سنوات الطفولة الأخيرة: المثابرة مقابل الدونية
مجموعة الزملاء وقواعد اللعبة
يحدث في هذه المرحلة من الحياة أقل قدر من المشكلات بالرغم من التقلّب والتردد في الأدوار، فهذه المرحلة لا يوجد فيها مشكلات ضخمة بل تتسم بالسعادة والإشراق، فإذا سنحت الفرصة للمرء بالعمل في معسكرات أطفال هذه المرحلة كمستشار أو مدرس أدركنا أن تعليم أطفال صفوف الثالث والرابع والخامس وإدارتهم سهلة، يستمتعون بالأشياء، يرغبون بالتعلّم، فعّالون كمجموعة بناءة، إنّها مرحلة تعزيز النمو الجسدي والفكري، وتعزيز السيطرة المتزايدة للأنا الأعلى.
وكما وصف ايريك إريكسون Erik Erikson هذه المرحلة من الحياة يتشكل فيها الهيكل النفسي والاجتماعي الذي يطور الطفل من خلاله المثابرة وبالطبع لا شيء في تطور الإنسان يسير على وتيرة واحدة فلا بد من وجود الصواعد والنوازل أي التقدم والنكوص، ولكن هذه المرحلة تعتبر من أطول المراحل التي يحدث فيها تماسك هادئ نسبياً. وإذا لم يحدث هذا التماسك أي إذا طوَّر الطفل شعوراً عاماً بالدونية والنقص سيؤدي هذا بالطفل إلى مواجهة مشكلات كثيرة خلال المرحلة التالية مرحلة الغليان البيولوجي أي مرحلة البلوغ.
الطبيب والطفل أثناء سن الكمون
أريد أن أعرض ببضع كلمات مشاكل الأطفال خلال هذه المرحلة وكذلك بعض الأسباب التي تدفعهم لمراجعة الطبيب في هذه الفترة، وبما أن معظم حياة الطفل يقضيها في المدرسة لذلك فإن الحالة الأكثر شيوعاً والتي سيقابلها الطبيب هي أن الطفل يعاني من مشاكل في المدرسة، وهناك العديد من تلك المشاكل منها:
أولاً: أن الطفل لديه عدم القدرة على التعلّم Leaning Disability ولأهمية هذا الموضوع سأكرس فصلاً بكامله حول هذه المشكلة لأنها تعتبر مجالاً معقداً بشكل كبير. الكثير من العوامل التي تشترك في فعالية مثل تعلم كيفية القراءة، وهناك أولاً الجهاز البيولوجي. ومن الضرورة بمكان أن نتذكر أن نضج الأطفال يتم بمعدلات مختلفة كما أن البنات ينضجن بشكل أبكر من الفتيان. فهناك معطيات بيولوجية يحتاجها الإنسان لكي يصبح قادراً على تعلم كيفية القراءة؛ فالعيون مثلاً عليها أن تناسق Coordinate لكي تتبع الكلمات المكتوبة، كما يجب أن يكون هناك تكامل بين الإدراك الحسي وبين القدرات الحركية.
وفي الحقيقة فإن الأطفال الذين يعانون من مشكلة القراءة لديهم مشاكل حسية حركية كنتيجة لأذى دماغي خفيف Minimum Brain Damage ويمكن أن تظهر من خلال بعض التجارب النفسية والعصبية، وعلى كل فإن انطباعي هو أننا نطلق تشخيص خلل الوظيفة الدماغية الخفيف (خ د خ) Mimimal Brain Dysfunction بشكل غير صحيح على أولئك الأطفال الذين ليس لديهم أذى دماغي حقيقي ولكنهم يعانون من نضج بطيء، وحرمان اجتماعي Deprivation، ومرض انفعالي Emotional Illness وكذلك العديد من العوامل التي تسبب لهم مشكلة في القراءة والكتابة.
