|
|
|
إدمان الإنترنت .. داءٌ له دواء ::
الكاتب: د. وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 02/11/2003
طرأت
على المجتمعات البشرية خلال الأعوام القليلة الماضية تغيراتٌ هائلةٌ تعود في أصلها
إلى اختراق علمي كبير أتاح للبشر ما لم يكن متاحًا من قبل بشكلٍ لم يسبق حدوثه بهذه
السرعة على مر التاريخ البشري، وهذا الاختراق هو الثورة الهائلة في مجال
انسياب وإتاحة العلاقات والمعلومات عبر شبكة الإنترنت(أو
الشبكة العنكبوتية)، ولا ننسى أن الاختراق لم
يكن فقط في كمية وسرعة انتقال المعلومات، بل أيضًا في نوعيتها، فمثلا لم يكن متاحًا
أن تنتقل الصور بهذا الكم الذي تنتقل به المادة الفيلمية الآن، كذلك فإن الاتصال
بين الأفراد من أي مناطق العالم إلى أي منطقة فيه لم يكن أبدًا بمثل ما أصبح عليه
اليوم، في كل التاريخ البشري.
وقد كانت دراسة علاقة الإنسان بالآلة من قبل، تدور حول مفاهيم أبسط بكثيرٍ مما
أصبحنا نحتاج إليه الآن، فمن غير المنطقي أن نغفل أن التعامل مع الكومبيوتر، يختلف
عن التعامل مع أيٍّ من منتجات التكنولوجيا، لأن هناك ما يشبه العقل أو لنقل الكيان
المغاير، وهو من طبيعة هذا الكومبيوتر والتي تطورت بشكل مذهل خلال سنواتٍ قليلة،
وبالتالي فإن مفاهيم علم النفس القديمة والحديثة في تفسير العلاقة بالجماد لم تعد
صالحةً للتطبيق على الكومبيوتر فهو ليس جمادًا أو هو جمادٌ تستطيع الحوار معه
والتفاعل بشتى صور ذلك التفاعل.
وتطورت الأمور كما لمسناها كأطباء نفسيين من الآثار النفسية
لألعاب الفيديو التفاعلية الخطيرة التأثير في النفوس، إلى ألعاب الإنترنت
الأشد خطورةً لأنها أعطت الذات قدرة على التعدد أثناء الاتصال بالآخرين، فكل مستخدم
للإنترنت يستطيع اتخاذ ذات غير ذاته ويتواصل إما بذاته الحقيقية أو بذاته
الإليكترونية التي يصنعها على المقاس الذي يريد وبالشكل الذي يريد، بل ويستطيع أن
يصنع ذاتين وثلاثة وربما أكثر.
وكانت ألعاب الفيديو قد أوجدت حالاتٍ أطلق البعض عليها إدمان
ألعاب الفيديو أو الكومبيوتر وكان معظمهم من الشباب الذين قابلناهم أثناء
ممارسة الطب النفسي قادمين في صحبة الأهل الذين يشتكونَ من: الولد يترك الدرس
الخصوصي ويقيم في محل ألعاب الفيديو أو الأتاري أو محطة اللعبPlay
Station، أو أن الولد يضيع مصروفه كله على تلك الألعاب، أو أنه يسرق لكي
يواصل اللعب وهكذا إلى آخره، وقبل أن نحاول ابتكار أساليب علاج جديدةٍ تناسب مثل
هذه النوعية من المشاكل، وقبل أن تدرس الظاهرة بشكل كافٍ، تطورت الأمور بسرعةٍ جدا
إلى ألعاب أخطر وتغيرات تتم"داخل"
ذات مستخدم الإنترنت نفسه، فقد اكتشفت الذات البشرية فجأة من خلال ما تقدمه
الإنترنت من قدرات وطاقات أن بإمكانها أن تتعدد أو تتلون أو تنقلب إلى العكس، ولنا
أن نتخيل أن ألعابًا نفسيةً بعضها واع وبعضها غير واعٍ يمكن أن تحدث في ذات مستخدم
الإنترنت، وبينه وبين جهاز الكومبيوتر، وبينه وبين الشبكة، وبينه وبين الذات
الافتراضية (الإليكترونية بالنسبة لصاحبها)
التي يتفاعل معها عبر الشبكة.
