرين.
موت الجنيـن والوليـد
"لقد كان الزواج كما أردت وكذلك الحمل، إني أشعر بالرضى، فأشعة الشمس تغمر منزلنا وكل شيء على ما يرام، فطفلي موجود هنا وأشعر به وألمسه، وأنا أنتظر يقظته الأولى وابتسامته الأولى. فجأة في ليلة واحدة باغتني النزف والقلق، سيارة أجرة تأخذنا إلى المشفى وهناك يقال لي: سيدتي يجب عليك ألا تفكري بطفلك بعد الآن! لماذا لا أفكر بطفلي الذي انتظرته تسعة شهور؟! أعتقد أني سأموت من الحزن، إن زوجي هنا قريب يقبّلني، أريد أن أبكي أو أنام حتى لا أفكر بأي شيء، أريد أن أدفن أحلامي وأحزاني وعندما أستيقظ فإني أرى وجوهاً متعاطفة معي تمر بجانبي لكنهم لن يفهموا ما أعانيه. لقد كانت فتاة وكانت ستعيش لكنها توفيت ويظن الآخرون أن الأمر حادث عرضي، حادث! لا إنه بالنسبة لي إخفاق وأن أشعر بالغيرة، لماذا أنا بالذات دون البقية؟. عندما عدت إلى المنزل لم يعد هناك شمس ولا ألعاب ولا ألوان، البيت هادئ وغرفة الطفلة دون طفلة... "هذا مقطع من كتاب"C,est quoi une madame sans BEBE كيف تكون السيدة من دون طفلها".
إن التأثيرات النفسية والجسدية لفقدان الطفل أو أي شخص آخر نحبه غدت الآن معروفة، لكننا فقط في السنوات الأخيرة بدأنا نقدّر أن فقدان الطفل في فترة ما حول الولادة Perinatal Death سواء كان إسقاطاً miscarriage أو فقدان جنين وليد هو أمر محزن إن لم يكن أشد حزناً من فقدان الأشخاص المحبوبين الذين عشنا معهم فترة طويلة. وكما قال عدد كبير من الأزواج فإن فقدانهم الأهل هو فقدان لماضيهم، أما فقدان الطفل فهو فقدان لمستقبلهم.
الوفـاة في فتـرة الـولادة
إن التقدم والتطور في مجالات عدة ومنها المجال الصحي قد خفف نسبة الوفيات عند الأطفال إلا أنه لم يلغها، وربما كانت قلة هذه الوفيات هي التي تجعل الحزن المرافق لها شديداً ومستمراً، لكن كيف يمكن لأهل أن يحزنوا على طفل لا يعرفونه؟ إن الجواب بسيط فهم مترقبون كانوا في مخيلاتهم يحبون طفلهم يعرفونه ويستعدون لاستقباله.
مع العلم أن درجة تعلق الأهل المترقبين لطفلهم غير المولود لم تقدر بدقة كما يجب حتى وقتنا الحاضر، ولكن أصبحنا نعرف أن التعلق بالطفل غالباً يبدأ قبل حدوث الإخصاب prior to conceptin وفي معظم الأحوال يبدأ خلال الحمل بالتأكيد. ومع تطور وسائل السيطرة على الحمل فإن كثير من الأزواج الجدد أصبح يؤجل الحمل لتأمين مورد مالي أكثر ثباتاً للعائلة. وتدلنا كثافة النقاش حول الحمل الذي يحصل منذ تقرير الرغبة في الزواج وفي الفترة الأولى من الزواج على أن الرغبة بالحصول على طفل وتمني ذلك تبدأ منذ فترة قد تمتد لسنين قبل حدوث الحمل.. وعند حصول الحمل فان وسائل التشخيص المعاصرة بالأمواج فوق الصوتية (الايكو والايكو دوبلر) وبزل السائل الامنيوسي تمنح الأهل صورة ما عن طفلهم، فهذه المعلومات تجعلهم يشعرون أن طفلهم غير المولود هو طفل موجود وحقيقي ويتطور، كما أن تغيرات جسم المرأة وضربات قلب الجنين وحركاته تؤكد للأهل أن طفلهم حقيقي واقعي. ويتوافق مع تشكل هذا الكائن الحي الجديد تشكل حياة جديدة بالنسبة للأبوين وتبدأ التغيرات بالحدوث، مثل تغير خطط العمل وانتقاء منزل أكبر وتحضير غرفة الطفل.
