"قيدوا
العلم بالكتاب" قول مأثور عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب كان يرن في أذني كثيرا
منذ أن كان سؤال النهضة والإصلاح وصناعة الحياة يشغل بالي، فوجدت في القول بابا من
أبواب النهضة ضربت على أعيننا غشاوة فلم نراه، ووجدت قبله آيات كثيرة تدلنا على نفس
هذا الباب ونحن عن إشارتها الحضارية ذاهلون، فالله جل شأنه وعلى الرغم من علمه
المحيط بعباده، إلا أنه آلى على نفسه- سبحانه- إلا أن يسجل ويوثق كل أفعال وأقوال
الإنسان "وكل صغير وكبير مستطر" وعلى الرغم من أن شأن التسجيل والتدوين والتوثيق
للتجارب التنموية كان ولا يزال يشغل بالي وبال عدد من المهمومين بهم الوطن والأمة،
وأنني عزمت أكثر من مرة على أن أكتب فيه، ولكن كيف وماذا أكتب؟ ظل هذا السؤال يلح
علي إلى أن فتح الله علي فتسلسلت الأفكار وترابطت، فدعونا نسير سويا لنستكشف هذا
الباب الذي يمثل وبحق: ألف باء النهضة لأمة تتلمس طريقها إليها.
توصيف
الحرف..ضوء أول
عندما تصاعد في نفسي الهم على الكتابة في الموضوع وجدتني أتذكر ما قرأته وما سمعته
كثيرا مبثوثا في كتابات وأحاديث أستاذنا الدكتور سيد دسوقي في إشراقاته التنموية
حول ضرورة توصيف الحرف، والحاجة إلى أن يقوم نفر من الناس بهذا فيصفون لنا ما لدينا
من حرف تقليدية وصناعات صغيرة تجعل من اليسير تناقل وتعلم تلك الحرف والصناعات
وتحفظ لنا ملكيتها الفكرية، وتمكننا من تطويرها والبناء عليها، وكان السؤال الذي
يلح علينا: من يفعل هذا؟ ولما تأملت في الأمر مليا وربطت معارفي بعضها البعض وجدت
عجبا..فماذا وجدت؟
توصيف الفرنسيس لحرف وصناعات مصر
أولا: لقد سبقنا الفرنسيس إلى توصيف ما لدينا من حرف وأدوات وآلات في إطار عملهم
الموسوعي لـ "وصف مصر" ففي الترجمة التي قدمها زهير الشايب للموسوعة نجد في الجزء
الرابع منها وصفا نصيا تفصيليا للزراعة والصناعات والحرف سواء من حيث الطرق أو
الآلات أو المجالات، وفي الجزء السادس الخاص بالموازين والنقود نجد وصفا تفصيليلا
لطريقة سك العملة، وفي الجزء التاسع نجد جزءا كاملا خالصا لوصف الآلات الموسيقية
المستخدمة عند المصريين المحدثين وكتابة ربما لأول مرة للنوت الموسيقية للألحان
الشعبية، أما الجزء الرابع عشر وهو الجزء الثاني المخصص للوحات الدولة الحديثة نجد
ثلاثين لوحة للفنون والحرف، وعدد آخر من اللوحات للآنية والأثاث والأدوات، وفي
نهاية الجزء شرح للوحات الثلاثين الخاصة بالفنون والحرف شرحا نصيا.
ربما لا يكون هذا الوصف هو الأول، فقد سبقته بعض الكتابات القليلة القديمة في
تراثنا التي تصف الآلات والعمليات في كتب الحيل وتركيب الأدوية من الأعشاب..وغيرها،
لكنه يظل الكتاب المسحي الأشمل للحرف والصناعات في مصر.
