|
|
|
صفحات مشرقة من التاريخ العربي ::
الكاتب: د.خالد حربي
نشرت على الموقع بتاريخ: 12/12/2004
أصالة الطب النفسي
الدراسة
الجيدة والمتأنية في المخطوطات العربية الإسلامية تكشف عن كنوز وذخائر وعلوم لم
تكتشف ومن أهمها علم الطب النفسي التطبيقي الذى ما زال فاعلا حتى اليوم.
من الثابت أن منظومة الطب العربي الإسلامي في عصر ازدهاره قد شكلت عبر مراحل مختلفة
بدءا بترجمة علوم الأمم الأخرى – وخاصة
اليونان – مرورا بالدراسة والاستيعاب والتنقيع
والنقد وانتهاء بالابتكار والإبداع، هذا فيما يتعلق بالطب الجسمي أما فيما يخص الطب
النفسي فيكاد يكون للعرب وللمسلمين السبق في هذا الميدان حيث استند العلاج النفسي
خلال عصور التاريخ قبلهم إلي السحر ورد المرض النفسي إلي قوي شريرة في استخدام
الرقي والتمائم والتعاويذ.
الرازي وأمراض النفس
هنا نجد الرازي كأعظم أطباء العرب والمسلمين وأكبر أطباء العصور الوسطي قاضية بل
وحجة الطب في العالم منذ زمانه وحتى العصور الحديثة يفكر كأول طبيب في معالجة
المرضي الذين لا أمل في شفائهم فكان بذلك رائدا في هذا المجال لقد رأي الرازي أن
الواجب يحتم علي الطبيب ألا يترك هؤلاء المرضي وأن عليه أن يسعى دوما إلي بث روح
الأمل في نفس المريض، ويوهمه أبدا بالصحة ويرجيه بها وإن كان غير واثق بذلك فمزاج
الجسم تابع لأخلاق النفس ومن أشهر الأمراض التي اعتبرها سابقوه مستحيلة البرء
.وعالجها الرازي،الأمراض النفسية والعقلية والعصبية.
وكما فعل الرازي بالنسبة للأمراض العضوية من تقديم وصف مفصل للمرض يشرح فيه
علاماته وأعراضه ثم يصف له العلاج المناسب فإنه قد فعل الشيء نفسه بالنسبة لهذه
الأمراض ومنم الأمثلة علي ذلك قوله(الغم الشديد الدائم الذي لا يعرف له سبب وخبث
النفس وسوء الرجاء ينذر بالماليخوليا)"المنصوري 211" ثم نراه يقدم له وصفا بليغا
لهذا المرض فيقول "ومن العلامات الدالة: حيث التفرد والتخلي عن الناس علي غير وجه
حاجة معروفة أو علة كما يعرض للأصحاء لحبهم البحث والستر للأمر الذي يجب ستره
وينبغي أن يبادر بعلاجه لأنه في ابتدائه أيسر ما يكون وأعسر ما يكون إذا استحكم
وأول ما يستدل عن وقوع الإنسان في المالنوخوليا هو أن يصرع إلي الغضب وإلي الحزن
والفزع بأكثر من العادة ويحب التفرد والتخلي (الحاوي/1/75).
