قادة العالم واضطرابات الشخصية(1) ::
الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 24/09/2005
في
مؤتمر الطب النفسي المنعقد بالقاهرة وبالتحديد يوم
14/9/2005,
كان أحد حكماء الطب النفسي العالميين وهو البروفيسور "أوتو
و. ستينفيلد" (Otto W. Stenfeldt) يلقي كلمته عن حقوق المريض وحقوق الإنسان,
وكان يقرأ كلمته من أوراق مكتوبة, ولكنه حين وصل إلى نقطة معينة رفع عينيه عن
أوراقه ونظر إلى الحاضرين الذين كانوا يملئون قاعة خوفو بمركز القاهرة الدولي
للمؤتمرات, وبدأ ينبه بشكل خاص إلى خطر قادم ألا وهو انتشار اضطرابات الشخصية في
المجتمعات ربما بشكل وبائي أكثر من معدلاتها المعروفة والمتوقعة في المجتمعات
البشرية على مر العصور, والسبب في ذلك يرجع في رأيه إلى أن قيادات العالم لم يعودوا
قدوة للناس بشكل عام وللصغار والشباب بشكل خاص, حيث أسقطت هذه القيادات من حساباتها
الكثير من القيم الأخلاقية واختارت مسارات تتسم أغلبها بالكذب والخداع والنفعية
والتحايل والبطش والسيطرة والاستغلال والابتزاز (راجع من
فضلك تصريحات وسلوكيات معظم قادة العالم في السنوات الأخيرة), وبالتالي
نشروا قيما سلبية بشكل هائل عبر وسائل الإعلام المسلطة عليهم ليل نهار, وأصبحت هذه
القيم غير مستنكرة من الناس بسبب شيوعها على هذه المستويات القيادية (راجع
قبول الناس لانحرافات كلينتون الجنسية وقبولهم لكذب بوش – الأب والابن – في حرب
الخليج وقبولهم لخداعات توني بلير ونجاحه ونجاح بوش الابن بعد كل هذا, وتواطؤ وسكوت
حكام الصين واليابان).
وقد كان الناس قبل هذا في المجتمع الغربي يسقطون أي زعيم يكذب عليهم أو يخدعهم,
ولكن يبدو أن الأمور تغيرت وأن الفساد الأخلاقي يعم, ويصبح مألوفا وأحيانا مبررا أو
مقبولا طالما يحقق مصالح من يقومون به .
ثم انتقل العالم الكبير إلى نقاط أخرى في كلمته, ولكنني رحت أسترسل في
تتبعاتي لهذه النقطة الخطيرة في كلمته, والتي كنت أستشعرها ولكنها لم تكن قد تبلورت
إلى هذا الحد, تلك الظاهرة التي لو أخذناها على محمل الجد (
ولا بد أن نأخذها كذلك ) لعرفنا أنها تجر البشرية كلها إلى هاوية سحيقة .
وبعد
ذلك بيومين بثت وكالات الأنباء من لندن ( أهرام الجمعة
16/9/2005 ) نتيجة استطلاع عالمي أجراه معهد جالوب لحساب إذاعة " بي بي
سي " وشمل 50 ألف شخص في 68 دولة, وكانت نتيجة الاستطلاع أن
ثلثي سكان العالم تقريبا يعتقدون أن دولهم لا
تحكم بإرادة شعوبها وأن 11% فقط يثقون في رجال
السياسة . وذكر الاستطلاع أن غالبية الشعوب تود أن يحكمها واحد من فئة المفكرين مثل
الكتّاب والعلماء, وحصلت هذه الفئة على 35% من
الأصوات (تذكر فكرة ترشيح الدكتور أحمد زويل – صاحب نوبل
لانتخابات الرئاسة فى مصر, وتولى عبد الكلام – العالم الفيزيائي الشهير- لأمور
السلطة في الهند), بينما قال 25% أنهم يودون
أن يحكمهم زعماء دينيون (لاحظ أيضا تدنى الثقة فى الزعماء
الدينيين)، وكشف الاستطلاع عن أن 48% من الناس لا يصدقون أن الانتخابات في
دولهم تجري بطريقة حرة ونزيهة .