الإثنوجرافيا ودراسة الثقافة المادية
ثانيا: أنني لما تأملت في الأمر أكثر تذكرت ما درسته في إطار علمي: الأنثروبولوجيا
الثقافية والفولكلور، وتذكرت بالأخص أن هناك فرعا علميا يعد جزءا من دراسات تلك
العلوم يعنى بدراسة الثقافة المادية سواء في بعدها التراثي أو المعاصر، ومن ثم رجعت
إلى كتبي القديمة فوجدت الدكتورة سعاد شعبان في كتابها "الأنثروبولوجيا الثقافية
لأفريقيا" تعرف الثقافة المادية على أنها "كل ما يصنعه الإنسان في حياته العامة وكل
ما ينتجه العمل البشري من أشياء ملموسة وتتمثل هذه الجوانب المادية – مثلا- في
السيارات والقطارات والعدد والآلات والقناطر والطرق والمنازل والملابس والأثاث
وغيرها من الأدوات المستخدمة في الأعمال الفنية" ومن ثم فإن بعض دراسات
الأنثروبولوجيا الثقافية والفولكلور التي تمت في جامعاتنا يمكن أن تمثل لنا مظانا
لوجود مثل تلك الأعمال الوصفية، وبالفعل فقد وجدت نفس الكتاب يحتوي على وصف نصي
ورسوم توضيحية لأعمال صناعة الفخار في أفريقيا.
البحث العلمي في بلادنا
ونظرية المفاصل السائبة
ثالثا: أنني لما تساءلت السؤال المنطقي..لماذا لم يلتفت عالم مهتم بالأمر كالأستاذ
الدكتور سيد دسوقي إلى احتمال وجود مثل تلك الدراسات الوصفية للحرف والصناعات
الصغيرة والتقليدية، ووجدتني أحاول وضع عدد من الإجابات الافتراضية للسؤال:
- سيادة نظرية المفاصل السائبة في مجال البحث العلمي في عالمنا العربي، والتي تعني
أن كل حقل من حقول العلم والبحث العلمي هو كوكب منفصل قائم بذاته مستغن عن غيره من
العلوم، وهو أمر لا يستقيم معه مطلب النهضة.
- أن الكثير من أعمال البحث العلمي في بلادنا غابت عنها "الغائية" العملية، وفقدت
البوصلة العامة التي توجهها وتحدد أجنداتها، ومن ثم تسود لدينا أهداف مشوشة للبحث
العلمي ما بين العلم للعلم، والعلم لتحصيل المكاسب الفردية من شهادات ودريهمات
وترقيات أو سمعة وصيت يحصلها الإنسان، بينما البحث العلمي عند الساعين إلى النهضة
والتقدم هو من أجل تحقيق المصالح والمنافع للناس والأوطان والأمم، والتي يتأتى من
خلالها وليس غاية المراد منها: المصالح الفردية الجزئية.
- يفضي السببين السابقين إلى سبب ثالث هو غياب أو ضعف الدراسات والعلوم والأبحاث
البينية والمشتركة والتي تقوم بها فرق علمية مشتركة تتكون من تخصصات مختلفة.
رابعا: وخلاصة لتلك التأملات دعونا نقول أننا في حاجة إلى جهود تلم شعث المدون وغير
المدون من تلك الدراسات الوصفية للحرف والصناعات الصغيرة والتقليدية في بلادنا
تتضمن ما يلي:
- تحديد الخامات والأدوات المستخدمة وطرق الحصول عليها أو تحضيرها
- تحديد العمليات والإجراءات المتبعة والشروط البيئية اللازمة للعمل
- رسوما توضيحية ومعادلات للأدوات والعمليات
- ودعونا لا نغفل البيئات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية المتكونة حول
تلك الحرف والصناعات
التجارب والخبرات..مجالات أخرى للتوصيف والتوثيق
ووجدتني بعد هذا التأمل الطويل أعود لأشغل نفسي بالسؤال الأصلي: هل يمكننا أن نوثق
خبراتنا وتجاربنا الحياتية سواء تلك التي نعيشها على المستوى الفردي أو المؤسسي أو
المجتمعي؟ وكيف؟ ووجدتني أسأل نفسي: لماذا يتعلم الآخرون من خبراتهم وتجاربهم
الحياتية ويستطيعون تجريدها واختبار ما وصلوا إليه من فرضيات في الواقع أكثر من مرة
حتى يصلوا إلى وضع النظريات والوصول إلى القوانين الحاكمة وتحويل التجارب والخبرات
إلى علوم، كما استطاعوا أن يحولوا الدراسات والكتابات الوصفية العشوائية في أدب
