هل فعلها المجنون في بني مزار ::
الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 08/01/2006
ربما
يكون أمر تسوية جريمة بني مزار البشعة التي راح ضحيتها عشرة أشخاص شيئا مطلوبا
لطمأنة الناس وتهدئة النفوس وإعطاء الفرصة لهذا الجرح المؤلم كي يلتئم, فاستمرار
الحيرة والغموض ربما يؤديان إلى تداعيات خطرة خاصة إذا ذهبت الظنون في اتجاهات
العنف القبلي أو العشائري أو العائلي أو الطائفي, هنا يصبح الأمر كارثيا لأن حجم
الغضب والانتقام سيكون متناسبا, بل ربما يكون متجاوزا, لبشاعة الجريمة وما صاحبها
من تقطيع وتمثيل بالجثث.
وقد يكون هذا هو السبب في التعجل بتقديم أحد المرضى بالفصام في القرية على
أنه الفاعل, وهذا حل مريح لجميع الأطراف, فبالنسبة للسلطات الأمنية يخف عنها الضغط
الفوقي المتسائل عن السبب والفاعل, ويخف أيضا ضغط الرأي العام القلق والمترقب في
هلع, أما بالنسبة لأهل الضحايا فهم سيحتسبون الأمر عند الله ولا يفكرون في القصاص
حيث أن الفاعل مجنونا وليس على المجنون حرج, وبالنسبة لأسرة المجنون فقد حانت
الفرصة أمام ابنهم لتلقي العلاج في مستشفى نفسي كبير تحت رعاية السلطات المختصة
ويخف ضغط مرضه عنهم, ربما يواجهون بعض المشاكل من نظرة الناس إليهم على أنهم ذوي
القاتل ولكن هذا يمكن أن يتلاشى مع الوقت فهم ليس لهم دخل فيما حدث
.
إذن هناك دوافع قوية لدى الجميع (شعورية وغير
شعورية) لإلصاق هذه التهمة بشخص مجنون يحمل وزر ما
حدث, ويقي الجميع شر تداعيات هذه الجريمة البشعة, وفي النهاية لن يواجه هذا الشخص
المريض عقوبة قاسية مثل الإعدام, وإنما سيحال إلى أحد المستشفيات العقلية للعلاج,
وهكذا يغلق هذا الملف مع أقل قدر من الخسائر, أما الضحايا فهم في ذمة الله يعوضهم
ويعوض ذويهم عما حدث .
ولكن هل هذا هو الحل الحقيقي أو الأمثل لمثل هذه الجريمة, وهل يستطيع فعلا
شخص مصاب بالفصام أن يقوم بهذا الفعل على الطريقة التي حدث بها وبهذا التخطيط
المحكم وحده في ثلاث بيوت متفرقة وتجاه عشرة أشخاص لم يقاومه أحد منهم
؟؟؟؟؟؟؟
إن الذي يتعامل مع حالات الفصام أو حالات
الجنون بوجه عام يصعب عليه تصديق هذا الاحتمال أو قبوله بأي درجة من الطمأنينة أو
اليقين, فمريض الفصام لديه اضطراب تركيبي في المخ ولديه اضطراب على مستوى الناقلات
العصبية, وهذه الاضطرابات تؤثر في قدرته على التخطيط والتنظيم المحكم, وتؤثر أيضا
في إرادته, وهذه التأثيرات تجعل لجريمة الفصامي خصائص معينة تتنافى مع ما هو قائم
في جريمة بني مزار .
فالفصامي قد يرتكب جريمة عنف انطلاقا من معتقد خاطئ في عقله كشعور بالاضطهاد أو
الظلم أو الخطر من أحد, والفصامي يمارس العنف بدم بارد نتيجة تدهور مشاعره, ولكنه
مع هذا لا يملك هذه القدرة الفائقة للتخطيط والتنفيذ في أكثر من مكان وأكثر من شخص
دون أن يترك أثرا يدل عليه, بل الأكثر توقعا منه أن تكون جريمته اندفاعية عشوائية
وغير منظمة, وتكون رد فعل مباشر أو شبه مباشر على استثارة أو استفزاز من أحد ,
وتكون موجهة –في غالب الأحيان– لأشخاص لهم علاقة قريبة بالمريض كزوجته
(إن اعتقد فيها الخيانة)
أو أحد أقاربه (إن اعتقد أنه متآمر عليه)
أو أحد زملائه القريبين (إن اعتقد أنه يخطط لإيذائه),
أما أن يقوم بهذا الفعل المركب شديد التعقيد تجاه هذا العدد من الناس الذين لا
تربطهم رابطة ففيهم رجال ونساء وأطفال صغار, فهذا ما يصعب تصديقه من الناحية
العلمية والواقعية.