وينصح الرازي أصحاب هذا المرض بالسفر والانتقال إلي بلد آخر مغاير لبلدهم في المناخ
فيقول( إذا أزمن بالمريض المرض فطال فانقله إلي بلد مضاد المزاج لمزاج علته فإن
الهواء الدوام لقاؤه يكون علاجا تاما وقد برأ خلق كثير من المالنخوليا بطول السفر(المرشد 116) وعن أعراض مرض الصرع يقول
الرازي( الكابوس والدوار إذا داما وقويا
ينذران بالصرع فبذلك ينبغي ألا نتغافل عنهما إذا حدثا وبودر بعلاجهما علي ما ذكرنا
في موضع(المنصوري 211) ومن أمثلة معالجات
الرازي في هذا الشأن ما يلي:
استدعي الرازي لعلاج أمير بخاري الذي كان يشكو من آلام حادة في المفاصل لدرجة أنه
كان لا يستطيع الوقوف، وعالجه الرازي بكل ما لديه من أدوية، ولكن دون جدوى وأخيرا
استقر الرازي علي العلاج النفسي، فقال للأمير أنه سوف يجرب علاجا جديدا غدا، ولكن
علي شرط أن يضع الأمير أسرع جوادين لديه تحت تصرفه، فأجابه الأمير. وفي اليوم
التالي ربط الرازي الجوادين خارج حمام بظهر المدينة، ثم دخل هو والأمير غرفة الحمام
الساخنة، وأخذ يصب عليه الماء الساخن وجرعة الدواء ثم خرج ولبس ملابسه وعاد شاهرا
سكينا في وجه الأمير، مهددا إياه بالقتل، فخاف الأمير، وغضب غضبا شديدا، وسرعان ما
نهض واقفا علي قدميه، بعد أن كان لا يستطيع، وهنا فر الرازي إلي الحمام إلي حيث
ينتظر خادم الأمير مع الجوادين، فركبا وانطلق بسرعة. وعندما وصل
الرازي إلي بلده،
أرسل إلي الأمير رسالة شارحا فيها ما حدث من أنه لما تعسر علاجه بما أوحاه إليه
ضميره، وخشي من طول مدة المرض، لجأ إلي العلاج النفساني. واختتم الرسالة بأنه ليس
من اللياقة أن يقابل الأمير بعد ذلك، فلما عزم الرازي علي عدم الرجوع، أرسل إليه
الأمير مائتي حمل من الحنطة، وحلة نفيسة، وعبدا وجارية، وجوادا مطهما، وأجري عليه
ألفي دينارا سنويا" (الحاوي3 – 63).
وخلاصة القول أن الرازي كان سباقا في الاهتمام بمعالجة أصحاب الأمراض النفسية، فسجل
بذلك للمسلمين والعرب أروع الصفحات في تاريخ الإنسانية، فقد كان اليونان يأمرون أهل
المريض الذي يعاني ضعفا في قواه العقلية بحبسه في منزلهم، حتى يمنع ضرره عن
المجتمع. وكانت أوروبا في العصور الوسطي تعامل أصحاب هذه العلل أسوأ معاملة يعامل بها إنسان: فكان هؤلاء البشر المعذبون يوضعون في سجون مظلمة، وقد قيدت أيديهم
وأرجلهم، أو يعزلون عن العالم وعن أهلهم في المستشفي السجن") أو
(البيت العجيب)أو
"برج المجانين" أو"القفص العجيب" كما كانوا يسمونها آنذاك، ويسلم أمرهم إلي
رجال أفظاظ لا يعرفون إلا لغة الضرب والشتم والتعذيب وذلك أمد الحياة!!!!
وكان مبعث ذلك لدي الأوروبيين آنذاك هو الاعتقاد السائد بأن هذا المريض قد لعنته
السماء عقابا له علي إثم ارتكبه، فأنزلت به هذا المرض. أو أن شيطانا ماكرا ضاقت به
الدنيا فحل في جسكم هذا المريض! وعلي ذلك فإنه يحل تعذيب ذلك الجسد لأنه بمنزلة
منزل لشيطان رجيم!! أي فهم خاطيء للدين المسيحي كان هذا؟!
وقد ظلت أوروبا علي هذا الحال إلي قبيل القرن التاسعة عشر، عندما قام طبيب فرنسي
يدعي بينل مطالبه مجلس الأديرة بتحرير المجانين السجناء، وتسليمهم لعناية ورعاية
الأطباء.
البيمارستان العربي
كان هذا في الوقت الذي خصص فيه العرب البيمارستانات الخاصة بهذا المريض والتي كان
يعامل فيها معاملة كريمة تليق به كإنسان. ومن الأمثلة علي ذلك البيمارستان العضدي
في بغداد الذي شغل الرازي منصب ساعور(رئيس) له كان به قسم خاص لهؤلاء المرضي،
وقد تولي الرازي بنفسه مراقبتهم والإشراف علي علاجهم.
تلك كانت أمثلة عن بعض إسهامات الرازي في هذا المجال. وهناك أطباء كثيرون غير
الرازي كل أدلي بدلوه في هذا الميدان مثل جبرائيل ابن بختشوع، وعلي ابن رضوان
المصري، وأبو القاسم الزهراوي، ورشيد الدين أبو حليقة، وسكرة الحلبي، والشيخ
الرئيسي ابن سينا.. وغيرهم.