إن خطأ التشخيص ليس هو المشكلة فحسب وإنما إعطاء الأمفيتامين الذي يبدي فائدة لدى بعض الأطفال الذين لديهم أذىً دماغي خفيف Minimum Brain Damage MBD وإن إعطاء هذه الأدوية بشكل غير مناسب للأطفال وبدون تقييم تشخيصي دقيق هو المشكلة. إن سوء المعالجة هذا كثير المشاهدة حتى في أكثر الدول تطوراً كأميركا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا و.. حيث نجد أعداداً مذهلة من الأطفال يتناولون الأمفيتامين خلال فترة الدراسة الابتدائية، لذلك يجب أن يكون هناك تقييم أفضل لتصحيح الخطأ.
أما المشكلة الثانية كثيرة الشيوع هي الاضطراب المسلكي Conduct Disorder ولكن مرة أخرى فإن هذا التشخيص شخصي Subuective وليس موضوعياً وهو منتشر بكثرة وبشكل خاطئ.
فمثلاً يمكن للطفل أن يمر بأوقات عصيبة عندها يثير الفوضى فيصفه المعلم قائلاً: "إن هذا الطفل لا يمكن تحمّله ويجب أن يؤخذ إلى طبيب الأطفال أو إلى الطبيب النفسي" وعندها يطلق تشخيص طفل ذو الفعالية المفرطة Hyperactive أو متلازمة فرط النشاط الحركية ونقص الانتباه (ADHD) بشكل غير صحيح من قبل طبيب الأطفال لهذه السن الخاصة. وهكذا يساء استعمال الأدوية وخصوصاً الأمفيتامين والبريتورات، مع العلم أن الكثير من الأطفال لا يستطيعون الجلوس في غرفة الصف لساعات طويلة دون تعليم فعّال Effective . لذلك يجب أن يكون هناك استراحات متتالية خلال الجدول الدراسي اليومي Schedule وكذلك منح الفرصة لهم لممارسة الرياضة وممارسة فعاليات جسدية أخرى.
وهكذا فإن معالجة هذه المشاكل الاجتماعية والثقافية المعقدة لا تكون بإعطاء هؤلاء الأطفال الأدوية لتسوية سلوكهم أو لتصحيح عجزهم في التعلم بالرغم من أن إعطاءهم أدوية هي وسيلة أقل تكلفة وأسهل ولكنها غير ناجحة. ومع ذلك يلجأ إلى هذه الوسيلة كثيراً والتي تعتبر أحد الأمثلة الواضحة على سوء استعمال الأدوية المنتشر في مختلف المجتمعات حتى المتطورة جداً.
هناك مشكلة أخرى لها علاقة بالمدرسة هي رهاب المدرسة School Phobia . فالحضور اليومي الإجباري للمدرسة يجعل تغيّب أي طفل عن المدرسة موضع انتباه من قبل إدارة المدرسة. وهناك بعض الأطفال الذين يهربون من المدرسة Truanting ليسوا رهابيين، فالطفل الرهابي هو الطفل الذي لا يستطيع مغادرة منزله وخصوصاً والدته ليذهب إلى المدرسة، فمثل هذا الطفل يعاني الكثير من القلق عندما يجبر على الانفصال والابتعاد عن أمه ويرغب بالبقاء في المنزل. أما الطفل المهمل المتهرب من أداء واجبه المدرسي فإنه لا يعاني من قلق كهذا كما أنّه لا يميل كثيراً إلى البقاء في المنزل مع والديه.
إنّ الطفل الذي لديه رهاب المدرسة ليس بمتمارض ولا بكاذب فالرهاب هو علامة تشير إلى مشكلة نفسية والتي يجب أن تقيّم وتعالج بشكل دقيق. هناك الكثير من العوامل المرضية والتي تختبئ وراء عرض كهذا وهناك الكثير من الطرق العلاجية التي تستخدم كحل لهذه المشكلة وكلها تعتمد على التقييم. إن القاسم المشترك لهذه الطرق العلاجية المتعددة هي التدخل لإعادة الطفل إلى المدرسة بأسرع وقت ممكن لأنه بمجرد أن يثبت الرهاب كنموذج سلوكي ثابت فإنه يصبح أكثر عنداً بكثير على العلاج، ويجب الانتباه إلى أن بعض الأعراض الفيزيائية التي يشكو منها الطفل قد تكون نتيجة لرهاب المدرسة.