رحلاتهم إلى علم كالأنثروبولوجيا، ولماذا لم نفقه نحن الدرس ونتعلمه ونعلمه
لأولادنا؟
وتذكرت أنني كنت قد كتبت عملا حاولت فيه التجريد والتحليل ما استطعت دون أن أعمد
إلى ذلك، وذلك عندما حاولت أن أوثق "تجربة بنك الفقراء" في كتاب، ثم عندما قمت
باختصاره أكثر من مرة في بحث ثم في مقال..بل مقالات حول التجربة، حاولت فيها أن
أبلور سمات التجربة التنموية والاقتصادية، ثم استعرضت شروط تكرار التجربة في بيئات
أخرى غير البيئة البنغالية كما حاول أصحاب التجربة أن يبلوروها في نقاط للراغبين في
نقلها، ودعاني ذلك للتساؤل لماذا نظرت للتجربة هكذا بشكل أقرب للتجريد المنشود ولم
أقم بسرد مجموعة من الحكايات والقصص حول البنك وفقط؟ فاكتشفت أنني تعلمت ذلك في
دراستي الجامعية الأولى، والتي رسَبت في داخلي ذلك المنهج الوصفي التحليلي في
اللاشعور..فكيف كان ذلك؟
عندما يأتي المريض
تعلمت في دراستي الجامعية الأولى في كلية الطب كيف أتعامل منهجيا مع المريض عندما
يأتي:
- أولا نسأل المريض عن شكواه أو شكاواه
- ثانيا نستقصي من المريض تاريخه الشخصي والمرضي ذي الصلة المحتملة بشكاواه
- ثالثا نقوم بفحص المريض من خلال أربع أدوات للملاحظة:
• بالنظر Inspection
• والتحسس Palpation
• والنبر Percussion
• والتسمع Auscultation
- رابعا أننا نقوم بإجراء ذلك جميعا من خلال أسئلة محددة لكل حالة مرضية، وفحص
مواضع محددة ترجح لنا أحد التشخيصات الاحتمالية للمرض
- خامسا ثم ندون كل ذلك في إطار نموذج معين لكتابة وتدوين الحالات
- سادسا نقوم بإجراء الفحوص المعلمية أو الإشعاعية المطلوبة حتى نصل في النهاية إلى
التشخيص الصحيح للحالة.
محاولة توثيقية للتجارب والخبرات
إذا دعونا نستخلص من كل تلك التأملات منهجا افتراضيا قابلا للنقاش لتوثيق التجارب
والخبرات الحياتية والمؤسساتية والمجتمعية يجمع بين الطريقة الوصفية الحكائية،
والطريقة التحليلية التجريدية في الكتابة، ويستخدم الأدوات المساعدة المتاحة
كالرسوم (والتي نحتاج إلى تعلمها) والتصوير الفوتوغرافي، والتسجيل الصوتي أو تصوير
الفيديو، ووضع ذلك كله في إطاره الذي لا يجعل من تلك الأدوات إطارا حاكما بل عاملا
مساعدا.
هذه المحاولة المنهجية التي كتبتها كنت أستهدف بها مساعدة زملائنا في الأقسام
المختلفة في إسلام أون لاين على تسجيل خبراتهم الخاصة في المجالات المتنوعة، في
إطار سعينا لإعداد أدلة للعمل لكل قسم من الأقسام تقوم بنقل الخبرات العامة والخاصة
وتكرس قيمة المؤسسية في العمل، وإن كانت تلك المحاولة تصلح أيضا لتسجيل الأنواع
الأخرى من الخبرات والتجارب الفردية والمجتمعية:
توثيق الخبرات داخل المؤسسة كيف يكون؟
تتنوع الخبرات الخاصة داخل المؤسسة على أنماط مختلفة من الأنشطة والأعمال غير تلك
التي تمثل المشترك العام من أعمال الأقسام، فما بين خبرات السفر واستثماره، وإعداد
الأوراق البحثية والحضور الفعال للمؤتمرات، إلى إعداد كتب للنشر، وما بين تنظيم
الحملات وإقامة الورش، وتنشيط العلاقات الخارجية، وتوسيع شبكة المراسلين، إلى إقامة
رابطة للإعلاميين في مجال التخصص..كل تلك الخبرات المبعثرة والتي تأخذ الطابع
الفردي أحيانا، والجماعي أحيانا أخرى كيف يمكننا أن نستثمرها؟..ونحن في هذه الورقة
نحاول أن نساعدكم على أن تكتبوا تجاربكم وخبراتكم من خلال العناصر التالية:
• عنوان التجربة: مثلا (تجربة ورشة صناعة الدعاة) أو (تجربة إقامة رابطة الإعلاميين
العلميين) أو (تجربة الحضور الفعال في المؤتمرات) ..إلخ.
