قراءة في شخصية زويل(2) ::
الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 19/10/2005
قراءة في شخصية زويل(1)
وللزمن في وعي زويل وضع خاص يرتبط بشخصيته, فلديه إحساس حاد بالزمن يجعله يحرص على
أن لا تضيع منه لحظة, وهذا يتضح في عباراته التي يختارها بعناية بحيث تؤدي ما يريده
بشكل موجز ومباشر وسريع دون أي إطناب أو ترهل يستهلك الوقت بلا فائدة, ويتضح في
قوله: "وكنت تواقا ومتلهفا لمواصلة القراءة, وحرصت على أن لا يضيع جانب من وقتي",
كما يتضح بشكل عملي في مسيرته كلها حيث كانت إنجازاته كلها مبكرة فقد حصل عل جائزة
الملك فيصل العالمية في سن صغير نسبيا ثم جائزة بنيامين فرانكلين ثم توج ذلك بجائزة
نوبل, كل هذا وغيره كثير وهو لم يتجاوز حين حصوله على نوبل الثانية والخمسين من
عمره ومن يتابع عدد ونوعية أبحاثه وكتبه ونشاطاته ليتعجب من كثرتها وجودتها وتنوعها
بشكل مذهل, ولا يكون هذا إلا من خلال إحساس دقيق وحاد جدا بالزمن, وربما يفسر هذا
بحثه الأهم عن الفيمتوثانية تلك الوحدة الزمنية الأصغر التي أضافها إلى العلم ورأى
من خلالها حركة الجزيئات التي لم تكن ترى في ظل وحدات زمنية أطول. ويؤكد أهمية
الزمن لديه اختياره لعنوان كتابه (سيرته الذاتية):
"رحلة عبر الزمن".
وزويل يتمتع بقدر هائل من الذكاء الوجداني، وقد لا نبالغ إذا قلنا أن ذكاءه
الوجداني يكمن وراء الكثير من نجاحه، فلديه رصيد هائل من المشاعر الحية الجياشة،
ولديه طاقة هائلة على أن يـُحِب ويُحَب،ولديه دافعية عالية للعمل والاستكشاف، ولديه
قدرة عالية على تحمل الإحباط، ولديه قدرة على قراءة مشاعر محدثه والتجاوب معها،
ولديه قدرة على الإحساس بالآخر وباحتياجاته وعلى التعاطف معها.
وهو لا يتصرف فقط كعالم إنما يتصرف كنجم متألق يحافظ على نجوميته وعلى تألقه، فهو
يجيد عرض نفسه علمياً وإعلامياً وشخصياً، وهذا قد أعطاه شهرة وتألقا لم يحظ بها
علماء كثيرون حصلوا على نفس الجائزة وعاشوا في ظل المعامل والمدرجات في جامعاتهم أو
معاهدهم العلمية.
وهذه النجومية تجعله يتعامل مع الإعلام بذكاء وبحذر فهو يبدي ما
يرى أنه يخدم هذه النجومية ويخفي ما يرى أنه ربما يؤثر سلبياً عليها، فمثلاً هو لا
يحب الاقتراب من خصوصياته (خاصة زيجاته وأمه)، فمن الغريب أن أمه لم يرها أحد على
شاشات التليفزيون تتحدث عن طفولة ابنها وعن ظروف حياته وحياتها رغم أنها-
كما ذكر-
شخصية محورية في حياته، كذلك لم تظهر زوجته الأولى أو الثانية لتحدثنا عن صورته
كزوج، ولم تظهر بناته أو أبناؤه ليتحدثوا عن زويل الأب، تلك الجوانب التي ربما لا
تكون على نفس المستوى العلمي الذي وصل به إلى نوبل ربما لا يحب أن تظهر للناس بما
فيها من سلبيات وإيجابيات (شأن جميع البشر) لكي يحافظ على صورة ذهنية وعلمية
وإعلامية خاصة ترسخت في وجدان الناس عنه، وهذا ليس مما يذم أو يمدح وإنما يدخل في
باب الخيارات الشخصية والحسابات الاجتماعية, وإن كان فيه بعض الحساسية غير المبررة
فالشخصيات القيادية في أي مجال كثيرا ما تعطي خبرتها بحلوها ومرها للأجيال الجديدة
للاستفادة منها, أما زويل فهو يحرص على ظهور مزاياه فقط للناس ويحرص بشدة على إخفاء
أي نقطة ضعف أو أي أخطاء في مسيرته وهذا يجعلنا نتحدث فقط عن نصف صورته التي نراها،
ولدينا أمثلة كثيرة من مشاهير ونجوم في العلم والفن والأدب تحدثوا بشجاعة في سيرتهم
الذاتية عن جوانب ضعفهم وأخطائهم ومعاناتهم ولم ينتقص هذا من صورتهم وتألقهم بل
زادهم حبا وتقديرا وعمقا في وعي الناس.