ووصل إلينا عن جبرائيل ابن بختشتوع
– كمثال – هذه الحالة التي سجلها
ابن أبي اصيبعة(العيون 188) حيث ذكر أنه كان لهارون الرشيد جارية رفعت يداها فبقيت هكذا لا
يمكنها ردها. والأطباء يعالجونها بالتمريخ والإدهان ولا ينفع ذلك شيئا، فاستدعي
جبرائيل ابن بختشيوع، فقال له الرشيد: أي شيء تعرف عن الطب؟ فقال: أبرد الحار
وسخن البارد ورطب اليابس، وأيبس الرطب الخارج عن الطب فضحك الخليفة وقال هذا غاية
ما يحتاج إليه في صناعة الطب، ثم شرح له حال الصبية فقال له جبرائيل إن لم يسخط علي
أمير المؤمنين فلها عندي حيلة، فقال له : وما هي؟ فقال: تخرج الجارية إلي هنا
بحضرة الجميع حتى أعمل ما أريده، وتمهل علي ولا تعجل بالسخط، فأمر الرشيد بإحضار
الجارية فخرجت.وحين رآها جبرائيل عاد إليها ونكس رأسه ومسك ذيلها كأنه يريد أن
يكشفها، فانزعجت الجارية، ومن شدة الحياء والانزعاج استرسلت أعضاؤها وبسطت يداها
إلي أسفل ومسكت ذيلها فقال جبرائيل: قد برئت يا أمير المؤمنين، فقال
الرشيد
للجارية : أبسطي يدك يمنة ويسرة، ففعلت ذلك، وعجب الرشيد وكل من كان بين يديه.
يفسر علم النفس الحديث حالة هذه الفتاة علي أنها(حالة فصام) من نوع يسمي"الفصام التشنجي" أو
"الفصام التصلبي" الذي يتميز سلوك صاحبه بالتيبس النفسي و
الجسمي حيث يجلس المريض ساعات طويلة جامدا لا يتحرك وإذا رفع يده أو ذراعه فإنه
يبقيه لمدة طويلة كما لو كان منفصلا عن جسمه لذا تعتبر هذه الحالة أحد الإضطرابات
الحركية ذات الأعراض التكوينية والنفسية، وربما تنتج عن الاستثمارات المستمرة
الداخلية منطقة غير محددة بالمخ حيث يزداد نشاط "الجاما أمينو بيوتريك أسيد"
الشيخ الرئيس وعلوم النفس:
أما الشيخ الرئيس
ابن سينا فقد عني بعلم النفس عناية كبيرة، حيث ألم بمسائله
المختلفة إلماما واسعا واستقصي مشاكله وتعمق في أقصرها تعمقا ملحوظا فيعتبر
ابن
سينا أول الفلاسفة القدماء الذين ربطوا وظائف الإحساسات والخيال والذاكرة بشروطه
الفسيولوجية كما أن له فضلا كبيرا في توضيح أوجه الشبه بين إدراك الحيوان وإدراك
الإنسان وإذا كان أرسطو قد سبقه إلي تصور النفس الحيوانية فإن أحدا لم يسبق
ابن
سينما في إلقاء الضوء الساطع علي علم النفس الإنساني التجريبي ولعل أبرز ما يميز
علم النفس السينوي ويجعله عصريا إلي حد كبير، معالجته لمفهوم الوعي بالذات أو
"
الشعور بالذات" ذلك المفهوم الذي لم يسبقه أحد إليه ويتلائم مذهب ابن سينا مع
النظرية السيكولوجية الحديثة الخاصة بالشعور وأقسامه والتي يقبلها جمهرة المحدثين
حيث تجعل من الشعور قوة عاملة توحد الذات وتجمع أطراف الشخصية فيحس المرء أنه هو
الماضي والحاضر والمستقبل فيذهب ابن سينا إلي أن الشعور بالذات يصدر عن النفس
بأسرها كوحدة متميزة عن البدن، وهذا الشعور بالذات يختلف تماما عن أي إدراك آخر
فالإدراك العادي قد يحدث أو لا يحدث، أما الشعور بالذات فموجود دائما إلي أن صاحبه
قد يكون واعيا به.