وعند انتهاء حالة الحمل بنهاية مأساوية، فإن الأحلام تنهار وتضيع، وخطط المستقبل تذهب ويحل الحزن والشعور بالذنب محل الفرح والترقب، ويخشى الزوجان من عدم قدرتهما الحصول على طفل وعدم قدرتهما الاعتماد على أجسامهما فيشعران بالفشل لعدم قدرتهما على تحقيق أحلامهما بالإضافة إلى لأحلام والديهما في أن يصبحوا أجداداً وتوقعات أصدقائهم في سماع أخبار جيدة، ويبدو المستقبل بالنسبة لهم لا معنى له، وتقول إحدى الأمهات: "والآن ماذا بعد؟ لقد تركت عملي ويفترض بي أن أكون في المنزل مع طفلي ولكني في منزلي وحدي وثدياي يدران الحليب بلا جدوى، أشعر بأني عديمة الفائدة.. لقد فقدت مستقبلي".
وتقول أم أخرى: "لقد شعرت أنّ الحزن يلفني لعدة أشهر ولم يكن هناك ما أستطيع أن فعله للتخفيف من ذلك الشعور، وتصورت نفسي شجرة مغطاة بالثلج تنتظر أن تقطع"، إن أكثر الأعراض إزعاجاً هو الشعور اللامنطقي بالذنب فهي تظن أنها فعلت شيئاً أدّى لوفاة الطفل، أو أنها لم تفعل شيئاً لإنقاذه، وتقول إحدى الأمهات: "أنا أعرف أن هذا ليس صحيحاً لكن لا أستطيع سوى أن أفكر بأنني لو غذيت نفسي بشكل أفضل أو لو مارست التمرين بشكل أقل فلربما لم يفقد طفلي فرصة الحياة"، ويمسي هذا الشعور أكثف وأثقل عندما يكون سبب الوفاة غير واضح. إن الأطفال الذين فارقوا الحياة بسبب كون الطفل مشوهاً خلقياً ربما شعر أهلهم بالذنب لأنهم يحملون مورثات (gene) معطوبة، وهنا فحص المورثات قد يكون عنصراً مساعداً في تبديد شعورهم هذا، إلا أن أكثرية الأهل الذين يساورهم إحساس بالذنب هم ممن يملكون أسئلة لا إجابة لها؛ مثلاً: فيما إذا كان عليهم أن يذهبوا في تلك الرحلة، أو أن يمارسوا الجنس في تلك الفترة من الحمل، أو حمل ذلك الصندوق مثلاً، أو دهن تلك الغرفة... وغالباً ما يخفي أحد الزوجين تلك المشاعر عن الطرف الآخر، فمثلاً: بعد عدة أشهر من فقدان الطفل صارحت إحدى الزوجات زوجها بأنها تعرف أنه يلومها على فقدان الطفل وكم فوجئت عندما علمت أن الزوج يلوم نفسه لأنه لم يساعدها بدرجة كافية في أعمال المنزل. إن هذا الشعور اللا عقلاني يجب أن يوجّه بشكل سليم من قبل الطبيب وإلا فإن عبء الذنب سيثقل كاهل الزوجين ربما مدى الحياة.
الإســـقاط
في حالة الإسقاط أو الإجهاض العفوي spontaneous Abortion (أي فقد الجنين بين فترة الإخصاب وحتى الأسبوع العشرين من الحمل) فإن خوفاً من صعوبات في الحمل مستقبلاً أو حتى الشك المطلق بإمكانية الحصول على طفل يسيطر على الأزواج، وعلى الطبيب أن يكون واعياً للمشاعر الناجمة عن ذلك وواعياً لتلك المخاوف. إحصائياً، فإن أكبر سبب لفشل الحمل هو الإسقاط، لهذا يعتبره الأطباء مشكلة طبيّة ويعالجونها بطريقة ميكانيكية، وهناك نسبة من الأطباء لا يعتبرون حالات الإسقاط ذات خطورة إلا في حال تكرارها لثلاث مرات!، لكن مع الأسف فإن الخوف من المجهول عند الأهل يكون قد لعب تأثيراً عاطفياً مخرباً في حياتهم، فتصبح الأم بشكل خاص منشغلة تماماً بالبحث عن اضطراب وظيفي في جسمها أو عن اضطراب في مورثات تحملها، وتنشغل بشكل مطلق في تدبير الحمل التالي وحتى دون استشارة طبية مناسبة فإنها يمكن أن تحدد بشكل شديد فعاليتها الجسمية والجنسية وعملها.
ربما يكون الطبيب واثقاً من أن الزوجين سيحققان قريباً حملاً ناجحاً حتى النهاية، لكن هذه الثقة قد لا تتوفر عندهما ولذلك فإن مخاوفهما يجب أن تكشف وتناقش، ويجب أن نسمح لهما بالحزن على طفلهما المفقود وأن نتيح الفرصة لهما للحديث عن هذه التجربة مما يجعلها أكثر واقعية. إن الحمل قد ينتهي بصورة مفاجئة وبسيطة بحدوث نزف تجريف لباطن الرحم Curettage ويصعب على الزوجين تقبل أن ذلك قد حدث، لذا فمن المهم أن نسمح للزوجين برؤية ما انقذف من الرحم إذا أمكن ذلك حتى لا يبقى من شك بانتهاء الحمل. وهناك عدد من الأزواج الذين يرفضون مناقشة حدوث إسقاط، وهؤلاء عادة أشخاص خائفون لا يدركون مدى تعلقهم العاطفي بالحمل. بقي أن ننتبه بالنسبة للأزواج الذين يعانون من حالة عقم مديدة لأن الإسقاط يصبح مسيطراً على كل اهتماماتهم الأخرى في الحياة.