وقد يقول قائل: إن عملية القتل بهذه القسوة والبشاعة وعمليات التقطيع
والتمثيل, وقتل الحمام تشير إلى درجة عالية من القسوة المصحوبة بالبلادة الشعورية
المصحوبة بالغرابة وكل ذلك يشير إلى فعل مجنون. وربما يكون شكل مسرح الجريمة هو
الذي أوحى بفكرة أن يكون مجنون قد ارتكبها, ولكن مع هذا فهناك احتمال أن يكون مرتكب
الجريمة قد قصد هذا ليشتت انتباه المحققين ويضعهم في حيرة, أو ليوجه أصابع الاتهام
لوجهة معينة.
أما بشاعة الجريمة وقسوتها فيمكن فهمها بدون افتراض جنون
القائم بها, فقد اعتدنا في السنوات الأخيرة على صور بشعة للقتل من أشخاص
ليسوا بمرضى نفسيين ومع هذا مارسوا العنف بوحشية لا يتحملها عامة الناس, وربما يكون
السبب في ذلك كثرة التعرض لمشاهد العنف الدموية في الفضائيات وعلى الإنترنت, وفي
الألعاب الإلكترونية, حيث يقضي الشخص وقتا طويلا يشاهد العنف والدم والتقطيع أو
يمارسه هو من خلال ألعاب الفيديو وربما يستمتع بمنظر الضحايا وهم يتساقطون تحت
ضرباته ثم ينهي اللعبة وهو شديد السعادة بما حققه من قتل وإبادة , ومع تكرار التعرض
لهذه المشاهد تقل الحساسية تجاه القتل والدم والأشلاء , وتقل الحساسية تجاه ما
يعانيه الضحية . يضاف إلى ذلك الإحباطات الشديدة التي يعانيها كثير من الناس فتجعل
نفوسهم مليئة بشحنات الغضب والقسوة والعدوان .
وهناك أشخاص لديهم ميول سادية (أي يستمتعون
بعذاب الآخرين) دون أن يكونوا مرضى بالمعنى المعروف,
وهناك شخصيات معادية للمجتمع يمكنها أن تقتل بدم بارد لأي سبب من الأسباب, وهناك من
يحملون في رؤوسهم أفكارا انتقامية شديدة تؤهلهم لدرجات عالية من العنف والتدمير. أي
أننا لسنا في حاجة لافتراض الجنون فيمن يقوم بفعل مثل هذا , بل إن دقة التخطيط
والتنفيذ بهذا الشكل تستبعد المجنون, فالمجنون ليس حريصا على حياته بهذه الدرجة
التي يتقن فيها كل ما يفعل حتى لا ينتبه إليه أحد, فهو يقتل اندفاعا دون حساب
للعواقب, وهو لا يخطط بهذه الدقة لينجو من العقاب فليس لديه هذا القدر من الحذر
والحرص على الحياة الذي يتميز به غير المرضى .
ولا ننسى أن تسوية الأمر بهذا الشكل ربما يؤدي على المدى
القصير إلى نوع من التهدئة وتجنب بعض الاحتمالات المرعبة في حالة معرفة
القاتل الحقيقي, ولكن على المدى البعيد لن تختفي الحقيقة للأبد, إضافة إلى أن
الاندفاع في اتجاه اتهام المجنون (كحل أسهل) سوف يعطي الفرصة للمجرمين الحقيقيين
للفرار من قبضة القانون.
ونحن هنا نقول مجرمين لأن طبيعة الجريمة بهذا الشكل المتوسع والمتزامن يعطي
انطباعا حقيقيا بأن عدة أفراد قد قاموا بها, وبالطبع يصبح من السذاجة التفكير بأن
هؤلاء الأشخاص جميعهم كانوا مجانين, أو أن مجنونا قادهم وخطط لهم .
واقرأ أيضا:
حادث "عزبة
شمس الدين" /
لغز مذبحه بني مزار /
تعتعة نفسية عندك فصام يعني إيه؟ /
تعتعة نفسية: عندك فصام يعني إيه(2) /
هل الفصام ..... هو ازدواج الشخصية ؟!!! /
الفصام ذلك المعلوم ...... المجهول /
الفُصام(schizophrenia) بين العلم والسينما /
قراءة في شخصية زويل(2) /
إبداعات الخريف عند نجيب محفوظ(2) /
قادة العالم واضطرابات الشخصية(2) /
الزوج المسافر(4)
الكاتب: د.محمد المهدي
نشرت على الموقع بتاريخ: 08/01/2006
|
|