وحين أبرزت الأستاذة منى الشاذلي التركيبة الأسرية في أن زويل هو الولد الوحيد على
ثلاث بنات، فهذا يوضح جانب هام في النشأة يترك أثرا هائلا بعد ذلك, فهذا الوضع يعطي
تميزا للولد (الوحيد وسط أخوات) فيشعر باهتمام كبير من الأم ومن سائر من حوله، ذلك
الاهتمام الذي يجعله فرحاً بذاته وفخوراً بها، وهذا الفرح والاهتمام والولع بالذات
قد يأخذ منحى سلبياًً فينشأ هذا الولد الوحيد مدللاً مرفهاً، وقد يأخذ منحى
إيجابياً حيث يعطي لصاحبه رغبة في الحفاظ على صورة ذاته المميزة في بقية مراحل عمره
فيسعى إلى الإنجاز والتميز لكي يظل محتفظاً بالحفاوة والترحيب ويضع ذاته التي يحبها
في الوضع المناسب كما يراه ويراها. وهذا ربما نسميه نوع من النرجسية الإيجابية، وهي
شعور عالٍ بالذات مع سعي حقيقي لوضعها في أفضل المراتب من خلال إنجاز أصيل يعلي من
قيمة هذه الذات واحترامها وتقديرها. وهذا الشعور العالي بالذات نجده في أغلب
الناجحين والمتألقين، وربما يكون هذا الشعور أحد أو أهم دوافعهم للتميز والتفوق،
فهم لا يحتملون أن يكونوا في غمار الناس، بل يسعون دائما للإنجاز والتألق والتفوق،
وهذا بالطبع يختلف عن حالة النرجسية الفارغة والتي لا تقوم على إنجازات حقيقية
أصيلة وإنما تقوم على وهم في عقل صاحبها بالتفرد وعلو القيمة. وهو يصف هذا الجانب
من نفسه بقوله: "وعاد السؤال الذي ألح على خاطري أثناء ارتقائي درجات السلم في أول
يوم لي في جامعة الإسكندرية ... هل لي أن أكون يوما ما واحدا من هؤلاء العلماء
البارزين؟ وإن المرأ ليعجب في الوقت الحاضر من مدى أو درجة الجنون التي كنت فيها أو
عليها وقتذاك وفي تلك المرحلة المبكرة من العمر .. أو أنني لم أشغل فكري وبالي
بالثروة والمال أو اقتناء سيارة فاخرة أو ما إلى ذلك من متع الحياة المعهودة, ولكن
الذي شغل فكري واستولى على خيالي هو أن أحصل العلم وأن أتبوأ مركزا في دنياه,
والمرء دائما حيث يضع نفسه".
والتواضع لدى زويل - رغم ارتفاع إحساسه بذاته - هو جزء من التميز لديه، فإدراكه
لقيمة التواضع يجعله يتحلى به مثلما يحرص على التحلي بالبساطة والتلقائية والمرح،
فهو في النهاية يبني منظومة شخصية يحرص جيداً على جمالها وتنوعها وتألقها وتزيينها
بكل ما يمتدح من صفات وإخفاء كل ما ينتقد أو يذم .