كان لابد لنا من هذا التقديم لكي نطرح الأرضية التي قامت عليها مجموعة من المشكلات،
لم ندرك لا كمجتمع ولا كأطباء نفسيين أبعادها الحقيقية بعد، وإدمان الإنترنت
Internet Addiction هو
واحدٌ من أمثلتها ويعتبرُ جديدًا على المجتمعات العربية والمجتمع المصري بصفة خاصة،
ومصطلح إدمان الإنترنت في حد ذاته، مصطلح ما يزال تحت الدراسة والتغيير حسب مستجدات
الدراسات والبحوث، وآخر ما تم التوصل إليه في هذا المضمار هو
أن مدمن الإنترنت هو من يعاني من خمسة على الأقل من الأعراض الثمانية التالية:
1 ـ التفكير الدائم في الإنترنت حتى أثناء
البعد عن الكمبيوتر.
2 ـ الشعور بالرغبة في زيادة عدد ساعات
استخدام الإنترنت.
3 ـ البقاء على الشبكة لفترة أطول من المخطط
له .
4 ـ الفشل مرارًا في ضبط عدد ساعات استخدام
الإنترنت .
5 ـ التوتر عند عدم استخدام الإنترنت .
6 ـ الشعور بالندم على فقد مكتسبات معينة
وعلاقات، صفقات، التزامات، بسبب كثرة استخدام الإنترنت .
7 ـ الكذب على المحيطين لأجل التفرغ للمزيد من
استخدام الإنترنت .
8 ـ اللجوء للإنترنت للهروب من مشاكل الحياة.
كما أن إدمان الإنترنت عملية مرحلية، فالمستخدمون الجدد عادة هم الأكثر استخدامًا
وإسرافًا في استخدامها، بسبب انبهارهم بتلك الوسيلة..
ثم بعد فترة يحدث للمستخدم عملية خيبة أمل من الإنترنت، وحسب بعض الدراسات التي تمت
في هذا المجال فإن أكثر الناس قابلية للإدمان هم أصحاب حالات الاكتئاب والشخصيات
القلقة...
وأولئك الذين تماثلوا للشفاء من حالات إدمان سابقة، وتؤكد
بحوث نفسية حديثةٌ أن الاستخدام المفرط لشبكة الإنترنت يسبب إدماناً نفسياً قريباً
من الإدمان الذي يسببه التعاطي المكثف للمخدرات
.. وهذا الإدمان يؤثر على مزاج ونفسية الإنسان
في حالة الابتعاد عنه.. كما أن أحد مظاهر
الإدمان وهو "ظاهرة التحمل
Tolerance" أي
الميل إلى زيادة ساعات استخدام الإنترنت لإشباع الرغبة نفسها التي كانت تشبعها من
قبل ساعات أقل..، وكذلك ظاهرة
"الانسحابWithdrawal "
أي المعاناة من أعراض نفسية وجسمية عند انقطاع الاتصال بالشبكة ومنها التوتر النفسي
الحركي "حركات عصبية زائدة"
والقلق وتركز التفكير بشكل قهري حول الإنترنت وما يجري فيها..
وأحلام وتخيلات مرتبطة بالإنترنت وحركات إرادية ولا إرادية تؤديها الأصابع على
الكمبيوتر والرغبة في العودة إلى استخدام الإنترنت للتخفيف أو تجنب أعراض الانسحاب..
إضافة إلى الميل إلى الاستخدام بمعدل أكثر تكراراً أو لمدة زمنية أطول..