• قصة التجربة: يحكي فيها الشخص أو الأشخاص بشكل سردي قصة تجربتهم كيف بدأت، كيف
خطرت ببالهم فكرة التجربة، أو ماذا كان يخطر ببالهم أو يمر عليهم (مثلا ..يضايقهم
أو يعيقهم في عملهم أو يتكرر عليهم عمله ويحسون أنهم يحتاجون للمزيد من استثماره
والاستفادة منه) وجعلهم يفكرون في أن يبدعوا طريقة خاصة في حله، أو استثماره، ثم من
أين كانت نقطة البداية، وكيف سار الأمر بعد ذلك، وما هي المراحل التي مرت بها
التجربة، ثم كيف انتهت، أو ماذا وصلت إليه الآن..كل ذلك من خلال عدد كلمات ما بين
500- 1000 كلمة.
• خلاصات التجربة: يستحسن كتابتها في شكل نقاط كل نقطة تحمل فكرة واحدة أو تجيب عن
سؤال واحد من أمثال:
- كيف يمكن لمن يريد أن يقلد تلك التجربة أن يفعل؟
- أي ما هي الخطوات التي يجب أن يتبعها؟
- وما هي الأشياء الجيدة التي فعلتها وحققت نجاحا وترى أنك لو كررت التجربة ستكرر
فعلها؟
- وما هي الأخطاء التي وقعت فيها أو الأشياء التي لم تكن ناجحة بالقدر الكافي وعلى
من يريد تكرار التجربة أن يتجنبها؟ أو لو أنك إذا قدر لك أن تكررها ستتجنبها أو
ربما ترى مجرد تعديل طريقة عملها؟
- ما هي مصادر المعرفة أو المعلومات التي حصلت عليها لكي تساعدك في عملك هذا؟
- ما هو الدرس الذي استفدته أو الحكمة التي استخلصتها من خوضك لتلك التجربة؟
- كيف ترى إمكانية البناء على تجربتك تلك أو استثمارها من قبل المؤسسة أو من قبل
زملائك، أو حتى من قبلك؟
- هل أمكنك بالفعل أن تبني عليها أو تستثمرها؟
- إذا كنت فعلت ذلك فكيف؟
- وإذا لم تكن فعلت فلم؟ ما هي الأسباب أو المعوقات التي حالت دون استثمارك لتلك
الخبرة أو التجربة أو العلاقة؟
• استخدم وسائل التوثيق المساعدة: كالرسوم البيانية أو التوضيحية، أو التسجيل
الصوتي، أو التصوير الفوتوغرافي أو الفيديو وذلك فيما يضيف إلى النص إضافة كيفية
وليست إضافة كمية
• تذكر: أن هدف التوثيق هو نقل الخبرات إلى الآخرين فاجعل من وثيقتك تعليمية إلى
أقصى حد، كما يهدف التوثيق إلى تطوير أساليب العمل فاحرص على كشف سلبيات التجربة أو
الخبرة كما تحرص على كشف إيجابياتها مستحضرا أنك لو استقبلت من أمرك ما استدبرت
لفعلت كذا بدلا من كذا..بما يعين السائرين في الطريق بعدك على تجنب العثرات وتجاوز
العقبات واستخراج الأسس الحاكمة للفعل في مجال الخبرة أو التجربة التي توثقها.
اقرأ أيضا:
•
اجترار ثقافي لوصف مصر
•
صناعة الحياة..أطر لتحديد الرؤية
•
تجربة بنك الفقراء في بنجلاديش