وهناك مشكلة يصادفها الطبيب أحياناً هي السلس البولي Enuresis والتي يعاني منها بعض الأطفال في هذا السن. إن معدل السيطرة على التغوط والتبول يحدث خلال السنة الثانية أو الثالثة والنصف من عمر الطفل لذلك فإن الكثير من الأهالي عليهم أن يخفوا هذه المشكلة وهذا ما يؤدي إلى تواطؤ أفراد العائلة لكي تبقى هذه المشكلة سراً بعيداً عن العالم الخارجي. وهكذا فالطفل لا يستطيع الذهاب إلى المعسكرات لأنه يخجل. إن الأطفال الذين لديهم هذه المشكلة يصبحون موضع الهزء والسخرية ويطلق عليهم أسماء مختلفة من قبل الأطفال الآخرين وهذا ما يؤدي لدى بعض الأطفال إلى مشاكل في الشخصية Personality Problems مثل التثبيط والتضييق Inhibition And Constriction والتي تعتبر تالية لممارسات كهذه. ومن الواضح أن هذه المشكلة تحتاج إلى تقييم دقيق. والسلس البولي يحدث بنسبة 1 إناث / 3-2 ذكور وهي مشكلة شائعة جداً حيث ووجد أن 7% من عموم الناس لديهم سلس بولي بعد سن السابعة. ويجب الانتباه إلى أن العوامل العضوية تعتبر مسؤولة عن 5% من الحالات فقط ولكن يجب أولاً أن يفتش عنها وإذا وجدت فيجب أن تعالج جيداً.
أن أحدث الدراسات تدل على وجود عامل مؤهب وراثي، ولكن العوامل النفسية والتطورية تعتبر المسببات الرئيسة لهذه المشكلة ولذلك فيجب أن نقوم بتقييم دقيق لتطبيق المعالجة المثلى والمناسبة. وهناك العديد من وسائل المعالجة التي تبدأ بمنع تناول الطفل للسوائل في فترة مبكرة بعد الغروب وإيقاظ الطفل عدة مرات في السهرة وخلال الليل، والبعض يستخدم بعض الوسائل مثل الأجهزة الشرطية Conditioning Apparatuses التي كثر استعمالها في السنوات الأخيرة رغم الآثار السلبية التي تتركها على نفسية الطفل ونسبة فائدتها غير المقنعة نسبياً، وكذلك الأدوية التي كثيراً ما تستخدم بدون تقييم دقيق بالرغم من أن هذه الوسائل نافعة إلى حدٍ ما، فإن فائدتها أكثر عندما تستخدم بعد أن يتضح نوع الاضطراب الذي لدى الطفل.
مع العلم أن المعالجة النفسية والتي يشار إليها كمعالجة بدئية أو بالمشاركة مع طرق أخرى تعطي نتائج موثوقة أكثر. وغالباً ما يحتاج الأهل إلى موجه أو مستشار لكي يصبحوا قادرين على مساعدة ابنهم للتغلب على هذا السلس البولي. وأنبه هنا على أن المعالجة المبكرة تؤدي إلى نتائج أفضل. والأهم أن ينتبه الأهل إلى أنهم جزء من هذه المشكلة وهم الجزء الأهم في نجاعة علاجها.