وإذا تأملنا هذه الأرقام عرفنا إلى أي مدى وصلت الأمور حيث أن 89%
من الناس لا يثقون في رجال السياسة فما الذي أدى إلى هذه النتيجة المفزعة
؟ .... يكفي أن تستحضر صورة أي قائد أو زعيم أو رئيس أو حاكم في أي بلد
من بلدان العالم (المتقدم أو المتأخر مع استثناءات قليلة)
وتبدأ في استعراض تاريخه وقراراته وسلوكياته ثم تحاول عرض ذلك على ميزان قيمي سليم,
فستفاجأ بوجود كم هائل من القيم السلبية ظاهرة وباطنة, وأخطر ما في الأمر أن هذه
القيم السلبية مغلفة بغشاء من الكذب والإدعاء والزيف تضاعف من خطورتها وبشاعتها
وسلبيتها . ويكفى أن تراجع مواقف القادة الأمريكيين والبريطانيين واليابانيين
والصينيين والعرب قبل وأثناء غزو العراق لترى إلى أي مدى وصل الوضع الأخلاقي
والسلوكي بوجه عام لدى هؤلاء, فهذا يتحدث عن وجود أسلحة لا دليل على وجودها, ويتحدث
عن الشرعية وينتهكها, ويتشدق بالعدل ويدوسه تحت قدميه, ويتحدث عن المبادئ ويكيل
بمكيالين أو ألف مكيال, ويتحدث عن السلام وهو يشعل النار فى كل مكان فى العالم,
ويتحدث عن نشر الديموقراطية فى دول العالم الثالث وهو يدعم الاستبداد ويمارسه
عالميا ليل نهار, وذاك يتحدث عن رفاهية شعبه المزعومة في حين يقاسي شعبه شظف العيش
ويتحدث عن الحرية وهو يحتجز الآلاف خلف جدران سجونه ومعتقلاته, ويعد بالرفاهية فلا
يرى الناس إلا مزيدا من التعاسة والشقاء.
وهذا يتحدث عن الصدق والنزاهة والشفافية والعدل
واحترام كرامة الإنسان بينما كل أعماله الظاهرة والباطنة تطفح بالكذب
والتزوير والغموض والظلم وإهدار كرامة الإنسان . وذاك زعيم غريب الأطوار والأفكار
يتحدث ليل نهار عن ترك الأمور للشعب بالكامل في حين أنه يقبض بيد من حديد على عنق
شعبه منذ ما يقرب من أربعين سنة, وقد ألقى بظلال تشوهاته وشطحاته النفسية على كثير
من مناحي الحياة في بلده, وأدت مغامراته السياسية الطائشة إلى إفقار شعبه وإضاعة
ثرواته, وذاك يستفيد من فساد النظام العالمي في تنمية قدراته الصناعية وتحقيق أكبر
العائدات الاقتصادية ولتذهب الأخلاق إلى الجحيم .
وهذه هيئة دولية المفترض أنها محايدة ومحترمة وتعمل على مستوى إنساني عام كي
تكون بمثابة صمام أمان يحمى العالم من نزوات وطيش بعض أفراده, ومع هذا نجدها وقد
وقعت فريسة في أيدي القوة الأمريكية الغاشمة, تتخلى عن حياديتها وموضوعيتها وتصبح
أداة للبطش والظلم وانتهاك سيادة الضعفاء, بعد أن كانت ملاذا للضعفاء ومستقرا
للشرعية . وحين تسقط الشرعية الدولية على أيدي حكام أمريكا وتوابعها فهل نطالب بعد
ذلك مجموعات العنف والإرهاب بأن يلتزموا بتلك الشرعية ؟
وهذا رئيس تحرير صحيفة باهت الملامح متبلد
المشاعر, لا طعم له ولا لون ولا رائحة, يكتب منذ سنوات طويلة مقالا افتتاحيا بجريدة
مهمة (أو كانت مهمة) كلمات تقرأها فتكتشف أنك لم تقرأ شيئا, فهدفه النهائي هو تمجيد
الحاكم الفرد الأوحد وتبرير أخطائه وتحويلها إلى إنجازات عظيمة .
وذاك رئيس وزراء ذو ابتسامة لا معنى لها ولا مبرر, يبدو متفائلا في سذاجة طفولية,
ويستعرض أرقاما توحي بأن عصر الرخاء والازدهار قد حل على البلاد والعباد, بينما
الناس يعيشون في ضنك شديد يلتهمهم الخوف والجهل والمرض في كل مكان, وتمتلئ بهم
السجون والمعتقلات ومستشفيات الكبد والكلى والسرطان.
وهذا مدير مصلحة قد وعى الدرس من الكبار فاستخدم نصف موظفيه (أسوأهم)
ليتجسسوا ويكتبوا له التقارير عن النصف الآخر (المبعدين,
المحبطين, الساخطين,
المحرومين من الشرعية,
أعداء الوطن والاستقرار).
وذاك رئيس مجلس إدارة
شركة متعددة الجنسيات تعمل في صناعة الدواء وتسويقه, قد انشغل معظم وقته
بمحاولات استرضاء وزراء الصحة وتابعيهم في الدول المختلفة للسماح بدخول الدواء بسعر
مرتفع وانتشاره في هذه الدول بصرف النظر عن فاعليته أو أضراره, وهو يستخدم في سبيل
ذلك كل الوسائل غير النظيفة من رشاوى وحفلات وإكراميات وتسهيلات .