إلا أن العبارات التي نسمعها من كثيرين من مرضانا وكذلك بعض الأعراض التي ذكرناها
في هذا المقال تشير إلى أن كثيرًا من حالات إدمان الإنترنت يتحرك أصحابها داخل نطاق
اضطرابات الوسواس القهري OCD Spectrum، وهم أقرب إلى
الاندفاعية منهم إلى القدرة على التحكم في رغباتهم، خاصةً وأن إدمان الإنترنت ينتظر
أن يصنف في تصنيف منظمة الصحة العالمية للأمراض النفسية المنتظر
ICD-11 تحت اضطرابات العادات والنزوات
Habit & Impulse Disorders، وهي إحدى محتويات نطاق
الوسواس القهري، وتتسِمُ هذه الاضطرابات بسماتٍ ثلاث هيَ:
(1) الفشلُ في مقاومة اندفاعةٍ أو نازعٍ أو
هوًى للقيام بفعلٍ ما ضارٍ للشخص نفسه أو للآخرينْ.
(2) شعورٌ متعاظمٌ بالاستثارة قبلَ القيام
بذلك الفعل.
(3) الإحساس بالمتعة أو الرضى أو التخلص من
الضغط النفسي أثناء القيام بذلك الفعل.
والحقيقة أن كثيرين من مدمني الإنترنت أو استخدام الكومبيوتر بشكل عام تظهر
عليهم هذه السمات الثلاثة، ومن بين المرضى من الشباب من يؤكد أنه حين يبتعد كثيرًا
عن الإنترنت فإنه يشعر بالضيق وعدم القدرة على تحمل الآخرين، وأن مجرد سماعه لصوت
الدخول على الشبكة كفيلٌ بإزالة كل تلك الأعراض.
ومما يزيد الأمور اختلاطًا أن مدمني الإنترنت أنفسهم أشكالٌ
وألوان، فليس مدمن المواقع الجنسية كمدمن البحث أو كمدمن الدردشة!
أو اللعب على الشبكة، وهناك خمسة أنواع موصوفة من إدمان
الإنترنت حتى الآن:
1 ـ الإدمان الجنسي:
وهو ولع مستخدم الإنترنت بالمواقع الإباحية وغرف المحادثة الرومانسية، وقد يرتبط
هذا بعدم الإشباع العاطفي لدى الشخص أو بمعاناته من حالة نفسية معينة .
2 ـ إدمان الدردشة:
وفيه يستغني مستخدم الإنترنت بعلاقاته الإلكترونية عن علاقاته الواقعية.
3 ـ الإدمان المالي:
وهو ولع الشخص بالصرف المالي على الشبكة في ما ليس له حاجة فيه، كالقمار والدخول في
المزادات وأسواق المال لأجل المتعة لا التجارة الحقيقية .
4 ـ الإدمان المعرفي:
وهو انبهار الشخص بحجم المعلومات المتوفرة على الشبكة لدرجة انصرافه عن واجبات
حياته الأساسية.
5 ـ إدمان الألعاب:
وهو الولع بالألعاب المتوفرة على الشبكة بحيث تؤثر على الوظائف الأساسية في الواقع
الحياتي كالدراسة والعمل والواجبات المنزلية.
ومعنى ذلك أنه ليس هناك حتى الآن اتفاق على قبول إطلاق لفظ
إدمان على الاستخدام المفرط للإنترنت، ففي حين اقتنع
بعض العلماء بصلاحية مفهوم الإدمان لوصف الحالة، اعترض آخرون واعتبروا استخدام بعض
الناس للإنترنت استخدامًا زائدًا عن الحد نوع من أنواع الرغبات التي لا تقاوم(أو
الاندفاعة Impulse)، وبصرف النظر عن التعريف،
واختلاف العلماء في التسمية، فإنه لا خلاف على أن هناك عدداً كبيراً من مستخدمي
الإنترنت يسرفون في استخدام الإنترنت حتى يؤثر ذلك على حياتهم الشخصية.