هناك السلس الغائطي Encopresis والذي يعتبر مشكلة أكثر جدية وتحتاج إلى تقييم نفسي وطبي شامل دقيق. هناك مشكلة شائعة أخرى والتي يصادفها طبيب الأطفال أو الممارس العام قبل أن تحول إلى الطبيب النفسي وهي سوء التلاؤم الاجتماعي Social Maladjustment حيث يكون الأطفال منعزلين Loners ، لا يتلاءمون ولا يُقبلون لسبب أو لآخر من قبل بقية أفراد المجموعة في المدرسة. ولذلك نقرر مباشرة أن هناك مشكلة ما تعيق الطفل عن الاندماج مع الآخرين، مع العلم أنه من المحتمل ألا يكون هناك أي مشكلة. هناك بعض الأشخاص الموهوبين والمبدعين في عالمنا والذين كانوا منعزلين ولم يستطيعوا أن يتقبلوا تنظيم رفاقهم ولم يتمكنوا من التلاؤم مع المجتمع الذي وجدوا فيه فمثلاً ذلك الطفل الذي يستمتع بالشعر وبالأدب مع أنه طرد من قبل أصدقائه، فهنا إما أن نطلق عليه الحكم بأنه غريب أو جبان أو أن نحاول أن نقدر اهتماماته ونوجهها بالطريقة الإيجابية وألا نحكم عليه مباشرة بأنه يعاني من مشكلة لأنه لا يستطيع أن يتلاءم مع أصدقائه.
هناك مشكلة أخرى تبدأ في هذا السن من العمر هي الجنوح Delinquency . فكثيراً ما يتساءل الناس ماذا سيحدث للطفل الذي يعاني من حرمان اقتصادي واجتماعي أو يعيش ضمن عائلات ممزقة، هذا يعني أن هناك عالماً مختلفاً وعلى الإنسان أن يتفهم السلوك الناتج عن هذا العالم المختلف. فالطفل الذي يعيش في منزل غير كفؤ، ويعاني من نقص التغذية أو يتربى ضمن عائلة ذات بنية ممزقة وغير سوية سيتعرض بشكل أكبر إلى العنف وإلى الإساءة الجسدية والجنسية، فالبيئة كلها مختلفة (الحديث عن هذا الموضوع بالتفصيل يتعلق بجنوح الأحداث Juvenile Delinquency ولا مجال للتوسع هنا. أرجو أن أستطيع الكتابة عن هذا الأمر في المستقبل ضمن كتاب يناقش هذه القضية من مختلف جوانبها النفسية)، وأكتفي هنا بالإشارة إلى أن هؤلاء الأطفال سيتعرضون إلى العنف وإلى الجنس وبنفس الوقت سيبتعدون عن كل الفعاليات والاهتمامات الأخرى التي تقيهم من خروج الدوافع الجنسية والعدوانية لديهم، كذلك إن هؤلاء الأطفال غير متاح لهم أي نماذج أخرى يمكن أن تقودهم إلى إعادة توجيه طاقاتهم.
وهكذا، فضمن هذه البيئة سنشاهد جماعة مختلفة فهم لا يخرجون ليلعبوا في باحة المدرسة بالكرة وإنما يشكلون عصابة غايتها الضرب أو السرقة أو الاعتداء والاغتصاب أو أشياء من هذا القبيل. إن هذا بشكل أو بآخر نتيجة الحرمان المادي وكذلك التعرض المفرط لتنبيهات معينة، هذه التنبيهات والتي يجب وبالضرورة ألا يتعرض لها الطفل في هذا العمر، لأن الأطفال في هذا العمر يحتاجون إلى توازن، كذلك يحتاجون إلى حدود لتصرفاتهم Limits . بالرغم من أن أطفالنا يشبعون بالعنف أو الجنس Sexuality من خلال أفلام السينما والمجلات ومحطات التلفزة الفضائية وكذلك الانترنت وهذا ما سيؤدي إلى آثار لا نعرف الكثير من نتائجها على أطفالنا، ومن المحتمل أن تغيب مرحلة الكمون فلن يبقى هناك وقت كافٍ للأطفال لكي يجعلوا الأنا ego متماسكة بسبب انغماسهم بالمثيرات الجنسية والعدوانية، والوقت كفيل بأن يخبرنا عن أي نوع من الراشدين الذين سينشؤون من طفولة كهذه
المصدر: المجلة الإلكترونية للشبكة العربية للعلوم النفسية
ويتبع >>>>>>: اضطراب الوظيفة الوالدية والإساءة للأطفال
واقرأ أيضًا:
فهم الطفل والمراهق