موت الجنيـــن
إن فقدان الجنين هو خسارته بين الأسبوع العشرين من الحمل وموعد ولادة الطفل ميتاً. ومع تطور وسائل التشخيص أصبح الطبيب قادراً على تشخيص موت الجنين قبل الولادة، ورغم أن تشخيص موت الجنين قبل الولادة لا يبعد الحزن عن الأهل بشكل مطلق لكنه يسمح لهذا الحزن أن يأخذ شكل متدرجاً، وعندما يكشف الإصغاء لقلب الجنين أو الأمواج فوق الصوت غياب دقات الجنين فإن الخوف الأكبر عند معظم الأهل يصبح حقيقة واقعة. وهنا من الأهمية أن يكون الطبيب صريحاً وواضحاً مع الأهل حول ما حدث، كما يجب أن يساعدهم على التعامل مع هذه النهاية غير المتوقعة. فصبر الطبيب وتفهمه لمشاعر الأهل بالإضافة إلى تزويدهم بالمعلومات اللازمة حول فقد الجنين قد يساعدهم على اتخاذ القرار الصعب في تحديد زمن استخراجه. في بعض الحالات من المناسب للأم أن تبق على الحمل حتى حدوث المخاض ذاتياً مع علمها بوفاة الجنين، وخلال هذه الفترة قد تعاني من مشاعر متناقضة ambivalent feelings لحملها الجنين ميتاً لحين حدوث الولادة. وهنا من واجب الطبيب أن يساعد المرأة على التعامل مع هذه المشاعر وأن يوضح لها أهمية الولادة المهبلية عوضاً عن القيصرية. وفي العادة يبدي الزوج تقبلاً أكبر لحقيقة موت الجنين من الأم التي لا تصدق ذلك حتى حدوث الولادة، إلا أن مخاوف من نوع آخر تراوده حول صحة الزوجة والقلق من أنّ مكروهاً قد يلحق بها.
إن موت الجنين حتى وإن كان متوقعاً يظلُّ صدمة حين حدوثه وعوضاً عن بكاء الطفل الذي يجب أن يملأ غرفة الولادة فإن سكوناً ثقيلاً يخيم على المكان. إن تشخيص وفاة الجنين غير المتوقعة حين الولادة يكون صادماً ليس فقط للأهل بل للطبيب والكادر الطبي، والمحاولات الفاشلة لإنعاش الطفل تجري في محاولة لتجنب المهمة الشاقة بتأكيد موت الجنين، إن معظم الأمهات يواجهن موت طفلهن بالإنكار فكثيراً ما نسمعهن يقلن: "إني لا اصدق أن طفلي قد مات"، إن الصدمة الحادثة تساعد على احتواء المأساة عن طريق تأخير وقع المأساة ولو ذهنياً.
إن الشعور بالخدر numbness شائع في الدقائق والساعات والأيام التالية لولادة الطفل المليص (الميت) stillbirth وتصف أم فقدانها لطفلها: "لقد شعرت بالشلل ودهشت كم كنت هادئة مباشرة بعد الولادة، ربما اعتقدت الممرضات أني قاسية callous لقد كنت في حالة خدر تام".. في حين قالت أخرى: "عندما رأيت الجنين أصبح الخيال حقيقة، كان ذلك أصعب من موت طفل في خيالي، لقد كان طفلاً حقيقياً ذاك الذي فقدته".
موت الطفل في فترة ما حول الولادة لا يختلف عن ولادته ميتاً من حيث الأسئلة التي يلقيها في وجه الوالدين، من قبيل: لماذا نحن؟. لماذا طفلنا؟. ماذا فعلت خطأ؟. وقد يلقيان في بعض الحالات باللائمة على الأطباء والمشفى بل وعلى نفسيهما إن لم يتضح سبب الوفاة. إن عدم قدرتهما على تحقيق اتصال بصري مع طفلهما Eye contact سيترك فراغاً مؤلماً جداً يفاقمه عدم القدرة على تكوين انطباع عن هوية الطفل، وتالياً غياب ذكريات حب وعاطفة يخلقها تفاعلهما معه مما يجعل الآثار التي يخلفها الأسى أكثر قسوة بالنسبة لهما كما سأشرح في فقرات لاحقة.
وللحديث بقية............. بداية الحياة: موت الوليد
المصدر: المجلة الإلكترونية للشبكة العربية للعلوم النفسية