ومن إضافات ابن سينا الأصيلة في مجال علم النفس باعتراف عالم النفس الأمريكي
هليجارد أنه قد تعرف علي ما يعرف اليوم باسم الأمراض الوظيفية في مقابل الأمراض
العضوية والأمراض الوظيفية هي أمراض نفسية الأسباب والنشأة وتصيب وظيفة العضو وليس
العضو ذاته كالتفكير بالنسبة للدماغ ومنها الأزمات والكوارث والصدمات النفسية
وخبرات الفشل والإحباط والحرمان والقسوة والخضوع لحالات من الضغط النفسي والاجتماعي
وينصح ابن سينا بالتزاوج بين العقاقير الوسائل النفسية في معالجة الأمراض النفسية
إذ يقول يجب مراجعة أحوال النفس من الغضب والغم والفرح واللذة وغير ذلك فإن الأغذية
الحارة مع الغضب مضرة وكذلك البارد مع الخوف الشديد، أو اللذة المفرطة مضرة
(كتاب
تدارك الأخطاء) هذا النص يشير إلي أن
ابن سينا أدرك متأثرا بالرازي في قوله فمزاج
الجسم تابع لأخلاق النفس.
أن صحة البدن تابعة لاعتدال المزاج ومن الجدير بالاعتبار أن واحدا من أكبر علماء
النفس الأمريكيين المعاصرين هو جيمس كولمان يضمن كتابه(abnormial psychology and
modremlive) حالة مرضية نفسية عالجها ابن سينا بطريقة مبتكرة أفادت علم النفس
الحديث يقول كولمان أصيب أحد الأمراء بالمالنخوليا . وظهرت من أعراضها عليه أنه
تخيل نفسه بقرة يجب أن تذبح ويتغذى الناس من لحمها اللذيذ وكان هذا المريض يخرج
صوتا كصوت البقرة(الخوار)
ويصيح اذبحوني. اذبحوني ولذا امتنع عن الطعام الأمر
الذي أدي إلي ضعفه وهزاله ولما تم إقناع ابن سينا بعلاج هذا الأمير، بدأ علاجه بأن
أرسل رسالة يبلغه فيها بأنه ينبغي أن يكون في حالة نفسية جيدة حيث سيقدم الجزار
قريبا لذبحه، ففرح المريض بهذه الرسالة –وهيأ نفسه– نفسيا للذبح وبعد فترة دخل
عليه ابن سينا غرفته شاهرا سكينا كبيرا، وقال
"أين هذه البقرة التي سوف أذبحها"
فأجابه المريض بإصدار خوار البقرة كي يعرفه فأمر ابن سينا
بأن يطرح أرضا، وتقيد
يداه ورجلاه، وبعد إتمام هذا الأمر تحسس ابن سينا كل جسمه، ثم قال: إنها بقرة
نحيفة جدا لا تصلح للذبح الآن يجب أن تتغذي وتسمن أولا ثم أمرهم بإطعام المريض
بأطعمة جيدة ومناسبة فاكتسب المريض حيوية وقوة الأمر الذي جعله يتحرر مما اعتراه من
أعراض وهذاءات وتم له الشفاء التام.
تكشف معالجة هذه الحالة عن أن ابن سينا قد شخصها تشخيصا سليما بأنها حالة مالنخوليا
بأعراضها المعروفة كما أدرك معني مصطلح الهذاء أو الضلالة أحد الأعراض المميزة
للذهان العقلي أو المرض العقلي المرادف للجنون والمنهج الذي استخدمه
ابن سينا في
علاج هذه الحالة ومثيلتها هو المنهج نفسه المتبع في العلاج النفسي الحديث وبذلك
يكون لابن سينا السبق في هذا المجال.
