جيل الماوس والموبايل والريموت كونترول ::
الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 23/01/2005
هل تصدق أن ثلاث قطع إلكترونية صغيرة أصبحت تشكل وعي الجيل الجديد!!! هل تصدق أن حركة الماوس على شاشة الكومبيوتر أصبحت أكثر سحرا لدى هذا الجيل من أجمل منظر طبيعي في العالم!!! هل تصدق أن كثيرا من الشباب..بل من المراهقين.. بل من الأطفال لم يعد لهم حلم أهم من اقتناء "موبايل" وتغييره كلما ظهر نوع جديد يحمل إمكانات أكثر جذبا وإثارة, وأن هذا الجيل حين يشترى الصحف يتجاوز كل الأخبار العالمية والمحلية وكل الأعمال الأدبية ويتجه رأسا ومباشرة إلى إعلانات "الموبايلات"...ولا ينتقل منها إلا إلى إعلانات "النغمات" أو "الرنات"....!!!
هل تصدق أن المراهق أو الشاب أو حتى الطفل الذي لا يحمل "موبايل" في يده قد أصبح مثار سخرية واستهزاء بين أقرانه, وأصبح معرضا للشعور بالدونية وفقد احترامه لذاته ولذات أهله وبالتالي معرضا للإصابة بالاكتئاب أو نوبات الغضب الشديدة بلا مبرر... وتنتابه من وقت لآخر كوابيس أثناء النوم... وتنتابه ميول قهرية للسرقة كي يشترى موبايل!!!
هل تصدق أن الخلافات داخل الأسرة أصبحت تدور حول من له الحق في الإمساك بالريموت كونترول والتحكم فيما يشاهده الآخرون على شاشة التليفزيون... وهل تصدق أن أطفالنا وشبابنا وفتياتنا يجلسون أمام التليفزيون حوالي 7 ساعات في المتوسط ولا يقومون من أمامه إلا ليجلسوا على الإنترنت أو يتحدثوا في الموبايل !!! ... ولهذا أصبح انتماؤهم لهذه الأشياء أقوى بكثير من انتمائهم لأسرتهم, ولا تحدث بعد ذلك عن انتمائهم لبلدهم, فلا تستغرب بعد الآن موت التيار الشعبي وموت الشارع العربي أو الشارع الإسلامي, فكل هذه التيارات والشوارع قد تجمدت أمام شاشات الكومبيوتر والموبايل والتليفزيون ليس بحثا عن علوم تغذى العقل أو فنون قيمة تثرى الوجدان أو فرص عمل تحد من البطالة, وإنما بحثا عن لذة فارغة تدغدغ الحواس.
لقد افتقد هذا الجيل لحظات الصباح الباكر فهو لا يصحو من نومه إلا قرب العصر لأنه ينام قبل الفجر مباشرة, وقد قال لى أحدهم إنه اضطر يوما للاستيقاظ في الصباح ليؤدى الامتحان (مكرها) فكان يستغرب شكل الدنيا وشكل الحياة وشكل الناس في هذا الوقت الغريب عليه.
ولم يعد الأبوان مصدرا للحب والحنان والتربية فهذا الجيل لا يحتاج منهما هذه الأشياء بل اقتصرت وظيفة الأبوين على توفير الثلاثي المذكور "الماوس" و"الموبايل" و"الريموت كونترول", وبالتالي فإن الأب الذي لا يستطيع توفير ذلك يصبح غير جدير بالاحترام في نظر أبنائه لأنه أتى بهم إلى الحياة ولم يوفر لهم احتياجاتهم الأساسية.
وتوارت الطموحات والأحلام والأهداف لتعطى الفرصة للهدف الأهم والوحيد: "الحصول على موبايل بكاميرا" أو "شراء كارت شحن" أو "تحديث الكومبيوتر". وأصبح المراهق أو الشاب يقيّم وسط زملائه بنوع الموبايل الذي يحمله في يده, وأصبح حب الوالدين يقدر بمدى عطائهما الإلكتروني لأبنائهما فكلما زاد الحب زادت أجهزة الموبايل في أيدي الأبناء حتى لا تترك طفلا رضيعا بدون موبايل يتحدث فيه إلى أمه حين تكون مشغولة عنه في المطبخ!!!
بالأمس القريب زارني رجل عصامي شريف له رأى في موضوع الموبايل بأنه خرب البلد لأنه يشكل استنزافا للموارد بلا أي معنى أو فائدة إلا المنظرة الكاذبة والفارغة, فقال لى في سخرية تملؤها المرارة:"لقد قررت المساهمة في حملة السفه العام" ...قلت له كيف؟... قال لقد اشتريت لكل طفل من أطفالي"موبايل"..... قلت متعجبا: ولم؟.... قال لأحميهم من سخرية زملائهم حيث لم يعد أحد من زملائهم بلا موبايل إلا هم, وقد أصيبوا في الفترة الأخيرة بنوبات اكتئاب ونوبات غضب, وأصبحوا يكرهونني ويعتبرونني"أب فاشل" بالمقارنة بآباء زملائهم من حملة الموبيلات وكروت الشحن وخطوط البيزنس.