وأحب في النهاية أن أطمئن الجميع إلى أن علاج
إدمان الإنترنت ممكن بفضل الله ولكنه: أولاً صعب،
وثانيا يحتاج إلى رغبةٍ أكيدةٍ من المريض في التعاون
مع المعالج ومع مساعديه من أفراد أسرته، ولعل أفضل ما ننصح به من يجد نفسه متورطا
في مثل هذا النوع من الإدمان هو أن لا يخفي تورطه مع الشبكة العنكبوتية، لا عن نفسه
ولا عن المقربين منه !لأنهم جميعا معالجون مساعدون, كما أن علاج الاضطرابات النفسية
الموجودة أصلاً أو التي نتجت عن الإسراف في استخدام الإنترنت كالقلق والاكتئاب كلها
أمورٌ لابد من التعامل معها للوصول إلى الخلاص.
0وبوجه عام نقول أن إدمان الإنترنت ولله الحمد
ليس في أغلب الحالات من أنواع الإدمان التي يصعب الخلاص منها أو علاجها، فلا تنطبق
عليه مقولة أنه داء بلا دواء، وهناك عدة طرق للعلاج أول ثلاث منها تتمثل في تغيير
الوقت الذي يدخل فيه الشخص إلى الإنترنت أو تأجيله بشكل أو بآخر والطريقة الثانية
هي إيجاد بعض الموانع الخارجية كضبط ساعة منبهةٍ قبل بداية دخوله الإنترنت بحيث
ينوي الدخول على الإنترنت ساعة واحدة قبل النزول للجامعة مثلاً ـ حتى لا يندمج في
الإنترنت، والطريقة الثالثة هي أن يطلب من المدمن تقليل وتنظيم ساعات استخدامه بحيث
إذا كان –مثلاً- يدخل على الإنترنت لمدة 40 ساعة أسبوعيًّا نطلب منه التقليل إلى 20
ساعة أسبوعيًّا، وتنظيم تلك الساعات بتوزيعها على أيام الأسبوع في ساعات محددة من
اليوم بحيث لا يتعدى الجدول المحدد .
وإن كانت هذه الطرق الثلاثة –عادة- لا تكفي في حالة الإدمان الشديد، بل يجب استخدام
وسائل أكثر هجومية مثل الامتناع التام عن استخدام أكثر مجالات استخدامه للإنترنت في
حين تترك له حرية استخدام المجالات الأخرى، فإذا كان المريض مدمنًا لحجرات الحوارات
الحية نطلب منه الامتناع عن تلك الوسيلة امتناعًا تامًا في حين نترك له حرية
استخدام البحث مثلاً، كما يستفيد البعض من وضع بطاقات يكتب فيها مساوئ الاستخدام
المفرط للإنترنت وتعلق بجوار الجهاز، كما يمكن أن تساعد في العلاج مجموعات من
الأفراد المشتركين في هذا النوع من المعاناة في دعم بعضهم البعض، وتسمى هذه
المجموعات بمجموعات الدعم Support Groups كما يحتاج
الأمر في كثيرٍ من الأحيان إلى إشراك الأسرة كلها في العملية العلاجية، بل ربما في
بعض الأحيان تحتاج الأسرة بأكملها إلى تلقي علاج أسري بسبب المشاكل الأسرية التي
يحدثها إدمان الإنترنت بحيث يساعد الطبيب الأسرة على استعادة النقاش والحوار فيما
بينها ولتقتنع الأسرة بمدى أهميتها في إعانة المريض، ليقلع عن إدمانه.
الكاتب: د. وائل أبو هندي
نشرت على الموقع بتاريخ: 02/11/2003
|
|
|
|
|
|
المواد والآراء المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
Copyright @2010 Maganin.com, Established by: Prof.Dr. Wa-il Abou Hendy - , Powered by
GoOnWeb.Com
|
حقوق الطبع محفوظة لموقع مجانين.كوم ©
|
|