أوحد الزمان
ومن نوادر الطبيب أوحد الزمان البلدي أن مريضا من بغداد كان يعتقد أن علي رأسه دنا،
وأنه لا يفارقه أبدا فكان كلما مشي يتحايد المواضع التي أسقفها قصيرة ويمشي برفق
ولا يترك أحدا يدنو منه حتى لا يميل الدن أو يقع علي رأسه وبقي بهذا المرض وهو في
شدة منه. وعالجه جماعة من الأطباء ولم يحصل بمعالجتهم تأثير ينتفع به وانتهي أمره
إلي أوحد الزمان ففكر أنه ما بقي شيء يمكن أن يبرأ به إلا الأمور الوهمية، فقال
لأهله: إذا كنت في الدار فأتوني به ثم أمر أحد غلمانه بأن ذلك المريض إذا دخل عليه
وشرع في الكلام معه وأشار إلي الغلام بعلامة بينهما أن يسرع بخشبة كبيرة فيضرب بها
فوق رأس المريض علي بعد منه كأنه يريد الدن الذي يظنه علي رأسه وأوصي غلاما آخر
وكان قد أعد معه دنا في أعلي السطح أنه إذا رأي ذلك الغلام قد ضرب فوق رأس صاحب
المالنخوليا أن يرمي الدن الذي عنده بسرعة علي الأرض ولما كان أوحد الزمان في الدار
وأتهاه المريض شرع في الكلام معه وحادثه وأنكر عليه حمله للدن وأشار إلي الغلام
الذي عنده من غير علم المريض فأقبل إليه وقال والله لابد لي أن أكسر الدن وأريحك
منه ثم أدار تلك الخشبة التي معه مضرب بها فوق رأسه بنحو ذراع وعند ذلك رمي الغلام
الآخر الدن من أعلي السطح فكانت له جلبة عظيمة وتكسر قطعا كثيرة فلما عاين المريض
ما فعل به رأي الدن المنكسر تأوه لكسرهم إياه ولم يشك أنه الذي كان علي رأسه بزعمه
وأثر فيه الوهم أثرا بريء به من علته تلك.
في علم النفس الحديث تفسر حالة مريض بغداد هذه علي أنها حالة أعراض هلاوس
"halluacination"
(يلاحظ هنا تأثر المصطلح الإنجليزي للهلاوس بالتسمية العربية ومن
هذا القبيل أيضا hysteria هستريا
hysteric هيستري مالنخوليا) وهي من الأعراض
الشائعة لدي الذهانيين والنادرة بين العصابيين وتعرف الهلاوس علي أتنها مدركات حسية
خاطئة لأنها لا تنشأ عن موضوعات واقعية في العلم الخارجي بل عن وضوح الخيالات
والصور الذهنية ونصوعها نصوعا شديدا بحيث يستجيب لها المريض كوقائع بالفعل وقد تكون
هذه الهلاوس بصرية سمعية أو ذوقية أو حتى شمية وهي في حالتنا هذه هلاوس بصرية.
وقد استخدم "أوحد الزمان"
في علاجه لهذه الحالة ما يعرف بالعلاج بالإيحاء وهي
طريقة لعلاج أعراض المرض تساعد علي تحرير المريض من اعتقاده الفاسد واشتهر أيضا من
أطباء العرب في الطب النفسي ومعالجته الطبيب سكرة الحلبي نسبة إلي مدينة حلب
بسورية، كانت له دربة في العلاج، وتصرف في المداواة ومن أمثلة معالجته النفسية ما
يلي:
"كان الملك العادل نور الدين محمود ابن زنكي حظية في قلعة حلب يميل إليها كثيرا
ومرضت مرضا صعبا وتوجه الملك العادل إلي دمشق وبقي قلبه عندها وكل وقت يسأل عنها
فتطاول مرضها وكان يعالجها جماعة من أفاضل الأطباء وأحضر إليها الحكيم سكرة فوجدها
قليلة الأكل متغيرة المزاج لم تزل جانبها إلي الأرض فتردد إليها مع الجماعة ثم
استأذن الخادم في الحضور إليها فأذنت له.
فقال لها: يا سيدتي أنا أعالجك بعلاج تبرئين به في أسرع وقت إنشاء الله تعالي، وما
تحتاجين معه إلي شيء آخر فقالت أفعل. فقال اشتهي أن مهما أسألك عنه تخبريني به ولا
تخفيني فقالت نعم وأخذ منها إذنا فقال: عرفيني ما جنسك فقالت علانية(قبيلة فارسية كانت تدين بالنصرانية) فقال: العلان
في بلادهم نصارى فعرفيني ما كان أكثر أكلك في بلدك؟ فقالت: لحم البقر: فقال: يا
سيدتي وما كنت تشربين من النبيذ الذي عندهم فقالت: كذا كان فقال: أبشري بالعافية:
وراح إلي بيته واشتري عجلا وذبحه وطبخ منه، وجلب نعه في زبدية منه قطعة لحم مسلوق،
وقد جعلها في لبن وثوم وفوقها رغيف خبز فأحضرها بين يديها وقال: كلي فمالت نفسها
إليه وصارت تجعل اللحم في اللبن والثوم وتأكل حتى شبعت، ثم بعد ذلك أخرج من كمه برنية صغيرة وقال: يا ستي هذا شراب ينفعك فتناوليه فشربته وطلبت النوم، وغطيت
بفرجية فرو سنجاب فعرقت عرقا كثيرا وأصبحت في عافية وأصبح يأتي لها من ذلك الغذاء
والشراب يومين آخرين فتكاملت عافيتها فأنعمت عليه".