لا نريد أن نسترسل أكثر من ذلك في نماذج الفساد والإفساد فى المجتمعات
البشرية, ونترك لذاكرة القارئ وفطنته وخبراته استكمال باقي النماذج على مهل . ولكن
ربما يقول قائل : وما الغريب في هذا ؟ أليست تلك طبيعة البشر ؟ أليست هذه النماذج
موجودة في المجتمعات البشرية على مر العصور ؟ ..... وهذا صحيح .... لكن الغريب
والجديد في هذه الحقبة هو سعة الانتشار والتغلغل الوبائي لهذه النماذج على كافة
المستويات خاصة في مراكز القيادة على مستوى العالم المتقدم والمتأخر, وفي نفس الوقت
قدرة وتوحش الآلة الإعلامية الجبارة في تقديم هذه النماذج ليل نهار للعالم على أنهم
قادة السياسة والرأي والفكر والصناعة, وأن ما يتبنونه من قيم هي قيم التفوق والنجاح
والتأثير . والنتيجة المتوقعة والحاصلة هي توحد كثير من الناس (حتى
المتضررين من سلوك هذه النخبة) مع هذه القيم وتبنيها, وهو ما نسميه التوحد
مع المعتدى, حيث نجد الشعوب المظلومة والمنهوبة والمنتهكة في مرحلة من المراحل تفقد
استنكارها لما يحدث لها وتبدأ في تبنى قيم من أهدر كرامتها وأضاع حقوقها وسجن
أبناءها فنجدهم مع كل هذا يحملون صورة ويعلقونها في كل مكان ويهتفون بحياته (والتي
تعني ضياع حياتهم) ويعطونه أصواتهم في الانتخابات,وهذه الحيلة الدفاعية
النفسية (التوحد مع المعتدي) تحمي المعتدى عليهم (بشكل
وهمي غير ناضج) من الشعور بأنهم ضحايا للمعتدى حيث أصبحوا جميعا في صف واحد
(كما يتخيلون).
وهذه العملية النفسية حين تحدث لأي شعب فهي كارثة كبرى حيث يفتقدون الرؤية النقدية
للتشوهات السلوكية في القيادة وفي المجتمع ومن هنا تصبح الإفاقة بعيدة المنال
وتتوقف على قدرة قلة من نخبة المثقفين وأصحاب الرأي قد نجوا من حالة الاستلاب
والتوحد مع المعتدي (المستبد) يقودون حركة إصلاح ربما تنجح أو تفشل حسب ظروف
المجتمع الذي يعيشون فيه, وحسب قدرتهم على المثابرة ودفع ضريبة التغيير .
وحين يسود الفساد ويتغلغل, يصبح مألوفا ويصبح هو القاعدة التي تحكم غالبية سلوكيات
الناس, وفي هذا الوضع تقل أو تدفن أو تتوارى أو تضعف أو تستبعد كل القيادات
الأخلاقية المتميزة, ويعيش أصحابها حالة من العزلة والانكماش والاستبعاد والاستضعاف
والاغتراب فلا يراهم الناس ولا يسمعون لهم صوت, وهذه هي الحال التي وصل إليها قوم
لوط حين قالوا عن المؤمنين الطاهرين منهم : " أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس
يتطهرون ", فقد أصبح التطهر في هذا المجتمع الموبوء جريمة تستحق الإبعاد .
والمجتمعات التي على هذه الشاكلة تعرفها بوجود هيئة أو مؤسسة وظيفتها التحري حول
ميول واتجاهات المرشحين للوظائف (بعيدا عن مؤهلاتهم العلمية
أو مهاراتهم أو قدراتهم الوظيفية), وتصبح الوظائف القيادية مقصورة على من
تنطبق عليهم مواصفات هذا المجتمع, ومع مرور الوقت واستمرار عملية الانتقاء تفرغ
المراكز القيادية العليا والمتوسطة من العناصر النظيفة أو الأخلاقية أو الفاعلة
وتقتصر على المستسلمين والموافقين والمنبطحين والفاسدين, وهكذا تقوى منظومة الفساد
وتتسع دوائره لكي تحمي بعضها بعضا, وتكون النتيجة النهائية سيادة سمات اضطرابات
الشخصية في عدد هائل من أفراد المجتمع خاصة الصفات السيكوباتية النفعية والانتهازية
(الكذب,
التحايل, الخداع,
النفاق, السرقة,
الابتزاز, التضليل,
التزييف) .
اقرأ أيضا:
سيكولوجية المنافق، الضلالي .. والبلطجي
نحو حركة اجتماعية جديدة
إبداعات الخريف عند نجيب محفوظ
الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 24/09/2005
|
|