وكنت أجلس مع صحفيا ثائرا فسألني: بماذا تفسر من الناحية النفسية هذا الموات الشعبي أمام الأوضاع المحلية والعالمية؟... لقد كنا في شبابنا نهز الدنيا لأحداث أقل من هذا بكثير!!... فقلت له: ابحث عن الماوس والموبايل والريموت كونترول(كنا قديما كلما حدثت مشكلة نقول: ابحث عن المرأة) !!!! فالشباب يا سيدي يسير في شوارعنا العربية مسرعا جدا هذه الأيام ليصل إلى بيته في أقرب وقت كي يلحق بالمنتدى على النت أو "يشيت" مع صديقه أو صديقته أو يلحق بمباراة كرة القدم المنقولة على الهواء مباشرة.
وبالتالي فليس لديه وقت ليتابع الأحداث التي تهمك أنت وتهم جيلك البائد الذي لا يجيد التعامل مع وسائط الاتصالات العالمية، فرد علىّ مستنكرا: "يبدو أنك متشائم كثيرا... مازال هناك شباب كثيرون يتفاعلون مع الأحداث... ألم ترهم في الجامعة يتظاهرون ضد احتلال العراق واحتلال فلسطين؟؟".... قلت له: "هؤلاء فئة قليلة ما زالوا على العهد, وبعضهم لديه التزامات أو ارتباطات ببعض المجموعات السياسية أو الدينية.... ومع هذا سرعان ما ينفض جمعهم دون تأثير يذكر".... فقام الصحفي وهو يغلى من الغيظ مني ومن القطع الإلكترونية الثلاث: الماوس والموبايل والريموت كونترول.
وهذه القطع الإلكترونية الثلاث قد أدت إلى نوع من التفكير السحري, فمن يستخدمها يتصور أن الأشياء تتحقق بمجرد تحريك الماوس على الشاشة أو اللعب في أزرار الموبايل أو اللعب بالريموت كونترول, فهذه الأشياء لا تحتاج إلى حركة أو سعى فكل ما تريده يتحقق بمجرد تحريك إصبعين أو ثلاثة وأنت جالس مكانك, فهي تحقق الحكمة القائلة:"إن الله يرزق الهاجع والناجع والنائم على صرصور ودنه", وهى بذلك تعيد للأذهان فكرة مصباح علاء الدين السحري وفكرة صندوق الدنيا.
ومع استمرار استخدام هذه الوسائل ينسى الشاب أو المراهق قوانين الحركة والسعي في الحياة ويطلب ذلك من والده أو والدته فيكفيه هو أن يعبث بأصابعه في هذه الأجهزة لتفتح له الدنيا أبوابها وتطلعه على فرص استهلاكية واستمتاعية هائلة, ولا يبقى أمامه غير الضغط على أبيه(كما يضغط على الأزرار) لكي يشترى له ما وعدته به هذه الآلات الساحرة, والأب هنا يمثل "الجني" الذي يظهر بعد "دعك" مصباح علاء الدين ليقول في صوت جهوري مع قهقهة عالية:"شبيك لبيك عبدك وخدّامك بين إيديك".
وهكذا أصبحت أحلام الشباب تتحقق من خلال آبائهم وليس من خلال عملهم واجتهادهم, وأصبح الفشل في تحقيق الأحلام مرتبطا بتراخي الأب وكسله وقلة حيلته وضعف مهاراته الاجتماعية, أما الشاب فقد قام بواجبه كاملا حين ضغط على الأزرار ولكن الجني (خادم المصباح أو خادم الأزرار) كان كسولا فلم يحقق المطلوب.
وجاءني أب يشكو متألما: لم أعد أرى وجوه أبنائي!!... قلت له: كيف؟... قال: كلما دخلت غرفة أو صالة وجدت أحدهم ميمما وجهه شطر شاشة كومبيوتر أو شاشة تليفزيون, ولا أرى منه إلا ظهره وقفاه!!!...... فقلت مستفسرا (ومستفزا): لعلهم يستزيدون ثقافة وعلما من هذه الوسائط التكنولوجية الحديثة؟؟؟..... فرد وقد ازداد غيظا: أبدا يا دكتور إنهم يشاهدون قنوات الأغاني والفيديو كليب أو "يشيتون" مع أصدقائهم على "النت".. أو يبعثون "مسجات" (رسائل) على الموبايل.. وكلما حاولت التحدث إلى أحدهم هب في وجهي ثائرا غاضبا ومعنفا.
وهنا تذكرت نتائج البحث الذي تم في أمريكا على7000 طفل وتتبعهم لمدة 17 سنة حتى وصلوا إلى مرحلة المراهقة, وكانت نتيجته أن الأطفال الذين يجلسون أمام التليفزيون ثلاث ساعات يوميا تزيد حدة العنف لديهم 5 مرات مقارنة بمن يجلسون فترات أقل, وتذكرت أيضا ذلك البحث الذي تم على عينة من الشباب المصري الذي يرتاد أندية الإنترنت حيث تبين أن 2% منهم فقط يستخدمون الإنترنت في أغراض علمية في حين يستخدمه الباقون(98%) لأغراض ترفيهية واستمتاعية..... عندئذ قلت: يا رب سلّم.
اقرأ أيضاً على صفحتنا مقالات متنوعة الدردشة الالكترونية وحوار الأعماق / الحوار وقاية من العنف / إدمان الأطفال ....على الألعاب الإلكترونية / إدمان الأطفال ....على الألعاب الإلكترونية مشاركة
الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 23/01/2005
|
|