في ضوء علم النفس الحديث نجد أن سكرة الحلبي في علاجه
لمحظية نور الدين محمود قد
استخدم نظرية الذات التي قال بها كارل روجرز وتسمي أيضا بنظرية العلاج المعقود علي
المريض حيث أجري مقابلته مع المريضة في جو طليق سمح ولم يقدم لها تشخيصا، أو حلا
للمشكلة وإنما أدلي لها بنصيحة وأصغي إلي إجابتها عن أسئلته وهذه الطريقة تختلف عن
التحليل النفسي في أنه ليس من الضروري أن يفهم المريض أصل المشكلة في الطفولة فكل
ما يفعله المعالج هو إطلاق الحرية للمريض وتهيئة الجو للتعبير عن متاعبه وهذه
الطريقة لا تحتاج إلي عدد كبير من الجلسات وتستخدم في الحالات التي لا تحتاج إلي
بحث عميق في الماضي والتي لا ترتبط بطفولة المريض أو حياته البعيدة وتجدر الإشارة
غلي أن تغيير النمط الغذائي قد لعب دورا في تحسن حالة الفتاة حيث تعافت بعد رجوعها
إلي النمط الغذائي الذي اعتادته في بيئتها الأولي ومن المعروف أن هناك علاقة وطيدة
بين الذوق والسرور حيث أن الفرد قد يتعرض عند تغيير غذائه بما يعرف بمقت الطعام،
وربما يستتبع ذلك فقدان الشهية وعدم الشعور".
الجسم والنفس
وقد أدرك الطب العربي آثار الحالة النفسية للإنسان في وظائف أجهزة الجسم المختلفة،
فالحالة النفسية في الانقباض والفرح والهم والغم والخجل تؤثر تأثيرا مباشرا في سلوك
الإنسان وقد تؤدي إلي الجنون وفقدان العقل والأمراض النفسية الشديدة التي يحتاج
علاجها إلي بحث دقيق وعميق، وهذا ما فعله الأطباء العرب المسلمون وطبقوه في أقسام
الأمراض العقلية فكان يخصص لهم قسم في كل بيمارستان يتلقى فيه المريض عناية خاصة من
أطباء حاذقين ومهرة في فنون العلاج النفسي وقد بلغ الاهتمام بهؤلاء المرضي درجة
كبيرة حتى كانت أقسامهم في بيماريستانات بغداد ودمشق والقاهرة وقرطبة تفرش بفرش من
القطن في ردهات يتوافر فيها الهدوء والهواء الطلق والنور وعليهم مشرفون يتعهدونهم
بالأشربة المسكنة والمرطبة ويغذونهم بمرق الدجاج وأنواع الألبان بينما الموسيقي
تصدح خلفهم بألحان شجية وفي بعض البيمارستانات مثل بيمارستان حلب خص المريض بخادمين
ينزعان عنه ثيابه كل صباح ويحممانه بالماء البارد ويلبسانه أنظف الثياب ويحملانه
علي أداء الصلاة ويسمعانه قراءة القرآن (ألا بذكر الله تطمئن القلوب) ويخرجان به
إلي الهواء الطلق.
د. خالد حربي
نقلا عن مجلة العربي عدد 552 نوفمبر 2004
إقرأ على باب مقالات
متنوعة :
أوربا والإسلام في العصور الوسطي
قيمة العقل في الإسلام ! ماذا جرى؟
موقف الإسلام من التداوي بالعقاقير نفسية التأثير(1)
الكاتب: د.خالد حربي
نشرت على الموقع بتاريخ: 12/12/2004
|
|
|
|
|
|
المواد والآراء المنشورة على هذا الموقع تعبر عن آراء أصحابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
Copyright @2010 Maganin.com, Established by: Prof.Dr. Wa-il Abou Hendy - , Powered by
GoOnWeb.Com
|
حقوق الطبع محفوظة لموقع مجانين.كوم ©
|
|