ثم غاصت المحاورة في أعماق بحار طموحاته وطارت في سماء تطلعاته وخرجت بالكثير، فهو
حريص على مقابلة الزعماء والناجحين على المستوى العلمي والسياسي والاجتماعي وحريص
على التقاط الصور التذكارية مع هذه القمم، وباب طموحاته مفتوح على مصراعيه، وهو
حريص على تركه للاختيارات مفتوحة، فلا ينفي حبه للعلم ورغبته في التبتل في محرابه،
ولا ينفي في ذات الوقت خيارات أخرى سياسية أو غيرها قد يختارها الشخص في ظروف
معينة. ولكن اقترابه من عالم السياسة والثقافة قد أصابه بصدمات فهو كعالم يميل إلى
الحقيقة وإلى الموضوعية والصدق, ولكن عالم السياسة والثقافة في مصر في الوقت الحالي
يبدو أنه ليس على هذا المستوى لذلك نراه يعبر في ألم عن تجربته مع المسئولين في
موضوع إنشاء الجامعة التكنولوجية على أرض مصر وما حدث فيه من مراوغات لا تصلح في
المجال العلمي, ويعبر أيضا بألم عما وجده من ازدواجية الخطاب لدى نخبة المثقفين في
مصر حيث يسمع منهم كلاما في الجلسات الخاصة ثم يراهم يكتبون كلاما آخر في صحفهم
ومجلاتهم وكتبهم . وهو يريد أن يساهم في نهضة بلده التي يحبها ويتعجب كيف ببلد مثل
مصر لم تستطع أن تحقق ما حققته ماليزيا أو الهند, ويتأكد له أن هذين البلدين
يتمتعان بديموقراطية حقيقية, وكأنه بأدب العالم يريد أن يوجه الأنظار إلى أصل الداء
الذي يكمن وراء تخلف هذا البلد العظيم تاريخا وحضارة.
وهو يريد أن يرى الدنيا (ويرى نفسه أيضا) في وجهها الجميل المعطاء المتفائل ولا يحب
التركيز على السلبيات والأخطاء والنكبات، وهذه دائما رؤية المبدع النامي الناجح
والمتطور حيث يتجاوز الحفر والصخور في سبيل استكمال رحلة الصعود إلى أعلى الجبل وهو
يرنو بعينيه نحو السماء الصافية ويوجه أنفه لاستنشاق النسيم الصافي من الطبقات
الأعلى ولا يبالي بما تحت قدميه من حصى وهوام يعرف مؤكداً أنه سيتجاوزها في حالة
الاستمرار في الصعود. وقد عبر عن هذا بالمقارنة بين الوضع في مصر حيث الميل للتركيز
على السلبيات والعقبات وعلى محاولات إعاقة النجاح والناجحين، مقارنة بالوضع في
أمريكا حيث الحفاوة بالنجاح والناجحين وإتاحة كل الفرص للصعود.
أما عن الجانب العاطفي في حياته فقد حاول التهرب منه بالعودة إلى سؤال مبكر في
المقابلة يعود بالحديث إلى موضوعات علمية وعامة.وعندما عاودت المحاورة سؤاله مع كل
ما لديها من مهارات لتخفيف قلقه تجاه هذه النقطة الإنسانية في شخصيته، رغم كل هذا
وجدناه يحرص على إخفاء هذا الجانب ويغطيه بعبارات عامة، وربما يكون هذا بسبب جراح
أليمة لا يريد أن يفتحها أو بسبب فشل لا يريد به أن يكون بقعة في صورته التي يحرص
على جمالها وتألقها، أو يكون بسبب إنكار لجانب يخشى التورط فيه حديثاً أو ممارسة.
المهم أن حساسية زويل تجاه خصوصياته يعكس الحرص على ظهور الذات الاجتماعية والذات
المثالية مع الاحتفاظ بالذات الحقيقية بعيدا عن أعين الناس. وربما يعذره البعض في
ذلك, فهناك بعض الناس لا هم لهم إلا البحث عن زلات الناجحين لأن وجود تلك الزلات أو
مناطق القصور أو الضعف يريح أنفسهم الغيورة من النجاح حيث تتشوه صورة الناجح في
أذهانهم فيسهل عليهم قبولهم لذواتهم. وهم بهذا يحرمون الشخصيات الناجحة حقها من
الضعف الإنساني ومن الزلات الحتمية ومن جوانب القصور الطبيعية، وفي نفس الوقت
يحرمون أنفسهم من استشعار التميز والنجاح على الرغم من نقاط الضعف وجوانب القصور.
وأخيرا فهذه قصة نجاح حقيقية تستحق تسليط الضوء عليها والإشادة بها لتكون نموذجا
للأجيال الجديدة التي تعيش في عالم يفتقد للقدوة في كل المجالات, فينظرون فلا يجدون
من حولهم إلا نماذج فاسدة ومشوهة, وهنا تصبح النماذج المضيئة في العلم أو السياسة
أو الدين بمثابة وسائل إنقاذ للبشرية حتى لا تغوص في أعماق الفساد والتدهور, ليس
هذا فقط بل إن هذه النماذج هي بمثابة قوة الدفع لأعلى لم تتوق أنفسهم لمعالي الأمور
وجمال الوجود وعظمته.
الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 19/10/2005
|
|